Connect with us

ثقافة وفن

زهران القاسمي: أنا خائف لأن «البوكر» وضعتني تحت المجهر

لا يدل سمت الكاتب الروائي زهران القاسمي، الأميل للهدوء والصوت المُهذّب، إلى أنه يعتملُ في صدره كل هذا البركان

لا يدل سمت الكاتب الروائي زهران القاسمي، الأميل للهدوء والصوت المُهذّب، إلى أنه يعتملُ في صدره كل هذا البركان السردي والشعري، فالمخيال القروي لم يبت الصلة بالمحضن الأول العامر بالحكاية الشعبية والأسطورة والتنظيم الاجتماعي المحكوم بأعراف تضيق وتتسع بحسب ظروف الزمان والمكان، وبما أنه ضنينٌ في فتح مغاليق النفس والروح والذاكرة، ومقتصد في كلامه، استبسلتُ في الظفر ببعض الحقائق، واستنطاقها من براثن المجاز، وهنا حصيلة ما خرجنا به في إحدى صباحات الباحة، التي كان «البوكري العماني الأول» ضيفاً عليها..

• ماذا عن البيئة الأولى؟

•• أنا من أسرة محبة للقراءة، كانت عند والدي مكتبة منزلية، كونه قارئاً متمرّساً، وعاشقاً للشِّعر، وكنت مغرماً بالقصيدة الكلاسيكية، وألف ليلة، وتأثرتُ بكتاب (حياة الحيوان الكبرى) للدميري، وفي فضاء شعري تأسست الذائقة مبكراً.

• ما مهنة العائلة؟

•• نحن بالأصل صاغة ذهب وفضة، وكانت نقوش أسلافي مميزة، لما فيها من الإبداع، بحكم الرؤية الذهنية، ومن خلال متابعتي للصياغة للخواتم الفضية، وتلبيس العصي والخناجر، استوعبت أن الحياة فنّ وإلهام.

• ألم تستهوك المهنة الجديّة؟

•• عندما كبرت اندثرت المهنة الأصلية، وأغرت الهجرة للخليج للعمل في الزراعة والبناء البعض، فانصرفوا لتحصيل وتحسين المعيشة، كون الصياغة لم تعد توفّر لقمة العيش، فهُجرت الصياغة، فانتقل البعض لشركات النفط، والزراعة في بلدان عدة.

• هل أنت ابن أسرة كادحة؟•• كل القرويين كادحون، وتذوب المسميات في ظل التقارب المعيشي بين الأفراد والعائلات، بما في ذلك شيخ القبيلة، الذي يحمل أدوات الزراعة وينطلق كل صباح للحقل ليكدح ويشتغل بيده، فلا طبقية في القرية، ولا تمايزات.

• توقعتُ أن اختيار الكتابة كان ردة فعل على المستوى المعيشي، ما يعني رد الاعتبار للعائلة..

•• لا أعتقد أني وضعتُ هذا الاعتبار في ذهني، فالمنطلق للكتابة بدأ من رؤية جمالية، وأعتز بأني كادح وما زلتُ إلى الآن أكدح، وعندي مزرعة أعمل فيها بنفسي، وأيضاً مربّي نحل، وأتجوّل في الجبال بحثاً عن العسل البرّي والقروي، مهما بلغت من مراتب ووصلت لدرجات عليا في وظيفة مرموقة وبراتب جيّد، أظل منتمياً للأرض، وحسّي الزراعي لا يذبل.

• إذن، أنت صديق النحل؟

•• بالفعل، وأعرف الكثير من أسراره.

• بالإمكان وصف كتابتك بالعسل؟

•• أتمنى ذلك.

• متى بدأت الدراسة؟

•• درستُ القرآن أولاً على يد والدي، كان إمام المسجد، ويجمعني وأقراني تحت ظل شجرة المانجو، فتعلمنا التلاوة وكتابة الحروف، وعندما التحقنا بالمدرسة كنا مبرزين في التلقي بسهولة.

• أين أكملت تعليمك؟

•• درست الإعدادية في البلد، ولم تكن هناك مرحلة ثانوية، فانتقلت لولاية (إبرا) تبعد نحو 100كم، ووفرت الوزارة لنا سكناً داخلياً، ونعود للقرية نهاية الأسبوع.

• هل تخصصت علمياً أم أدبياً؟

•• دراستي علمية، وتخصصتُ في الصحة العامة، في الرقابة الصحية.

• متى بدأت الكتابة؟

•• هناك محاولات شعرية، لكن دون تفكير في النشر.

• ماذا عن الآباء الشعريين؟

•• تدرجتُ في كتابة الشعر، وحفظتُ الكثير، وبدأتُ أكتب عمودياً، وفي الثانوية انتقلت للمدرسة الرومانسية، وعندما قرأتُ أدونيس ومحمود درويش، كنت اقرأ التجربة كاملة، ومن خلال صحيفة عمان، تعرفت على سيف الرحبي، وسماء عيسى اللذين كانت تجربتهما مميزة جداً، وانتقلت للتفعيلة، ثم لقصيدة النثر.

• أين بدأتَ النشر؟

•• في صحيفة الوطن، كان بها صفحة أدبية يشرف عليها الشاعر حسن المطروشي، وطلب مني أن أكتب زاوية باسم سيرة الحجر، فبدأتُ شعرياً، وبسبب نص حكائي تحولت للسرد، مأخوذ عن حكاية من القرية، كنا نلعب كرة قدم بالقُرب من قبر في خلاء، وأحد زملائي أصيب بألم في قدمه، ثم تفاقم المرض، وأصبح مصاباً بالسرطان، وتوفي منه لاحقاً، فذهبتُ لاستعادة كل المحكيات المتعلقة بالمكان، وهي ليست حكايات شعبية، بل متعلقة بالمكان، بمعنى هناك قصة تدور حول موضع محدد، في البلد (مسجد، شجرة، صخرة) وأعيد تسريدها، وعندما نشرتها لقيت قبولاً، وجدت فيها عالماً مختلفاً ثم جاءت القصة (سيرة الحجر).

• كيف طرقت عالم الرواية ؟

•• عقب ثلاثة أعوام من (سيرة الحجر) جاءت، فكرة طرق عالم ثالث، إثر الشعر والقصة، فالقصة القصيرة فضاؤها محدود، ولا تمنحك مساحة كما الرواية، وليس بها إتاحة لخلق عوالم وشخصيات وتعقيدات، فقررت خوض تجربة الرواية، فكتبت (جبل الشوع)، والعمل عن القرية يقوم على أربعة أشخاص يذهبون قبل الستينيات إلى خارج القرية طلباً للرزق، في مسقط، والبعض للشمال، والبعض للجنوب إلى زنجبار، وفي العمل تقاطعات زمنية، حاضر، وماضٍ.

• ما هو «الشوع»؟

•• الشوع شجرة جبليّة من فصيلة المورينغا، فيها قرون، ويستخرج منها زيت الشوع، يُستخدم في العطريات، وفي الطب الشعبي، وهي تتكاثر في الجبال المحيطة بالقرية.

• هل تعدها تجربة ناجزة حينها؟

•• بالعكس أعدها تجربة بدائية، ومررتها لعدد من الأصدقاء ممن سبقوني للسرد، ووجهوني توجيهات بشأن الشخصيات والتحرير واللغة، واستفدتُ منهم، ونشرتها، ولاقت استحساناً حينها، لا بأس به، بغضّ النظر عن الفنيّة.

• ما انطباعك عنها اليوم؟

•• أشعر أنّي تسرّعتُ في نشرها، كانت محتاجة لعمل أكثر، لتأخذ كل شخصية حقها، ولكني كنتُ متسرعاً، بحكم إعجابي بالعمل، والحرص على الدفع به للطباعة، لأتخلص من هذا العبء.

• ماذا كتبت تالياً لجبل الشوع؟

•• كتبتُ (القنّاص) رواية صغيرة عن الوعل، وأنا مرتبط ارتباط روحي بالوعل، لأنه يعيش في بيئتنا، وأسرتي أسرة قناصين، كانوا يحبون قنص الوعل، والعمل مستوحى من حكايات كبار السنّ عن القنص في العصاري والأمسيات، ويستعيدون حكاية رحلات القنص، كل ذلك أسس للقناص.

• ماذا عن رواية «جوع العسل»؟

•• تقوم على رحلة ثلاثة أصدقاء: عزّان بن سعيد، عبد الله بن حمد، وناصر بن سالم الحطّاطي، للبحث عن العسل في الجبال البعيدة، ولأن البحث عن النفس يستدعي الانفراد بها، بخوفها، بجوعها، بغضبها، بغارتها على نفسها، بذاكرتها في مواجهة صريحة، يفترق الثلاثة بقوة الطبيعة. ولا يملّون البحث عن أنفسهم، ولا يتوقفون عن المشي فيها بذريعة البحث عن العسل الجبلي اللذيذ، يقتفون أثر النحل الفَطِن، يقابلونه بذكاء الإنسان الذي يزعم -في كلّ مرّة- أنه تمكّن من هذا النحل، فراح يبحث فيه عنه بعيداً جدّاً على أثر طيرانه المستقيم، وهو قريب منه، في مسافة نيّة جائع، وفيه كناية عن جوع كل إنسان المفرط تجاه ما يتعلّق به، ولو تعرّض لمخاطر، أو وقع في شراك الهلاك.

• متى قررت كتابة «تغريبة القافر»؟ وماذا عن التغريبة التي توجت جهودك بالبوكر؟

•• لكل رواية خصوصية، ولكي لا أكرر نفسي، ولتعلقي بالماء، والأفلاج، وتنظيم المجتمعات خصوصاً القروية، فمن بعد جبل الشوع، وجوع العسل، والقنّاص، كانت (تغريبة القافر) والقافر عاش غربة، واغترابا، بحكم ما يتمتع به هذا الطفل، الذي سقطت أمه في البئر، وهو في بطنها، وبإخراجها من الجُبّ لفظت أنفاسها، فقررت (كاذية بنت غانم) توليد الغريقة، وأخذت مطواة (جنبية) وشقت بطن (مريم) المتوفاة، وأخرجت الطفل الذي صرخ بوجه (الفقيه) الذي أراد دفنه مع جسد أمه، فجاء القافر، الذي وُلد بموهبة سماع صوت الماء تحت الأرض، وكان يحدد موضع الآبار، ويعرف بعض الأسرار التي تطيح بالرقاب، ولذا بقدر ما تكون الموهبة مصدر سعادة، قدر ما تكون سبباً للشقاء.

• كم استغرقت من الوقت؟

•• استغرقت عامين كاملين، وتضمنت عملاً بحثياً، اشتغلت فيها على الأفلاج، وتنظيم السقيا، والمصطلحات، وجمعت حكايات المزارعين قبل عصر الآلة، فالقنوات كانت تأخذ منهم سنوات من التعب والجهد في شقّ القنوات تحت الأرض، على مسافات تصل أحياناً إلى خمسين متراً، في طبقات صخريّة قاسية، والحفر بأدوات بدائية مطرقة وإزميل، وأحياناً تكون التربة رخوة فتدفن ضحايا تحتها بالانهيارات؛ ولأنهم يعتنون بالمساجد والجوامع يمررون الفلج داخلها، ليتمكن الناس من الوضوء والارتواء، وكذلك بيت شيخ القبيلة، لما له من رمزية ومكانة اجتماعية، فدخل في العمل الحكاية، والصورة الواقعية، والأسطورة، والجهد العلمي، ما عزز مصداقيته، أو قريب من المصداقية.

• ألم تأتك ردود أفعال من التحسس المجتمعي الذي كتبت عنها هذا التوثيق؟

•• بالعكس، هناك سعادة بالعمل خصوصاً بعد الفوز بالبوكر، فأولاً شخصياتي أخلقها بعيداً عن الواقع، كي لا تمس الحكاية أي فرد، فالذي يعنيني لُبّ الحكاية، الفكرة، ومن ثم أصوغها سردياً بأدواتي الفنية، ما يجعلها شخصية مختلفة، لا إشارة في اسميتها ولا مكانها، ولا سلوكياً، ومصدر سعادة مجتمعي القروي، ما أعدتهم إليه من ذكريات أسلافهم.

• ما أبرز ردود الفعل؟

•• كانت ردود أفعال مبهجة، علماً أني أرى في رواياتي السابقة ما هو أعمق منها، وخبير الأفلاج الدكتور عبدالله الغافري قال لي: أنت أنجزت عملاً علمياً، وسهلت على الناس كونك مررته لهم في إطار سردي، ففيها توثيق.

• ماذا عن ذائقة المتلقي في سلطنة عمان؟

•• لفترة قريبة كانت الشعرية، سائدة، ومتسيّدة، حدّ أنهم قالوا: «تحت كل حجر في سلطنة عمان شاعر»؛ لذا عدد الشعراء كبير، ومن بداية التسعينيات بدأنا نتجه للسرد، أو أنه استدرجنا لعوالمه الساحرة، فالجيل الأول محمود الرحبي، ويونس الأخزمي، وبشرى خلفان، وجوخة الحارثي، بدأوا من القصة القصيرة، ثم انتقلوا للرواية، فالاشتغال بالسرد قريب، وجميعهم مؤسسون شعرياً، ونحن متقاربون زمنياً.

• هل من نُقاد حاضرين لإثراء تجاربكم؟

•• في الفترة الأخيرة نعم، من جيلنا الذين أتموا دراساتهم الأكاديمية، والتفتوا بعناية للمنجز العماني من منتصف التسعينيات، ومن الأسماء الدكتورة منى السليمي، والدكتورة عائشة الدرمكي، والدكتور خالد البلوشي، والدكتور محمود حمد، وغيرهم، وقبلهم لم يكن نقاد، فالاهتمام كان متجهاً لدراسة أشياء أخرى أكثر أهمية.

• هل تلبستك نرجسية الفوز بالبوكر؟

•• بالعكس، لا أثر لأي نرجسية، والشيء الوحيد الذي أضافته البوكر انتشار أعمالي، وصار اسمي معروفاً، وأعمالي مقروءة، مقارنةً بالأعمال السابقة، كما عرّفني الفوز على وسط الكتابة والنقد والإبداع في الوطن العربي، إذ ما كان يتاح لنا الجلوس على طاولة واحدة، وغير هذا ليس هناك أهمية كبيرة جداً.

• ما هو شعورك عند إعلان فوزك بالبوكر؟

•• كنت خائفاً أن أقع في فخ التحسس من كتابة عمل جديد، يقل عن جودة السابق، فالآن أنا تحت المجهر.

• هل كتبت جديداً؟

•• كتبتُ «نوفيلا» وأنجزتها، ومررتها لعدد من أصدقاء أثق بذائقتهم ورأيهم داخل عمان وخارجها، وما زلتُ أكتب مقاطع شعرية، ولم أحسم أمري مع السرد والشعر، فكل كتابة هي مشروع، وعندي مجموعة شعرية عن الموسيقى.

• لمن تقرأ من السعوديين؟ •• بدرية البشر، وعبده خال، وطاهر الزهراني، وعبدالله ثابت، ومحمد خضر.

Continue Reading

ثقافة وفن

احذر أن ينكسر قلبك

«أصبحت أتحدث عن (فلسفة الحياة) فيستمع لي الساهرون بإعجاب.. كنت متأكداً أني أقول أي كلام.. ولكن الشهرة تحول الغباء

«أصبحت أتحدث عن (فلسفة الحياة) فيستمع لي الساهرون بإعجاب.. كنت متأكداً أني أقول أي كلام.. ولكن الشهرة تحول الغباء إلى ذكاء.. والجهل إلى علم.. والسخف إلى حكمة.. وقلة الأدب إلى ظرف وخفة دم».

(عبدالله باجبير)

العنوان هو لأحد كتب الكاتب السعودي عبدالله باجبير الذي كتب لسنوات طويلة عبر زاويته (قهوة الصباح) في صحيفة الشرق الأوسط، وله عدة مؤلفات منها: (قل لي.. من أنت)، (احذر أن ينكسر قلبك)، (صداع كوني اسمه الحب)، (من أجل عينيك)، (حوار مع امرأة مجهولة)، (خلف الأبواب الموصدة)، (الفلوس والحب)، و(قلت وقالوا).

تتميز مؤلفاته بأنها مجموعة مقالات قصيرة عن الحياة تبدو في ظاهرها وكأنها كتبت للمرأة وعن المرأة، لكنها في حقيقتها كتبت لنا جميعاً.

جمع عبدالله باجبير في كتاباته بين الفلسفة والأدب وعلم النفس والسخرية أحياناً.

تتميز تلك الكتب بأنها صديق مذهل للقراءة البسيطة غير المرهقة للذهن، لكنها وجبة مشبعة لقضاء وقت ممتع في عالم القراءة، كذلك هي رفيق أكثر من رائع في أوقات الانتظار والسفر والمقاهي.

قضيت بصحبة تلك الكتب أوقاتاً لا تنسى مبحراً معها وفيها، ومستمتعاً بتلك اللغة البسيطة العميقة التي كتبت بها.

لم ينل عبدالله باجبير ما يستحق، ولم تنل كتبه ما تستحق من الانتشار، ولا أدري هل يعود السبب للكاتب نفسه أم لدار النشر أم للقارئ نفسه، لكنها حقاً لم تنل مكانتها المستحقة.

أكتب عن عبدالله باجبير وعن كتبه من باب الوفاء لكل تلك الأوقات الجميلة التي قضيتها بصحبة ما كتب، وأجد أنني أحد القراء الذين استمتعوا واستفادوا ومضوا دون تدوين كلمة شكر تليق بالكاتب وكتبه.

أتمنى أن تجد هذه الإضاءة البسيطة الطريق إلى قارئ يبحث عن كتب خفيفة لطيفة يبدأ بها في عالم القراءة أو يعود بها إلى عالم القراءة إذا كان منقطعاً عنها أو إلى قارئ محترف يبحث عن وجبات خفيفة يستمتع بها بين الوجبات الدسمة التي ترهق العقل والفكر.

Continue Reading

ثقافة وفن

المَعَرِّي بين التاريخ ورواية الشايجي

هل تظن أنك تعرف شخص أبي العلاء المعري أو المتنبي أو غيرهما من أعلام التاريخ الثقافي حق المعرفة بعد أن قرأت سيرهم

هل تظن أنك تعرف شخص أبي العلاء المعري أو المتنبي أو غيرهما من أعلام التاريخ الثقافي حق المعرفة بعد أن قرأت سيرهم وما كتبوا وما كُتب عنهم أو معظمه؟ أحسب ذلك وهماً كبيراً! فنحن غالباً نشترك مع كتاب التاريخ في اختراع شخصياته. يقول طه حسين واصفا هذه الإشكالية: «وإنه لمن الغرور أن يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر، حتى إذا امتلأت نفسه بما قرأ أو بالعواطف والخواطر التي يثيرها فيها ما قرأ، فأملى ذلك أو سجله في كتاب، ظن أنه صور الشاعر كما كان، أو درسه كما ينبغي أن يدرس، على حين أنه لم يصور إلا نفسه، ولم يعرض على الناس إلا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء».

بحسب طه حسين، نحن نشترك جميعا في صنع صورة الشخصية التاريخية بما نكتب عنها ونتأول من إنتاجها وأخبارها، عاكسين أنفسنا بأكثر مما نقتنص من الشخصية التاريخية، وفي العمل الروائي الذي يتوسل بالتاريخ أو يتخذ بعض أحداثه قناعاً، يقع الكاتب في إشكالية صعبة يلخصها السؤال التالي: من منكما يستخدم الآخر؟ هل بإمكانك استخدام التاريخ بتحكم كامل في عمل فني، سواء أكان رواية أو فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً؟ هل تثق بأن التاريخ ليس هو من يستخدم قدراتك وطاقاتك الفنية ليعيد إنتاج نسخته الشائعة؟ أم أن الأمر منزلة بين المنزلتين؟

الخيارات في الرواية المعاصرة واضحة، أكثرها شيوعاً هو السقوط في حبائل أيديولوجيا عميقة الوجود في وعي الكاتب، ما يجعل المهيمن على نصه هو إعادة إنتاج رواية التاريخ طبقاً لمنظور تلك الأيديولوجيا ومصالحها. في هذا الخيار تختلف قدرات الكتَّاب بين مجتهد في فهم نسخة التاريخ التي يعرف، وتوظيف زواياها لإنتاج نص مشوق ممتع، وبين مكتفٍ باستعادة وقائع تاريخية من فترات يغلفها السحر، بسبب غرائبية الأحداث واختلاف معادلات الواقع الثقافي ساعتها عما نعيش اليوم. في الحالتين السابقتين لا يبدو الكاتب مستخدِماً للتاريخ بقدر ما يبدو أن التاريخ يستخدم الكاتب ليعيد إنتاج نفسه. الخيار الثاني هو استخدام التاريخ وعدم السماح لبنياته السردية وشخصياته المبجلة ذات الغلاف الأسطوري بأن تملك عليك إرادتك السردية لتعيد إنتاج عوالمها التي يكسوها عبق سحري، فارضة ظلالها على رؤاك وتصوراتك وتخييلاتك للشخوص والأحداث جميعاً إلا في حدود ضيقة تخدم ما تريد. الخيار الأخير متعب جداً؛ إذ يعني أولاً أن تكون روائياً موهوباً صاحب مشروع ينتمي لك وللحظتك التاريخية، ما يتضمن أن تجهد نفسك طوال الوقت لكي تفهم انحيازاتك الشخصية، ثم لتحلل توجهات الروايات التاريخية التي استقرت في ثقافتك، قبل أن تبدأ في المحاولة الخطرة لاستخدام مادة التاريخ في صنع نص إبداعي، وهذا تحديداً ما أحسب أن رواية (فتنة الغفران) للروائي الكويتي حمود الشايجي تقوم به.

لنعد إلى أبي العلاء المعري، الذي يمثل هو ومحيطه الثقافي الإشكالي مادة لرواية حمود، حيث يظهر فيها المتنبي وسيف الدولة وآل الوزير المغربي وغيرهم. وسوف أتجنب تمامًا أية محاولة لتلخيص الرواية؛ احتراماً لجهد الكاتب في صناعة المكونات السردية المختلفة لروايته من حبكة زمنية، وشخصيات، وأماكن رسمت بدقة، وتقسيم بنائي يقوم على شذرات حكيٍ تكتمل بالتدريج، كلوحة كبيرة يتم رسمها من الأطراف وصولاً إلى المركز، إضافة إلى إدراك جلي بخطورة تناول المادة التاريخية والسيطرة عليها، كل ذلك يمنع من محاولة التلخيص التي ستمثل جرماً في حق «فتنة الغفران» المنسوجة على مهل.

الهدف من هذا المقال إذن هو موضعة (فتنة الغفران) بوضوح ضمن الروايات التي تستخدم التاريخ لتطرح رؤيتها للعالم، لكن من المهم، أيضاً، توضيح بعض الفنيات التي تتميز بها الرواية وتبرر هذا الحكم. تكسر رواية الشايجي حاجز الرهبة في مواجهة التاريخي المبجل والمخيف، رغم أن الشخصيات التي تدور عنها وحولها الرواية هي من أعلام التاريخ العربي في فترة ملتهبة بالأحداث؛ وهي تفعل ذلك، بدايةً، عبر تقسيم الرواية إلى مقاطع قصيرة، يحمل كل منها اسم الشخصية التي ربما تظهر أكثر من مرة؛ فيتكرر الاسم مضيفاً المزيد عن الشخصية حسب حاجة السرد. الأهم هو الإصرار على استخدام الراوي الداخلي في فصول الرواية كلها؛ ليصبح اللقاء مع الشخصية التاريخية مباشراً عبر نطقها هي، لا عبر وسيط الراوي الخارجي العليم الذي يحافظ على مساحة التخييل والتبجيل في ذهن القارئ. يضعك الراوي الداخلي مباشرة أمام ما يشعره أبو العلاء المعري، مثلاً، بصورة مباشرة وعلى لسانه، وهو ما يمثل اللعبة الرئيسة للرواية التي تحول هؤلاء الأعلام إلى كائنات روائية/‏ إنسانية تقترب من القارئ، بقدر ما تبتعد عن التنميط الأسطوري الذي اكتسبته عبر قرون من التأويل وإعادة التأويل لأعمالها الأدبية وسيرها الذاتية. بعبارة أخرى يخطو حمود بجرأة يحسد عليها نحو اكتشاف ما لم يرد في كتب التاريخ عن المعري، مقرباً إياه للقارئ كإنسان لا كشاعر فيلسوف ابتعدت به روايات المؤرخين وتأويلات نقاد الأدب عن الطبيعة، مقربة إياه إلى النموذج الأسطوري إن سلباً أو إيجاباً، وهو ما تفعله الرواية مع باقي الشخصيات التي تم رسمها بوعي عميق، عبر نسج متأنٍ لأحداث ستمنحك رائحة الزمن الذي تدور فيه، وملمس أشيائه دونما تعدٍّ على أهداف الكاتب أو سيطرته على عالمه.

Continue Reading

ثقافة وفن

«الثلاثاء الحزين».. رثاء ودعاء وثناء !

(1)لم يكن يوم الثلاثاء 21/‏10/‏1445هـ/‏ 30/‏4/‏2024م، يوماً اعتيادياً، فمنذ الساعات الأولى، ومنصات التواصل الاجتماعي

(1)

لم يكن يوم الثلاثاء 21/‏10/‏1445هـ/‏ 30/‏4/‏2024م، يوماً اعتيادياً، فمنذ الساعات الأولى، ومنصات التواصل الاجتماعي تنقل خبر الوفاة الأليم، وكانت تغريدة الأخ الزميل الدكتور عبدالله الحيدري، ثم تغريدة الأستاذ حسين بافقيه.. ثم توالت الأنباء مؤكدة هذه الفاجعة التي حلت على الوسط الثقافي والأدبي لتعيد لنا فواجع الثلاثاء الحزين!!

لم تجف دموعنا (بعد)!! فقد رزئنا قبل أيام بفقد الأديب المثقف عبدالرحمن بن معمر (يرحمه الله)، صاحب الابتسامة النقية، والمعارف التراثية، والحضور الثقافي والتاريخي الملفت، والتحفيز الإيجابي المثير.. فكلما التقيته (يرحمه الله) يثني على كتابي: في آفاق النص التاريخي الصادر عن نادي الطائف الأدبي عام 1434هـ/ ‏2011م وقامت بيني وبينه صداقة معرفية وثقافية لعلي أشير إليها في كتابة خاصة!!

(2)

أذكر قبل ثلاثة أشهر كنَّا نتحلق في ملتقى النَّص العشرين الذي أقامه نادي جدة الأدبي؛ احتفاءً بمرور خمسين عاماً على النادي، وتكريماً للشخصية الثقافية المختارة لهذا الموسم الثقافي وهو معالي الأستاذ الدكتور عبدالله بن سالم المعطاني (يرحمه الله)، وكأني بذلك الاحتفاء كان توديعاً لهذه القامة الأدبية والثقافية (يرحمه الله).

اليوم وأنا أعيش هذه اللحظات من الفقد لم أتمالك نفسي إلا وأستشهد بهذه الأبيات الشعرية التي تصف الفقيد وتجسر المسافة ما بيننا وبينه من قصيدة طويلة أستذكر منها هذه الأبيات:

«رجل يفيض العلم من أعطافه

وتراه قد رسم الخطوط عريضة

هذا (ابن سالم) قامة علمية

» أخلاقه تزن الجبال وزانة”

في مجلس الشورى حكيم نابه

وإذا تحدث في البلاغة خلته

(عبدالله بن سالم) يفيض مودة

هذا الفتى الهذلي طاب أرومة

فتراه فينا ماهر ورشيد

لبلوغ أعلى قمة ويشيد

فكر رشيد رأيه تسديد

وتخاله فوق العميد عميد

وبأرض عبقر شاعر غريد

(شيخ البلاغة) ناقد جوِّيد

وإليه يهفو طالب ومريد

وسما على الأقران فهو فريد

* * *

(3)

ومنذ أن عرفت الأخ والصديق معالي الأستاذ الدكتور عبدالله المعطاني، وأنا أحمل عنه أجمل الصور وأكملها: خلقاً وتواضعاً، علماً ومعرفة، سمتاً ووقاراً، هيبة واحتراماً، إنه نموذج من الإنسانية متفرِّد بالكثير من الخصال، فهو أخ حبيب، وصديق صدوق، على مستوى عالٍ من السمت والوقار والخلق الجميل. يفجؤك بتواضعه ودماثة خلقه، ومحبته واحترامه، يطربك بحديثه وعلمه وحواراته ومناقشاته.

كنت أراه وأقابله في نادي جدة الأدبي، وأستمع لطروحاته ومحاضراته ومداخلاته وأحس بعلميته ومعارفه، وتجذره على التراث البلاغي والأدبي، عاش مرحلة الحداثة فلم يتأثر بها ولم يدخل في سجالاتها وصراعها، وحافظ على أصالته ونقائها، ولم يرفض التجديد والإبداع وعاش مع الفريقين على حدٍّ سواء!!

وهنا أقول إن عبدالله المعطاني امتلك ميزتين قلَّ أن تجتمعا في أحد من الناس، وهي (أدب النفس وأدب الدرس)، فأما أدب النفس فهو حملها على محاسن الأخلاق، والتزامها بمكارم المعالي والعادات، والسعي للتهذيب والإصلاح، وممارسة قوعد السلوك الحضاري. وللمعطاني من هذا الأدب الكثير من المزايا والسمات.

وأما أدب الدرس فهو المنتج الكتابي والدراسات البحثية التي تعنى بالأدب والثقافة والفكر وكل جميل ومفيد من النظم والسرد والشعر، وكل ما ينتجه العقل الإنساني من فكر وعلوم ومعرفة، وللمعطاني في هذا الأدب الكثير من البحوث والدراسات والكتب النقدية والدواوين الشعرية التي طبعت ونشرت أو شورك بها في المنتديات والملتقيات أو نشرت في الصحف والمجلات.

(4)

رحم الله أخانا، فقيد الوطن، وفقيد الأسرة المعطانية، فقيد قبيلة هذيل، وفقيد الأدب والثقافة، وعظم الله أجر الأهل والأقارب والأولاد وأحسن لهم العزاء وأجزل لهم الثواب والعطاء. ونسأل الله له الجنة، والفردوس الأعلى ومنازل الأنبياء والصديقين والشهداء. إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وإلى أهله وأبنائه وقبيلته أقول:

يا لابةَ (المعطان)… تيهي وافخري

فبنوك هم سبق وهم تجويد

وهذيل في التاريخ مجد راسخ

هم (عسكر البارود) ليس تحيدُ

أكرم بهم قوماً تبارك علمهم

الشعر والتاريخ والتوحيد

أنتم كرام من كرام أصلكم

نسبٌ كريم.. والرجال الصيد

واهنأ (أبا بندر).. ودم في رفعة

عنوانها زرع نما.. وحصيد

يا كم كسينا من جميل علومكم

وشيءٌ تزخرف رائقٌ وحميد

رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح الجنات، والحمد لله رب العالمين.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .