Connect with us

ثقافة وفن

حبسة كُتّاب توهم ببلوغ الكتابة «سنّ اليأس»

في ظل تنامي إصدارات كُتّاب، وتوالي نشر أعمال منتمين للكتابة، التزمت شرائح وأطياف أدبية الصمت، إما بسبب زهد ذاتي،

في ظل تنامي إصدارات كُتّاب، وتوالي نشر أعمال منتمين للكتابة، التزمت شرائح وأطياف أدبية الصمت، إما بسبب زهد ذاتي، أو موضوعي، أو لتفادي التكرار، أو لشحّ الأفكار، أو لعجز البعض عن تجاوز ذاته، أو احتجاج على واقع اختلط فيه الغثّ بالسمين، فلاذ البعض بالعُزلة حماية لذائقته، ولما أنجزه من مشروعه، وإن لم يتجاوز عملاً واحداً، ولعل حبسة بعض الكُتّاب مما أثار التساؤلات حول بلوغ الكتابة سنّ اليأس؛ وهنا استطلاع آراء عدد من المتخصصين؛ في محاولة لاستجلاء واقع الأمر.

إذ عدّت الكاتبة الأكاديمية زكيّة العتيبي (حبسة الكاتب) تسمية دقيقة؛ كون حالة التوقف تلك تشبه حالة الحبس، وما يتبعها من طول المكوث، أو العمل على المطالبة بتخفيف الحكم.

‏وأوضحت العتيبي أنها توقفت عن الكتابة عشر سنوات، وظنّت معها أنها لم تعد صالحة للكتابة، كونها سمحت لظروف الحياة أن تجرفها دون مقاومة، فتحوّلتْ تلك الحالة إلى موجة سارت بها في كل اتجاه، إلا صوب البوح. ‏وقالت: «كنت حينها ممتلئة بالكلام إلا أنني فقدت إلى حد الإيمان بجدوى الكتابة. وأضافت: الحالة أقرب إلى غضب حزين إن صح توصيفي لتلك الحالة».

وأكدت العتيبي أنها بمجرد أن عادت للقراءة والاطلاع وتجريب قلمها لاستعادة لياقته عاد كل شيء. وترى أن الذين توقفوا عن الكتابة، توقفوا بمحض إراداتهم وإن لم يشعروا لأن قلق الكتابة يجعلهم في حالة غير مستقرة.‏وتؤكد أن حالة الإبداع لا تصل إلى سن اليأس إلا بالتعمد من الكاتب نفسه.

فيما ذهب الكاتب نصر المجالي إلى أن الكتابة في أيامنا الراهنة في حال لا تحسد عليها، في ظل الفوضى الثقافية والمعرفية واختلاط الأشياء في الواقع العربي وتضادها وتصارعها حسب مقتضيات وتطورات وتداعيات من الداخل والخارج. وأضاف: «ربما أنها تدعو بارئها مستصرخةً؛ للحفاظ على وشم طفولتها، وهودج عذريتها الذي كان قبل أن تدق عليها الأزمنة بوابات اليأس، وانقطاع الطمث أو أن تصبح عاقراً تحت ضربات الأحداث».

ويرى أن خنق الكلمة جاء من تسلُّط نخب شعبوية بائسة على الجماهير واستحلال ثقافتها كرهاً وغصباً لصالح موقف شخصي لا علاقة له بالشعب وثقافته ومستقبله وآلامه وأحلامه، ويؤيد المجالي بلوغ الكتابة سن اليأس.

فيما يؤكد الناقد عبدالواحد اليحيائي أن الكتابة (التقريرية أو الإبداعية) ليست هي من يبلغ سن اليأس، بل الكاتب..

ويرى أن اليأس هنا هو انقطاع الكتابة الجديدة أو الموحية أو المرشدة بل حتى الكتابة الممتعة، مشيراً إلى أن لذلك أسبابه بين الكاتب وقرائه: «كأن يصاب الكاتب بعارض جسدي، أو نفسي يحول بينه وبين كتابته، أو حين يؤمن بعدم جدوى كتابته، أو حين لا يرى جديداً يستحق الكتابة، أو حين يعتقد أن ما أراد كتابته أو قوله ربما كُتب؛ وقيل من قبل، فلا حاجة لتكراره مرة بعد مرة، أو حين يخاف الرقيب من ذاته الكاتبة، أو من خارج هذه الذات، أو حين يجتهد ثم لا يجد، أو لا يعرف وسيلة تنشر ما كتبه على الناس، أو حين يرى أنه أدى رسالته نحو المجتمع والناس فلا مزيد لديه، وأحياناً لا رغبة، وأيضاً حين يفقد الثقة في قرائه ومتابعيه، إما غروراً فيحسب كلماته تجاوزتهم فما عادوا أهلا لها، أو تواضعاً فيحسب أنهم ربما سبقوه فهماً ووعياً والعارف لا يعرف كما قيل». وأضاف اليحيائي: ييأس من الكتابة وجدواها حين لا يُطلب رأيه، وربما ييأس حين يطلب منه الرأي في شأن ما ثم لا يعمل به.

وتساءل: هل اليأس مرتهن بعمر أو جنس أو مكان أو زمان؟ ويجيب: ربما.. إلا أن جماع اليأس الكتابي هو أن لا يكون لدى الكاتب ما يكتبه لأن موارده من مادة الكتابة ضئيلة هزيلة، وهو ضئيل حين لا يجرب، وحين لا يقرأ، وحين لا يحاول أن يعلم ويفهم، وحين لا يلامس ما حوله من هموم ومن حوله من ذوات، لافتاً إلى أن اليأس من الكتابة حينها أجدى من كتابة توهم كاتبها بالخصب وما ثم إلا الثرثرة الفارغة والوقت الضائع بين الكتابة وقارئها. وتساءل: «كيف يخرج الكاتب من يأسه؟ ويجيب: لعل الدواء يحوي بعض مضادات الاكتئاب بسبب بعض ما يراه ويسمعه ثم لا يستطيع أن يكتبه، ولعله يحتاج جرعات من الحرية المسؤولة تقنعه أن الأمل أعظم من اليأس، وأن العمل مقدم على الكسل، وأن في الحياة الكثير مما يمكن الكتابة عنه بحب وأمل وحلم وإبداع».

ويؤكد المفكر شاهر أحمد نصر أن الكتابة، كما القراءة، فعل هداية لا يشيخ! وأن (اقرأ) هي أجمل جملة في كلمة، يحق للعرب أن يباهوا بها أمام العالم، إذ تلخص تجربة البشرية، وتسهم إسهاماً حضارياً راقياً في هدي البشرية، وبناء حاضرها، وغدها، ومستقبلها… مِن ثّم أتت الكتابة ضرورة ملازمة وحارسة لـ(اقرأ)؛ فالكتابة تحفظ اللغة، وتحفظ إنتاج البشرية الفكري، وميراثها الثقافي والعلمي؛ فضلاً عن إسهامها في تنظيم الأفكار، وتفاعل ملكات الإنسان وتطور موهبته، إنّها وسيلة مهمة لتوريث المعرفة من جيل إلى جيل.

وعدّ الكتابة الإبداعية كالتنقيب عن الذهب؛ يصفي طالبه أطناناً من الطمي لكي يعثر على غرام من الذهب، أو درة نفيسة، والكاتب المبدع يعارك الحياة، ويقرأ، ويقرأ، ويطلع على الثقافة البشرية، وعلى مختلف صنوف المعرفة، لينتقل إلى ساحة الكتابة التي لا تمنح نفسها إلا لمن عارك في سبيلها وأصبح يستحقها، إنّها هبة متميزة تُمنح لمن صقلت الحياة مشاعره، وسمت أحاسيسه، وصفا ذهنه؛ بالقراءة والتدريب ومعاركة الحياة، ولمن ظلّت محبّة العمل، والبحث عن الجمال والحرية والمحبّة نبراس حياته، ومن لازم تفكيره النقد، والشكّ، والموضوعية والتجرُّد عن الهوى منهجاً ناظماً لبحوثه، كي يبدع نصوصاً نسيجها بيان بديع فصيح متناسق عابق بقيم الخير والجمال والكرامة والحرية، وحبّ العمل وتخليد محبّة الأهل والإنسان والوطن.

ويرى أن «أسمى لحظات الكتابة حينما يتفاعل عقل الكاتب المنفعل مع العقل الكلي الفاعل، فتصبح الكتابة إبداعاً في التواصل مع المتعالي»، مضيفاً بأن هناك عوامل كثيرة تزيد باستمرار من ضرورة الكتابة وأهميتها؛ منها، على سبيل المثال: تخليد حبّهم لشعوبهم في ملاحم خالدة، ويرسّخ العاشق المبدع الصادق ملاحم الحبّ في نصوص خالدة.. كما يخلد الباحث عن الحقيقة والخلود بحثه كتابة: فلمّا عاد جلجامش من رحلته نحت قصته على الصخر (أي كتبها) لتخلد ملحمته.. فالعمل والكتابة أخلد من الإنسان، مؤكداً أن التجارب الإنسانية لا تنضب، والإنسان بطبيعته يصبو إلى تخليد تجاربه وذكراه، والكتابة أهم معين له في هذا السبيل، فالكتابة لا تشيخ ولا تنضب.

كل كاتب لديه ما يقوله في كل مرحلة من عمره

فيما ذهب الكاتب المسرحي فهد ردة الحارثي، إلى أن الكتابة كائن حي لذلك هي تمرّ بكل الحالات وتتأثر بها، فهي تمرض وتموت وتبلغ سن اليأس وتهيج فتكون مصغرة، وتخضر بربيع أنيق وتزهر وتثمر وتتلاشى وتتغابى وتلف حبلاً حول كاتبها، وربما تشنقه، وربما ترفعه وربما تسقطه، وربما تمد له بسبب ليصعد لسماء عليا. وأضاف: إلا أن كل ذلك يتأثر بفعل المحيطات بالكاتب، فكل المتغيرات التي تحدث للكاتب وتتأثر بها الكتابة هي من صُنع ظروف محيطة تؤثر وتتأثر وتتغير وتغير وتتبدل وتبدل، مؤكداً أن الكتابة؛ باعتبارها فعلاً حياً، لا بد أن تتبع كاتبها وكأنها الصفة تتبع الموصوف وتتأثر بحالاته رفعاً وضماً وجراً وموتاً وحياة، وبالتالي إذا بلغ الكاتب سن اليأس بلغت الكتابة معه سن اليأس.

وتروي الكاتبة جاكلين سلام حضورها عام 2006 مهرجاناً شاركت فيه الكاتبة الكندية (أليس مونرو) التي كانت في سن متقدمة وتحدثت عن معاناتها في الكتابة والاحتفاظ بتاريخ إنهاء مشروع الكتابة كما تم بالتعاقد مع دار النشر. ما أخرها عن مواكبة المشاريع الكتابية والحياتية اليومية وقررت حينها أن تتوقف عن الكتابة، إلا أنها لم تصدق، بل أصدرت قصصاً بعد ذلك وحصلت على نوبل عام 2013. فلم تيأس من الكتابة. ومثلها (مارغريت أتوود)، فهي في منتصف الثمانينيات وبدأت مؤخراً بكتابة سيرتها الذاتية.

وأضافت: باعتقادي أن الكاتب في أي حقل إبداعي لن يكتب في السبعين ما هو أهم وأجمل مما كتبه في الإصدار الثاني له إذا اعتبرنا أن الكتاب الأول ربما يكون فاشلاً أو تجربة غير ناضجة، مشيرةً إلى أن كل كاتب لديه ما يقوله في كل مرحلة من عمره. وعدّت الحالة العربية مؤهلة لليأس في كل المراحل، وترى أن ما يكتبه الكتّاب العرب لا شك محاولة جيدة في هدم جدار اليأس، رغم عدم الاستقرار الاجتماعي والإنساني، إذ يعاني الكاتب من محدودية مساحة التعبير ما يؤثر على التخييل وابتكار الجديد الذي يخترق المنظومة القديمة والخوض في حداثة تتجاوز الواقع.

Continue Reading

ثقافة وفن

احذر أن ينكسر قلبك

«أصبحت أتحدث عن (فلسفة الحياة) فيستمع لي الساهرون بإعجاب.. كنت متأكداً أني أقول أي كلام.. ولكن الشهرة تحول الغباء

«أصبحت أتحدث عن (فلسفة الحياة) فيستمع لي الساهرون بإعجاب.. كنت متأكداً أني أقول أي كلام.. ولكن الشهرة تحول الغباء إلى ذكاء.. والجهل إلى علم.. والسخف إلى حكمة.. وقلة الأدب إلى ظرف وخفة دم».

(عبدالله باجبير)

العنوان هو لأحد كتب الكاتب السعودي عبدالله باجبير الذي كتب لسنوات طويلة عبر زاويته (قهوة الصباح) في صحيفة الشرق الأوسط، وله عدة مؤلفات منها: (قل لي.. من أنت)، (احذر أن ينكسر قلبك)، (صداع كوني اسمه الحب)، (من أجل عينيك)، (حوار مع امرأة مجهولة)، (خلف الأبواب الموصدة)، (الفلوس والحب)، و(قلت وقالوا).

تتميز مؤلفاته بأنها مجموعة مقالات قصيرة عن الحياة تبدو في ظاهرها وكأنها كتبت للمرأة وعن المرأة، لكنها في حقيقتها كتبت لنا جميعاً.

جمع عبدالله باجبير في كتاباته بين الفلسفة والأدب وعلم النفس والسخرية أحياناً.

تتميز تلك الكتب بأنها صديق مذهل للقراءة البسيطة غير المرهقة للذهن، لكنها وجبة مشبعة لقضاء وقت ممتع في عالم القراءة، كذلك هي رفيق أكثر من رائع في أوقات الانتظار والسفر والمقاهي.

قضيت بصحبة تلك الكتب أوقاتاً لا تنسى مبحراً معها وفيها، ومستمتعاً بتلك اللغة البسيطة العميقة التي كتبت بها.

لم ينل عبدالله باجبير ما يستحق، ولم تنل كتبه ما تستحق من الانتشار، ولا أدري هل يعود السبب للكاتب نفسه أم لدار النشر أم للقارئ نفسه، لكنها حقاً لم تنل مكانتها المستحقة.

أكتب عن عبدالله باجبير وعن كتبه من باب الوفاء لكل تلك الأوقات الجميلة التي قضيتها بصحبة ما كتب، وأجد أنني أحد القراء الذين استمتعوا واستفادوا ومضوا دون تدوين كلمة شكر تليق بالكاتب وكتبه.

أتمنى أن تجد هذه الإضاءة البسيطة الطريق إلى قارئ يبحث عن كتب خفيفة لطيفة يبدأ بها في عالم القراءة أو يعود بها إلى عالم القراءة إذا كان منقطعاً عنها أو إلى قارئ محترف يبحث عن وجبات خفيفة يستمتع بها بين الوجبات الدسمة التي ترهق العقل والفكر.

Continue Reading

ثقافة وفن

المَعَرِّي بين التاريخ ورواية الشايجي

هل تظن أنك تعرف شخص أبي العلاء المعري أو المتنبي أو غيرهما من أعلام التاريخ الثقافي حق المعرفة بعد أن قرأت سيرهم

هل تظن أنك تعرف شخص أبي العلاء المعري أو المتنبي أو غيرهما من أعلام التاريخ الثقافي حق المعرفة بعد أن قرأت سيرهم وما كتبوا وما كُتب عنهم أو معظمه؟ أحسب ذلك وهماً كبيراً! فنحن غالباً نشترك مع كتاب التاريخ في اختراع شخصياته. يقول طه حسين واصفا هذه الإشكالية: «وإنه لمن الغرور أن يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر، حتى إذا امتلأت نفسه بما قرأ أو بالعواطف والخواطر التي يثيرها فيها ما قرأ، فأملى ذلك أو سجله في كتاب، ظن أنه صور الشاعر كما كان، أو درسه كما ينبغي أن يدرس، على حين أنه لم يصور إلا نفسه، ولم يعرض على الناس إلا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء».

بحسب طه حسين، نحن نشترك جميعا في صنع صورة الشخصية التاريخية بما نكتب عنها ونتأول من إنتاجها وأخبارها، عاكسين أنفسنا بأكثر مما نقتنص من الشخصية التاريخية، وفي العمل الروائي الذي يتوسل بالتاريخ أو يتخذ بعض أحداثه قناعاً، يقع الكاتب في إشكالية صعبة يلخصها السؤال التالي: من منكما يستخدم الآخر؟ هل بإمكانك استخدام التاريخ بتحكم كامل في عمل فني، سواء أكان رواية أو فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً؟ هل تثق بأن التاريخ ليس هو من يستخدم قدراتك وطاقاتك الفنية ليعيد إنتاج نسخته الشائعة؟ أم أن الأمر منزلة بين المنزلتين؟

الخيارات في الرواية المعاصرة واضحة، أكثرها شيوعاً هو السقوط في حبائل أيديولوجيا عميقة الوجود في وعي الكاتب، ما يجعل المهيمن على نصه هو إعادة إنتاج رواية التاريخ طبقاً لمنظور تلك الأيديولوجيا ومصالحها. في هذا الخيار تختلف قدرات الكتَّاب بين مجتهد في فهم نسخة التاريخ التي يعرف، وتوظيف زواياها لإنتاج نص مشوق ممتع، وبين مكتفٍ باستعادة وقائع تاريخية من فترات يغلفها السحر، بسبب غرائبية الأحداث واختلاف معادلات الواقع الثقافي ساعتها عما نعيش اليوم. في الحالتين السابقتين لا يبدو الكاتب مستخدِماً للتاريخ بقدر ما يبدو أن التاريخ يستخدم الكاتب ليعيد إنتاج نفسه. الخيار الثاني هو استخدام التاريخ وعدم السماح لبنياته السردية وشخصياته المبجلة ذات الغلاف الأسطوري بأن تملك عليك إرادتك السردية لتعيد إنتاج عوالمها التي يكسوها عبق سحري، فارضة ظلالها على رؤاك وتصوراتك وتخييلاتك للشخوص والأحداث جميعاً إلا في حدود ضيقة تخدم ما تريد. الخيار الأخير متعب جداً؛ إذ يعني أولاً أن تكون روائياً موهوباً صاحب مشروع ينتمي لك وللحظتك التاريخية، ما يتضمن أن تجهد نفسك طوال الوقت لكي تفهم انحيازاتك الشخصية، ثم لتحلل توجهات الروايات التاريخية التي استقرت في ثقافتك، قبل أن تبدأ في المحاولة الخطرة لاستخدام مادة التاريخ في صنع نص إبداعي، وهذا تحديداً ما أحسب أن رواية (فتنة الغفران) للروائي الكويتي حمود الشايجي تقوم به.

لنعد إلى أبي العلاء المعري، الذي يمثل هو ومحيطه الثقافي الإشكالي مادة لرواية حمود، حيث يظهر فيها المتنبي وسيف الدولة وآل الوزير المغربي وغيرهم. وسوف أتجنب تمامًا أية محاولة لتلخيص الرواية؛ احتراماً لجهد الكاتب في صناعة المكونات السردية المختلفة لروايته من حبكة زمنية، وشخصيات، وأماكن رسمت بدقة، وتقسيم بنائي يقوم على شذرات حكيٍ تكتمل بالتدريج، كلوحة كبيرة يتم رسمها من الأطراف وصولاً إلى المركز، إضافة إلى إدراك جلي بخطورة تناول المادة التاريخية والسيطرة عليها، كل ذلك يمنع من محاولة التلخيص التي ستمثل جرماً في حق «فتنة الغفران» المنسوجة على مهل.

الهدف من هذا المقال إذن هو موضعة (فتنة الغفران) بوضوح ضمن الروايات التي تستخدم التاريخ لتطرح رؤيتها للعالم، لكن من المهم، أيضاً، توضيح بعض الفنيات التي تتميز بها الرواية وتبرر هذا الحكم. تكسر رواية الشايجي حاجز الرهبة في مواجهة التاريخي المبجل والمخيف، رغم أن الشخصيات التي تدور عنها وحولها الرواية هي من أعلام التاريخ العربي في فترة ملتهبة بالأحداث؛ وهي تفعل ذلك، بدايةً، عبر تقسيم الرواية إلى مقاطع قصيرة، يحمل كل منها اسم الشخصية التي ربما تظهر أكثر من مرة؛ فيتكرر الاسم مضيفاً المزيد عن الشخصية حسب حاجة السرد. الأهم هو الإصرار على استخدام الراوي الداخلي في فصول الرواية كلها؛ ليصبح اللقاء مع الشخصية التاريخية مباشراً عبر نطقها هي، لا عبر وسيط الراوي الخارجي العليم الذي يحافظ على مساحة التخييل والتبجيل في ذهن القارئ. يضعك الراوي الداخلي مباشرة أمام ما يشعره أبو العلاء المعري، مثلاً، بصورة مباشرة وعلى لسانه، وهو ما يمثل اللعبة الرئيسة للرواية التي تحول هؤلاء الأعلام إلى كائنات روائية/‏ إنسانية تقترب من القارئ، بقدر ما تبتعد عن التنميط الأسطوري الذي اكتسبته عبر قرون من التأويل وإعادة التأويل لأعمالها الأدبية وسيرها الذاتية. بعبارة أخرى يخطو حمود بجرأة يحسد عليها نحو اكتشاف ما لم يرد في كتب التاريخ عن المعري، مقرباً إياه للقارئ كإنسان لا كشاعر فيلسوف ابتعدت به روايات المؤرخين وتأويلات نقاد الأدب عن الطبيعة، مقربة إياه إلى النموذج الأسطوري إن سلباً أو إيجاباً، وهو ما تفعله الرواية مع باقي الشخصيات التي تم رسمها بوعي عميق، عبر نسج متأنٍ لأحداث ستمنحك رائحة الزمن الذي تدور فيه، وملمس أشيائه دونما تعدٍّ على أهداف الكاتب أو سيطرته على عالمه.

Continue Reading

ثقافة وفن

«الثلاثاء الحزين».. رثاء ودعاء وثناء !

(1)لم يكن يوم الثلاثاء 21/‏10/‏1445هـ/‏ 30/‏4/‏2024م، يوماً اعتيادياً، فمنذ الساعات الأولى، ومنصات التواصل الاجتماعي

(1)

لم يكن يوم الثلاثاء 21/‏10/‏1445هـ/‏ 30/‏4/‏2024م، يوماً اعتيادياً، فمنذ الساعات الأولى، ومنصات التواصل الاجتماعي تنقل خبر الوفاة الأليم، وكانت تغريدة الأخ الزميل الدكتور عبدالله الحيدري، ثم تغريدة الأستاذ حسين بافقيه.. ثم توالت الأنباء مؤكدة هذه الفاجعة التي حلت على الوسط الثقافي والأدبي لتعيد لنا فواجع الثلاثاء الحزين!!

لم تجف دموعنا (بعد)!! فقد رزئنا قبل أيام بفقد الأديب المثقف عبدالرحمن بن معمر (يرحمه الله)، صاحب الابتسامة النقية، والمعارف التراثية، والحضور الثقافي والتاريخي الملفت، والتحفيز الإيجابي المثير.. فكلما التقيته (يرحمه الله) يثني على كتابي: في آفاق النص التاريخي الصادر عن نادي الطائف الأدبي عام 1434هـ/ ‏2011م وقامت بيني وبينه صداقة معرفية وثقافية لعلي أشير إليها في كتابة خاصة!!

(2)

أذكر قبل ثلاثة أشهر كنَّا نتحلق في ملتقى النَّص العشرين الذي أقامه نادي جدة الأدبي؛ احتفاءً بمرور خمسين عاماً على النادي، وتكريماً للشخصية الثقافية المختارة لهذا الموسم الثقافي وهو معالي الأستاذ الدكتور عبدالله بن سالم المعطاني (يرحمه الله)، وكأني بذلك الاحتفاء كان توديعاً لهذه القامة الأدبية والثقافية (يرحمه الله).

اليوم وأنا أعيش هذه اللحظات من الفقد لم أتمالك نفسي إلا وأستشهد بهذه الأبيات الشعرية التي تصف الفقيد وتجسر المسافة ما بيننا وبينه من قصيدة طويلة أستذكر منها هذه الأبيات:

«رجل يفيض العلم من أعطافه

وتراه قد رسم الخطوط عريضة

هذا (ابن سالم) قامة علمية

» أخلاقه تزن الجبال وزانة”

في مجلس الشورى حكيم نابه

وإذا تحدث في البلاغة خلته

(عبدالله بن سالم) يفيض مودة

هذا الفتى الهذلي طاب أرومة

فتراه فينا ماهر ورشيد

لبلوغ أعلى قمة ويشيد

فكر رشيد رأيه تسديد

وتخاله فوق العميد عميد

وبأرض عبقر شاعر غريد

(شيخ البلاغة) ناقد جوِّيد

وإليه يهفو طالب ومريد

وسما على الأقران فهو فريد

* * *

(3)

ومنذ أن عرفت الأخ والصديق معالي الأستاذ الدكتور عبدالله المعطاني، وأنا أحمل عنه أجمل الصور وأكملها: خلقاً وتواضعاً، علماً ومعرفة، سمتاً ووقاراً، هيبة واحتراماً، إنه نموذج من الإنسانية متفرِّد بالكثير من الخصال، فهو أخ حبيب، وصديق صدوق، على مستوى عالٍ من السمت والوقار والخلق الجميل. يفجؤك بتواضعه ودماثة خلقه، ومحبته واحترامه، يطربك بحديثه وعلمه وحواراته ومناقشاته.

كنت أراه وأقابله في نادي جدة الأدبي، وأستمع لطروحاته ومحاضراته ومداخلاته وأحس بعلميته ومعارفه، وتجذره على التراث البلاغي والأدبي، عاش مرحلة الحداثة فلم يتأثر بها ولم يدخل في سجالاتها وصراعها، وحافظ على أصالته ونقائها، ولم يرفض التجديد والإبداع وعاش مع الفريقين على حدٍّ سواء!!

وهنا أقول إن عبدالله المعطاني امتلك ميزتين قلَّ أن تجتمعا في أحد من الناس، وهي (أدب النفس وأدب الدرس)، فأما أدب النفس فهو حملها على محاسن الأخلاق، والتزامها بمكارم المعالي والعادات، والسعي للتهذيب والإصلاح، وممارسة قوعد السلوك الحضاري. وللمعطاني من هذا الأدب الكثير من المزايا والسمات.

وأما أدب الدرس فهو المنتج الكتابي والدراسات البحثية التي تعنى بالأدب والثقافة والفكر وكل جميل ومفيد من النظم والسرد والشعر، وكل ما ينتجه العقل الإنساني من فكر وعلوم ومعرفة، وللمعطاني في هذا الأدب الكثير من البحوث والدراسات والكتب النقدية والدواوين الشعرية التي طبعت ونشرت أو شورك بها في المنتديات والملتقيات أو نشرت في الصحف والمجلات.

(4)

رحم الله أخانا، فقيد الوطن، وفقيد الأسرة المعطانية، فقيد قبيلة هذيل، وفقيد الأدب والثقافة، وعظم الله أجر الأهل والأقارب والأولاد وأحسن لهم العزاء وأجزل لهم الثواب والعطاء. ونسأل الله له الجنة، والفردوس الأعلى ومنازل الأنبياء والصديقين والشهداء. إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وإلى أهله وأبنائه وقبيلته أقول:

يا لابةَ (المعطان)… تيهي وافخري

فبنوك هم سبق وهم تجويد

وهذيل في التاريخ مجد راسخ

هم (عسكر البارود) ليس تحيدُ

أكرم بهم قوماً تبارك علمهم

الشعر والتاريخ والتوحيد

أنتم كرام من كرام أصلكم

نسبٌ كريم.. والرجال الصيد

واهنأ (أبا بندر).. ودم في رفعة

عنوانها زرع نما.. وحصيد

يا كم كسينا من جميل علومكم

وشيءٌ تزخرف رائقٌ وحميد

رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح الجنات، والحمد لله رب العالمين.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .