Connect with us

ثقافة وفن

منذر مصري: ولدت وعشت وسأموت في «الحفرة السعيدة»

للشاعر والتشكيلي السوري؛ منذر مصري، بصمة خاصة، في القصيدة الحديثة، يكتب الوجع، كما لو أنه يضع إصبعه في دمه، ليوثّق

للشاعر والتشكيلي السوري؛ منذر مصري، بصمة خاصة، في القصيدة الحديثة، يكتب الوجع، كما لو أنه يضع إصبعه في دمه، ليوثّق اسم قاتله، وُلد في اللاذقيّة عام ١٩٤٩. صدر له ١٦ كتاباً، منها: «بشر وتواريخ وأمكنة» (شعر)، «الشاي ليس بطيئاً» (شعر)، «بيروت الصدى الذي أخطأ» (شعر)، «لأنّي لستُ شخصاً آخر» (مختارات شعريّة)، «حقل الفخاري» (مسرح). وهنا نص حوارنا معه:

• هل تُسعد الأسماءُ وتُشقي، أم الأرضُ، أم الأصدقاء؟

•• أنهيت لتوي تصحيح تجارب الجزء الأول من أعمالي الشعرية، الذي يتضمن مجموعتي الرابعة (دعوة خاصة للجميع. دعوة عامة لشخص واحد) بمقدمتها التي لا تزيد، على غير عادتي في الإسهاب، على نصف صفحة إلا قليلاً، ذات العنوان (الأسماء.. لا شيء دبقاً وشائكاً معاً، بقدرها)! ولكن أنظر، ها أنذا أبدأ كلامي دون أن أحذر شبهة التباهي، الأكثر إساءة من الجريمة ذاتها! جريمة حديث الشاعر عن نفسه وعما قال وفعل في كل فرصة تتاح له! الأمر الذي لا يمكن لأحد تجنبه، وها أنذا أعود لما يمكن أن يطلق عليه ينبوع الأفكار، ماذا تعني كلمة (الأسماء) في واقعة تفرّد القرآن الكريم بذكرها: «وعلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها ثمَّ عرضَهم على الملائكةِ فقالَ أنبئُوني بأسماءِ هٰؤلاءِ إن كنتم صادقين» 31- سورة البقرة. فلطالما حيرني اختيار الله تعالى (الأسماء) ليسأل عنها الملائكة، وهو يعلم، قالوا ذلك بردهم، إنهم لا يعلمون إلا ما علمهم! فإذا كانت بحسب ما يورده المفسرون كافة، أسماء كل شيء: (سماء) (شمس) (أرض) (بقرة) (كرسي).. فإن ذلك يوصلنا، إلى أن كلمة (الأسماء) تعني اللغة برمتها، لأنه لا لغة دون معرفة أسماء الأشياء التي يعيش معها ويستخدمها ناطقوها، وإلا لكانت إشارات فحسب!

• مَن لقنوكَ الأسماء؟

•• في قصيدتي عن الناس، الذين سلطهم الله تعالى على الأرض، وأوكلهم بإدارة شؤون عالمهم، ونقل معارفهم إلى من يأتي بعدهم، قلت:

هُم مَن علَّموكَ كيفَ بلِسانِكَ

وسَقفِ حَلقِكَ وشَفَتيك

يخرُجُ الهَواءُ من فَمِكَ حُروفاً وكلِمات

هُم مَن لَقَّنوكَ الأسماء

ثُمَّ نادَوكَ باسمِكَ

• هل شقيت بما حفظت من أسماء؟•• بما أنها أسماء بشر، فالبشر الذين يحملون هذه الأسماء هم من في استطاعتهم أن يسعدونا أو يشقونا! مستعيداً، رغم أنه في ذلك، خفة تكاد تكون غير محتملة، ذلك المقطع من أغنية لي مارفن، الذي ليس من عادته الغناء أبداً:

الثلجُ يحرق عينَيك

ولكنَّ الناس

وحدَهم

يجعلونكَ تبكي

وكذلك عبارة جان بول سارتر المتداولة لحد الابتذال في أوساط المثقفين: «الجحيم هو الآخرون»! مقابلها: «النعيم هو نحن» أو «النعيم هو العزلة». لكنها بالنسبة لي تتضمن في ذاتها نقيضها الكامل: «النعيم أيضاً هو الآخرون»!.

أمّا جوابي على المعنى الثاني، فإنه حقاً أمر يستدعي التفكير ما إذا كانت أسماؤنا تسعدنا أوتشقينا. خصوصا وأنا أستعيد هنا تلك المقولة العربية: «لكل امرئ من اسمه نصيب» التي على غرابتها، وصعوبة تصديقها، لا أظنها جاءت من الفراغ.

أذكر، تلك الأغنية الشهيرة للمغني الشعبي الأمريكي جوني كاش عنوانها (ولد يدعى سو)، حسناً دعني أخبرك أني قضيت حياتي أستمع إلى هكذا أغاني، التي كنا نعيد سماعها مراراً وتكراراً، أنا ومصطفى عنتابلي ومالك آني، ونحن في طريقنا إلى حلب، بسيارة سيمكا بيضاء صغيرة مغلقة. عن شخص أسماه أبوه (سو) وغادر البيت يوم ولادته، وقد جلب هذا الاسم الغريب الكثير من المتاعب لصاحبه، الذي عندما التقى أباه، بعد سنين كثيرة، في أحد الملاهي، مصادفة، دخل معه في اشتباك بالأيدي. كانت نهايته أن الأب أوضح لابنه أن غايته باعطائه هذا الاسم كانت ليجعله أشجع وأقوى! وقد قبل الابن بهذا الاسم على أنه غداً عندما سيأتي له ابن فسوف يسميه: «بيل، جورج، أو أي اسم لعين.. ما عدا سو»!

• أتعرف من اختار لك اسمك؟•• لا أدري على وجه الدقة، على الأغلب إحدى عمّاتي، مستهام أو فائقة، من ذكر لي هذه الواقعة اللطيفة، أن جدي رفعت، أبا أبي، اتفق مع أمي خالدية، وأبي شكيب، على أن يتناوب وإياهم بتسمية أبنائهما، اسم من اختياره، يتبعه اسم من اختيارهما، فأسماني، أنا حفيده الأول (محمد منذر)، وأسمى أختي حفيدته الأولى (مرام). أما (ماهر) و(منى) فكانا من حصة أبوي. إلى أن جاء أخي الأصغر وأسماه أبي (رفعت) باسم أبيه بعد رحيله. الذي ألمح لي بنفسه، عندما اسميت ابني الأول باسمه، أنه ليس من عادة أهل طرابلس تسمية أبنائهم باسم آبائهم، إلا بعد رحيلهم! ولكن ذلك لم يمنع من أن يسمّي كلا أخوي أبناءهم البكر (شكيب)! ورغم حبنا أختي وأنا لأسمينا، فإني كنت أجد أنه لمن الغريب أن يكون هذان الاسمان من اختيار جدي! الذي سبق وأطلق أغرب الأسماء على أبنائه أنفسهم: (مستهام) (فائقة) و(شكيب)! وهنا يمد رأسه؛ سؤال ضمن سؤال: ترى إذا كانت هذه الأسماء هي أسماؤنا الحقيقية، فمن أين لجدي، أو لوالدي، معرفتها! أم أنها مجرد مصادفة؟ وإذا لم يكن كل هذا صحيحاً، فيكون السؤال: «ترى، ما هي أسماؤنا الحقيقية؟ كيف لنا بمعرفتها؟ من يعرفها؟ حتى نذهب ونسأله عنها؟».

غير أن كون اسمي مركباً، أي تصديره باسم (محمَّد)، بدل أن يشفع لي في الدنيا والآخرة، كما كانت غاية جدي، صنع لي على مدار السنين، من الاشكالات والمصاعب، ما لم يصنعه اسم (سو) لصاحبه في أغنية جوني كاش، بمرات عديدة، حتى كاد يودي لهلاكي! فهناك، في سوريا وحدها، دون لبنان وفلسطين والأردن، ما يزيد على مائة ألف محمَّد مصري، موزعون في جميع أنحائها، دمشق وحلب وحمص ودرعا وجبلة.. حيث تشابك يوماً اسمي مع اسم (إرهابي) له مولدي، وذات اسمي المركب، واسم أبي واسم أمي، وذات رقمي الوطني المطبوع بأحرف باهتة على هويتي، متهم بخمس جرائم، لا ينجو صاحبها منها جميعها ولو صدر عشرون عفوا رئاسيا شاملا: (حاقد. محرض على الشغب. له صلات مع المعارضة الخارجية. ممارس للأعمال القتالية، ممول للإرهاب). لكنه من مواليد… دوما. دوما! وأنا لم تطأ قدماي، يوماً، دوما، حتى لا أعرف أين تقع دوما! قرين كامل لي يطابق مواصفاتي جميعها، حتى إنه، قيل، يكتب ويرسم! وقد شهد البعض إنهم التقوا به جالساً في مقهى رصيف، أو رأوه يقف في طابور ربطة الخبز، أو لمحوه يعبر الشارع من أمامهم!

• ما أهمية الأسماء وما دورها في حياتنا؟•• معرفة مدى أهمية الأسماء، وحجم دورها في حياتي كإنسان وكشاعر، فإن في مخطوطي الذي بدأته منذ عقود ولم أنته منه لليوم، ذي العنوان: (رجل أقوال). الذي هو في وجه من وجوهه، مخزن إحضاراتي الشعرية، كما هو مخزن حياتي برمتها، عندما أخبرت محمّـد سيدة عن وجود قائمة بأسماء ألف مواطن سوري ينتوي النظام اعتقالهم ورميهم بالسجون. كما أخبرني محمّـد رعدون، قال جازماً: «اسمي بينهم الخمسمائة».

• ماذا عن منذر؟••هناك بين ملوك اللخميين، ثلاثة ملوك باسم منذر: منذر بن ماء السماء، ومنذر الأسود، ومنذر المغرور. ترى أي منذر أنا منهم؟ أسأل نفسي. الاحتمال الأول أني خليط اثنين، منذر بن ماء السماء ومنذر المغرور. أو ربما أنا خليط ثلاثتهم، فمنذر الأسود لا ريب بي. إلاّ أن صوتاً صاح في داخلي: أنت لا شيء من هؤلاء الثلاثة، هم ملوك وأنت منذر فحسب.

• ما هي مدينتك؟•• ما أن تلفظ اسم الأسكندرية، حتى يبتدئ الغناء.

• هل تتوقى نسبة قصائدك لغيرك؟••اكتشفت بالصدفة، وأنا أعمل في المكتبة، أقوم بتسجيل بعض المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، أن أسطوانة أغنية كتب أنها من تأليف الموسيقار الفرنسي (ميشيل لوغراند) دون أي إشارة لصاحب اللحن الحقيقي، وهذا أمر إن كان يحدث عندنا نحن العرب، فمن المستغرب جداً أن يحدث في فرنسا وأوروبا عموماً. فكان أن أخبرت الياس مرقص بما اعتبرته، اكتشافاً خطيراً، إلا أنه، أجابني بكل بساطة: «المقطوعة يا منذر، معروفة جداً، لدرجة أنهم ربما لا يجدون داعياً لكتابة اسم مؤلفها الحقيقي على الأسطوانة».

• ما آخر ما قالت لك الصديقة المُغادرة؟•• قالت لي: حذار أن تغير رقم هاتفك، سيبقى مدوناً عندي بدون اسم.

• كم تحفظ من الأسماء؟•• أحفظ أسماء أعضاء عشرات فرق موسيقى البوب والسول والبلوز، ولكن لا أعرف اسم أي عضو من فرقة (القمم الأربع – The Four Tops) المفضلة عندي، صاحبة أغنية (Reach out I’ll Be There). ربما، أقول لنفسي، لأنهم جميعهم مغنون، مؤدّون، لا أحد منهم مؤلف أغانٍ، ولا أحد منهم يعزف على جيتار أو بيانو! بينما أعرف أسماء الثلاثي الذي يؤلف لهم أغنياتهم: (هولاند – دوزيير – هولاند). وأتتبعهم، حتى إني أوصيت صديقي معن عربي على كتاب اغنياتهم، وأحضره لي. ولكن لماذا لا أعرف حتى اسم مغنيهم الأول؟ حسناً! إنه ليفي ستوبس، الصوت الأمثل لموسيقى السول. ثم هناك عبدول -الدوق- فقير. الطويل الضاحك ذو النظارة! أظن اسمين يكفي.

• هل لديك قدرة على تغيير الأسماء؟•• أمتلك القدرة على تغيير أسماء الأيام، الاثنين أسمّيه الأربعاء، والجمعة أسمّيه الخميس.

• بماذا تحلم؟••أن أضع فوق كل قصيدة اسم صديق، شيء قريب مما فعله ليبوبولد سنغور عندما وضع فوق كل قصيدة اسم آلة موسيقية.

• إلى أين تريد أن تذهب؟•• أريد أن أذهب إلى مكان ناء، وأصيح باسمها. أريد أن أذهب إلى شاطئ بعيد، أهبط وادياً، أصعد جبلاً، وأصيح باسمها بكل قوتي. ولا أريد أن أصيح باسمها، هنا والآن، أمام الناس، بين الناس. لأن الناس، سيفسدون علي غايتي الأهم من الصياح. لأن صيحتي سوف تتشتت بينهم، ولأن أجزاء منها سوف تتوزع على آذانهم. ولأنهم قد يظنون أنني أصيح بهم، وأن صيحتي موجهة لهم. وأنا لا يهمني الناس، عندما يتعلق الأمر بها، أياً من الناس. ولأن المكان هنا، ضيق، يغطيه سقف، وتحده الجدران، ولا تستطيع العين أن ترى أفقاً، ولا سماء. أريد أن أصيح باسمها، عالياً عالياً، بأقوى ما أستطيع، فلا يسمعه إلّا اللّـه.

• ما مقدار حاجتنا للجُرأة؟•• عاد نجيب عوض من بيروت، وأحضر لي معه عدد مجلة الآداب المخصص عن الرقابة في سوريا، الذي تضمن مقالي عن منع مجموعتي الشعرية (داكن)، معلقاً بقوله: «لا يوجد من تجرأ على ذكر الأسماء سواك!».

• كيف تكتب؟•• أكتب كمطعون، لا هم بقي له سوى أن يغمس رأس أصبعه بدمه، ويكتب اسم قاتله.

• متى تم توظيف اسمك دون علمك؟•• أصدر المثقفون السوريون بياناً عن اغتيال سمير قصير عليه توقيعي، دون أن يسألني أحد! اتصلت بياسين حاج صالح فقال لي ليس هو من أعطاهم اسمي، وإن اسمه أيضاً مذكور رغم أنه لم يوقع على البيان، ولكن…. ليست هناك مشكلة؟

• أي مكان يسكنك؟•• (الأرض) مجرد عقارات! تقاس بالأمتار، وتشترى وتباع بالنقود! تحتلها الأسواق والجوامع، وتبنى فوقها العمارات السكنية والمستشفيات والفنادق! قاطنو المدن، كما تعلم، لا يفلحون ولا يزرعون حتى يعرفوا المعنى الحقيقي لكلمة أرض. كل ما لديهم هو بعض الحدائق العامة والمنزلية، المهملة غالباً أو المعتنى بها بصورة زائدة! حيث تضيق الأرض فلا تعود أرضاً! وتنحصر الطبيعة فلا تعود طبيعة. ثم، كيف أنسى، لديهم أيضاً أحواض ترابية ضيقة تحتل أجزاء من الأرصفة على شكل مصطبات دائرية، يغرسون في وسطها أشجاراً، يحيطون جذوعها بأقفاص، تصطف على طرفي الشوارع، وفي ظنها، أن الشوارع أنهار والأرصفة ضفافها، أما البشر الذين لا ينفكون يندلقون فيها، ماضون لقضاء مشاغلهم، ولمصائرهم، فهم مياهها!

• من يُعطي المكان قيمته؟•• لطالما سمعت الآخرين يلغطون، فيما إذا الناس هم من يعطون المكان معناه، قيمته؟ أم أن المكان له معنى وقيمة بذاته؟ أو، بتعبير أفضل، ما إذا كان من حق المكان علينا، نحن شاغليه وسكانه أن نعطيه الحق بالقيمة لذاته، ولا لشيء آخر طارئ يأتي عليه ويذهب! سمعت مرة، في مقابلة إذاعية على الـ(بي بي سي) النجمة السينمائية (مارلين ديتريتش) تجيب بحنق ظاهر على سؤال، أي المدن كانت الأحب إلى قلبها، برلين أم باريس أم برشلونة؟ قائلة: «ذهبت إلى هذه المدن وسكنتها زمناً، لأنني أحببت رجالاً كانوا يحيون فيها!». بالنسبة لي، غادر اللاذقية الكثيرون ممن كانوا يصنعون معنى وقيمة المكان! ممن كانوا حقاً روح المكان، ولكن، رغم افتقادي الشديد لهم، ورغم كل ما أصاب لاذقيتي من أذى، ومن تبدل، ليس للأفضل، للأسف، ما زلت أشعر بمعنى عيشي فيها، وجدواه. فهي مثلي لم تبارح مكانها، لم تغادر!

• هل للمكان روح؟•• سألتني صديقة؛ ذات السؤال؛ أنا الذي لا أؤمن بالأرواح، أجبتها: «نعم! نعم بالتأكيد». نعم للمكان روح، كما له جسد، لا بل أجساد وأرواح! لأن الأمكنة أيضاً تولد وتعيش و.. تموت! ولكنها سرعان ما تعود لتولد وتعيش و.. تموت. ثم تولد وتعيش وتموت في دورة أبدية لا تنتهي. ولأن المكان كائن حي، فيمكن أن يكون أماً أو يكون صديقاً، كما يمكن أن تكون المدينة حبيبة! أقول لك، أحببت الكثير من النساء، أو ربما خيل لي أني أحبهن، أعطينني كل شيء مقابل.. لا شيء، لولاهن، ربما، لا ليس ربما بل بالتأكيد، لما كتبت وما رسمت ولما أنجبت أولاداً، ولما فعلت أي شيء يذكر، ولكن حباً واحداً، كنت وما زلت أشعر به وأحياه، وليس لدي أي شك به، لأنه سبق واختبرته العديد من المرات، وفي الكثير من الظروف المناسبة وغير المناسبة، وفي كل مرة كان يأتي مبدداً شكوكي ومجدداً إيماني! هو.. اللاذقية! لذلك لم يكن فيه ذرة ادعاء، ما كتبته كتعريف بي في صفحتي على الفيس بوك: «ولدت وعشت وسأموت في اللاذقية. قرار لا رجعة عنه.. مهما كانت الظروف ومهما كانت العواقب». وأستطيع أن أزيد المغريات! لأنه، كما يعلم الكثيرون، كان ولا يزال لدي فرص حقيقية لمغادرة البلد والعيش في أمكنة عديدة أشد أمناً واستقراراً و.. لا أريد أن أقول جمالاً! لكني لم أفعل، ولا أريد أن أفعل! مردداً كل مرة أسأل بها، ومرات دون أن يسألني أحد، لأن هناك حاجة تدفعني لأردده لنفسي: «لا ندم ولا مأثرة.. بقيت كبقية الأشياء الباقية». كلام كثير أستطيع أن أورده عن أسباب عدم مغادرتي ما أسميه الحفرة السعيدة، حتى إني أسميت مجموعتي الشعرية الأخيرة (قصائد من الحفرة)، ما يبدو وكأنه تعلق جنوني بالمكان، وربما هو كذلك. لأنه يقتضي جنوناً كما البقاء في مكان قاس ومؤلم، ومكلوم ومفجع، كسوري، ولكني سأنهي بوحي الحزين هذا، بقصيدة كتبتها عن واقعة حدثت لي عندما كنت طالباً جامعياً في حلب، عندما اضطررت مرة للتنقل من غرفة مكثت بها أكثر من سنتين، إلى غرفة أخرى في بيت آخر في حيّ آخر:

طويلاً أقِمتُ في هذا البيت

طويلاً مكَثتُ في هذهِ الغُرفة

عِندَ هذهِ النافذة

وراءَ هذا الباب

بينَ هذهِ الجُدران.

**

وعِندما حزَمتُ حقيبتي وخرجت

ما إن أدرتُ ظهري

حتَّى سمِعتُ

جِداراً

يُنادي اسمي

• ماذا عن الصداقة؟ •• الصداقة نهد أصيل؛ نجيب عوض. أحد الأصدقاء الذين يعلمون كيف رضعت من هذا النهد طوال حياتي. صداقتي مع نجيب بدأت ربما يوم مولده، وستنتهي يوم موتي! أو ربما ستكمل معه إلى اليوم الذي سيلحقني به ويموت. أمّا مصطفى عنتابلي، صديقي من يوم ولدت أنا، ولا تسألني كيف، وهو أصغر مني! فقد كتبت قصائد عديدة، طويلة وقصيرة، للحد الذي يمكن به أن تتضمنها مجموعة شعرية خاصة به! منها: (رأسان على وسادة ضيقة – على وجهك علامات براءتي- تفوقت علي في كل شيء دون أن تقوم به- أنت الأرقام وأنا النسر) تستطيع أن تجد قبيلة كاملة من الأصدقاء، الذين، كما قلت في مقدمتها، لم يزاحمني في شعري شيء في احتكاري دور البطولة سواهم!

• من هم الأصدقاء الذين لا تنساهم؟•• محمد سيدة.. علمني.

– محمد كامل الخطيب. من حمل شعري تحت إبطه!

– زكريا تامر.. أول من نشر لي قصيدة، عندما كان يرأس تحرير مجلة الموقف الأدبي، العدد الأول في 1974.

– عبد الله البردوني.. زارنا في مقر عملنا أنا وبوعلي ياسين، وأخذ مني قصائد، إحداها (من نافذتي يا أمريكا)، ونشرها في مجلة الحكمة اليمنية 1976.

– يوسف بزي.. أقنع رياض الريس ليصدر لي بعد 18 سنة من حياة الظل والصمت، مختاراتي الأولى: (مزهرية على هيئة قبضة يد) 1997.

– رياض نجيب الريس… نظر إلى مخطوطة (الشاي ليس بطيئاً) وسألني من أين تأتي بكل هذا الكلام! وأصدر لي ثلاث مجموعات متتالية آخرها (من الصعب أن أبتكر صيفاً) 2008.

– كلود كرال.. مترجمة مختارات (أهل الساحل) إلى الفرنسية 2000. عندما ماتت أوصت لي بمبلغ رمزي من المال! لم تكن متزوجة وليس لها أولاد!

– خالد خليفة.. أنشأ دار نشر وأصدر أربعة كتب، رواياته الثلاث، والجزء الأول من أعمالي الشعرية (المجموعات الأربع الأولى) 2006.

Continue Reading

ثقافة وفن

سعوديتان.. ومصري وصومالي في معرض الاتجاهات الأربعة

تنطلق غدا (الاثنين) فعاليات معرض الاتجاهات الأربعة الذي ينظمه أتيليه جدة للفنون التشكيلية لأربعة فنانين من السعودية

تنطلق غدا (الاثنين) فعاليات معرض الاتجاهات الأربعة الذي ينظمه أتيليه جدة للفنون التشكيلية لأربعة فنانين من السعودية ومصر والصومال، وهم: حنان الحازمي، وجواهر السيد من السعودية، وعاطف أحمد من مصر، وعبدالعزيز بوبي من الصومال.

ووفقاً لمدير الاتيليه هشام قنديل، سيقدم كل فنان تجربته الخاصة واتجاهه الخاص الذي يميزه عن أقرانه من الفنانين.

وتقدم الفنانة جواهر السيد 10 لوحات تمثل آخر تجاربها، التي يقول عنها الناقد تحسين يقين: «إن ما يميزها هذا التواصل اللافت بين النساء والأطفال، فضلا عن تعبير الألوان عن المشاعر بذكاء واحتراف».

وأضاف: «على شاطئ جدة الجميلة، أطالت الفنانة تأملاتها النفسية والاجتماعية، لتعبر عن ذلك خطوطا وألوانا، تتجاوز بها مكانها، لتعبر عن حال الإنسان اليوم في هذا العالم ذي النزعة الفردية».

وتقدم الفنانة حنان الحازمي 10 لوحات بأحجام مختلفة تجمع بين التعبيرية والتجريدية، وستضع في هذا المعرض أقدامها بقوة في المشهد التشكيلي السعودي. وحول تجربتها، قال الناقد المصري الدكتور حسان صبحي: «اعتمدت الفنانة حنان الحازمي على طرق تحليلية خاصة في إبداع التركيبات الفنية واستخدام أقل عدد ممكن من المفردات والوسائط التعبيرية ذات الكثافة والثقل في تعبيراتها البصرية لطرح نموذج طليعي يضيف إلى الفنون البصرية ويعلي عادات الرؤية لدى المشاهد، وهو أحد الاتجاهات المهمة التي تم التأكيد عليها في الفنون البصرية». ولفت إلى أن تلك الأعمال امتلكت طاقة مسالمة تكتنزها عناصرها وبناؤها التصميمي المشبع بطاقات التعبير والتفكير المفاهيمي.

أما الفنان المصري عاطف أحمد فيقدم 10 لوحات بأسلوبه الخاص المتمرد (ميكس ميديا) تمثل أحدث إبداعاته.

وعن أعماله قال الناقد صلاح بيصار: «أعمال عاطف تنحاز إلى الجموع من الفلاحين الذين يشكلون ملحمة الأمل والعمل، يتتبعهم في خُطاهم بعمق الدلتا من الحقل والحرث والحصاد».

أما الصومالي عبدالعزيز بوبي فهو عضو الجمعية السعودية للفنون التشكيلية (جسفت)، وتتميز تجربته كما يقول الناقد الدكتور عصام عبدالله العسيري بالنضج اللوني التجريدي الثقافي البصري العام.

وبملاحظة مفردات لوحاته سنجد استعارة رسوم وكتابات أرقام وحروف وخطوط ورموز وألوان وإشارات بصرية، يقدمها في تكوينات جميلة وجريئة وبديعة، لها قيم جمالية ثقافية، كالجداريات والمصغرات بألوان جذابة.

Continue Reading

ثقافة وفن

بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو

بحضور وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة الموسيقى الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، اختتمت هيئة الموسيقى حفلة «روائع

بحضور وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة الموسيقى الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، اختتمت هيئة الموسيقى حفلة «روائع الأوركسترا السعودية» في جولتها الخامسة بمسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية طوكيو، وذلك بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ من الأوركسترا والكورال الوطني السعودي، وبحضور عدد من المسؤولين ورجال الأعمال والإعلام، وحضور جماهيري كبير.

وأشار الرئيس التنفيذي لهيئة الموسيقى باول باسيفيكو، في كلمة خلال الحفلة، إلى النجاحات الكبيرة التي حققتها المشاركات السابقة لروائع الأوركسترا السعودية في العواصم العالمية، عازيًا ما تحقق خلال حفلات روائع الأوركسترا السعودية إلى دعم وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة الموسيقى.

وعدّ «روائع الأوركسترا السعودية» إحدى الخطوات التي تسهم في نقل التراث الغنائي السعودي وما يزخر به من تنوع إلى العالم عبر المشاركات الدولية المتعددة وبكوادر سعودية مؤهلة ومدربة على أعلى مستوى، مشيرًا إلى سعي الهيئة للارتقاء بالموسيقى السعودية نحو آفاق جديدة، ودورها في التبادل الثقافي، مما يسهم في تعزيز التواصل الإنساني، ومد جسور التفاهم بين شعوب العالم عبر الموسيقى.

وقد بدأت «الأوركسترا الإمبراطورية اليابانية – بوغاكو ريو أو» بأداء لموسيقى البلاط الإمبراطوري الياباني، وهي موسيقى عريقة في الثقافة اليابانية، توارثتها الأجيال منذ 1300 عام وحتى اليوم.

وأنهت الأوركسترا والكورال الوطني السعودي الفقرة الثانية من الحفلة بأداء مُتناغم لميدلي الإنمي باللحن السعودي، كما استفتحت الفقرة التالية بعزف موسيقى افتتاحية العلا من تأليف عمر خيرت.

وبتعاون احتفى بالثقافتين ومزج موسيقى الحضارتين اختتمت الحفلة بأداء مشترك للأوركسترا السعودية مع أكاديمية أوركسترا جامعة طوكيو للموسيقى والفنان الياباني هوتاي وبقيادة المايسترو هاني فرحات، عبر عدد من الأعمال الموسيقية بتوزيع محمد عشي ورامي باصحيح.

وتعد هذه الحفلة المحطة الخامسة لروائع الأوركسترا السعودية في العاصمة اليابانية طوكيو، بعد النجاحات التي حققتها في أربع محطات سابقة، كانت تتألق في كل جولة بدايةً من باريس بقاعة دو شاتليه، وعلى المسرح الوطني بمكسيكو سيتي، وعلى مسرح دار الأوبرا متروبوليتان في مركز لينكون بمدينة نيويورك، وفي لندن بمسرح سنترل هول وستمنستر.

وتعتزم هيئة الموسيقى استمرارية تقديم عروض حفلات “روائع الأوركسترا السعودية” في عدة محطات بهدف تعريف المجتمع العالمي بروائع الموسيقى السعودية، وتعزيزًا للتبادل الثقافي الدولي والتعاون المشترك لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 التي تتقاطع مع مستهدفات هيئة الموسيقى.

Continue Reading

ثقافة وفن

الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !

الحديث مع الشاعر علي عكور في الكتابة الإبداعية حديث ممتع، وممتدّ، له آراؤه الخاصة التي يتمثلها في كتابته الأدبية،

الحديث مع الشاعر علي عكور في الكتابة الإبداعية حديث ممتع، وممتدّ، له آراؤه الخاصة التي يتمثلها في كتابته الأدبية، يعتد كثيراً بتجربته، ويرى أنّه قادر على الاختلاف؛ لأنّ مفاهيمه للكتابة تتغيّر مع الوقت.

لم يولد -كما قال- وإلى جواره من يمتهن أو يحترف الكتابة، ولم يكن الوسط الذي نشأ فيه يُعنى كثيراً بالأدب أو الثقافة بعمومها، ما يتذكره علي أنّه في أواسط عقده الثاني وقع على نسخةٍ من كتاب (المنجد) للويس معلوف، لا يعلم كيف وصلت إليه هذه النسخة العتيقة من الكتاب، لكنه شُغِف بها وبالعوالم التي تَفَتَّحت أمامه في هذا المعجم.

وجد الشاعر علي عكور نفسه ينجذب كالممسوس إلى الأدب بكل ما فيه من سحر وغموض وجلال، لكنّ الشعر العربي أخذه حتى من ألف ليلة وليلة؛ الذي انجذب إلى الشعر المبثوث في ثنايا الكتاب أكثر من السرد رغم عجائبيته وسحره!

الكثير من رحلة الشاعر علي عكور مع الأدب والكتابة الإبداعية في هذا الحوار:

‏ • حدّثنا عن علاقتك بالشعر والأدب بشكل عام.. كيف بدأت؟

•• بدايةً أودّ القول، أنه لم يكن في محيطي من يمتهن أو يحترف الكتابة، ولم يكن الوسط الذي نشأتُ فيه يُعنى كثيراً بالأدب أو الثقافة بعمومها. أتذكر أنني في أواسط العقد الثاني من عمري وقعتُ على نسخةٍ من كتاب (المنجد) للويس معلوف. لست أعرف كيف وصلت إلينا هذه النسخة العتيقة من الكتاب، لكنني شُغِفتُ بها وبالعوالم التي تَفَتَّحت أمامي بعد الاطلاع على هذا المعجم. وشيئاً فشيئاً، وجدت أنني أنجذب كالممسوس إلى هذا العالم الرحب، بكل ما فيه من سحر وغموض وجلال. وأثناء تجوالي في عوالم الأدب أُخِذْتُ بالشعرِ العربي وبإيقاعيّة الجملة الشعرية فيه. حتى عندما وقع بين يديّ كتاب (ألف ليلة وليلة)، لم أنجذب إلى السرد رغم عجائبيته وسحره، بقدر ما انجذبتُ إلى الشعر المبثوث في ثنايا الكتاب. وأتذكر أنني كنت أتجاوز الصفحات وأقلّبها بحثاً عن بيتٍ أو بيتينِ من الشعر.

• لمن تدين بالفضل في الكتابة؟

•• أودّ أن أدين بالفضل إلى أحدٍ ما، لكنني حين أمَرّر بداياتي على الذاكرة، لا أتذكّر أحداً بذاته، آمن بي أو رأى في ما أقوم به بدايات واعدة لمشروع ما. كل ما هنالك أنني كنتُ أتلقى ثناءً عابراً إذا كتبتُ شيئاً جيداً. على أنني لا أقلّل من هذا الثناء، فقد كان ذا أثرٍ كبير في دافعيتي، وديمومة شغفي بالكتابة. هذا فيما يخص البدايات، أما الآن فأنا أدين بالفضل لأسرتي ولزوجتي خاصة، فهي داعم كبير لي على طول هذا الطريق، وتتحمل عن طيب خاطر الأعباء التي يُخلّفها انشغالي بالكتابة وهمومها.

• شاعر كان تأثيره كبيراً عليك.

•• لا يمكن تتبّع الأثر بسهولة في هذا الشأن؛ لأنه غالباً يكونُ قارّاً في اللاوعي. لكن إذا كان السياب يرى أنه تأثر بأبي تمام والشاعرة الإنجليزية إديث سيتول وأنه مزيج منهما، فأنا أرى أنني تأثرت كثيراً بسعدي يوسف ومحمود درويش، وأشعر أنهما يلتقيان بطريقة ما، في الكثرة الكاثرة مما أكتب.

• كيف للشاعر أن يكتب قصيدته وفق رهان المستقبل وليس للحظة التي يعيش فيها؟

•• في الغالب لا توجد كتابة لا يمكن تجاوزها. وما يُعبّر عنك الآن قد تجد أنه لا يُعبّر عنك غداً. أعتقد أن الرهان الحقيقي هو أن نكتب شيئاً يستطيع أن يصمد أمام عجلة الزمن. ربما إحدى الحيل التي يمكن أن نمارسها هي أن نكتب نصوصاً أكثر تجريداً وانعتاقاً من قيود الزمان والمكان، وأن نتخفّف من الكتابة تحت تأثير اللحظة الراهنة والحدث المُعاش.

• الملاحظ أنّ هناك إصدارات متشابهة في الشعر والقصة لشعراء وكتاب قصّة، وإن تعددت عناوينها، لكنّ التجربة لم تختلف.. ما تأثير هذا على الإبداع والقارئ كذلك؟

•• صحيح، هذا أمر ملاحظ. هناك من يصدر عشرة دواوين، وعند قراءتها لا تجد اختلافاً بينها، لا من حيث الثيمات ولا من حيث طريقة التناول، لتفاجأ أن هذه الدواوين العشرة هي في الحقيقة ديوان واحد طويل. الكاتب أو الشاعر الذي لا يتجدد يخاطر بمقروئيته ويخسر رهانه الشخصي. إما أن تقول شيئاً جديداً أو شيئاً مألوفاً بطريقة جديدة، لكن لا تقل الشيء نفسه بالطريقة نفسها، حتى لا تعطي فكرة أنك لا تأخذ مشروعك بما يستحق من جدية واهتمام.

• تنادي بأهمية تصدّر الأدب الجاد والأصيل المنصات.. أولاً: من يحدد ماهية الأدب الجاد؟ ثانياً: هل المرحلة تساعد في أن يتصدّر الأدب أيّاً كان المنصات التي كثرت وكثر مستخدموها والمؤثرون فيها؟

•• النقّاد والقرّاء النوعيّون، هم من يحددون ماهيّة الأدب الجاد ويُعلون من قيمته. مؤسف أن يتصدر المشهد الأدبي الأقل قيمة، بينما يبقى الأدب الأصيل في الهامش. في الأخير نحن مسؤولون عن تصدير ثقافتنا، وما نتداوله ونجعل له الصدارة في منصاتنا ومشهدنا، هو ما سيُعبّر عنّا وسيكون عنواننا في النهاية. وبالتالي لنا أن نتساءل بصدق: هل ما صُدِّرَ ويُصَدّر الآن، يُعبّر عن حقيقة وواقع الأدب والثقافة في بلادنا؟

• لديك مشكلة مع المألوف والسائد، وتطالب بسيادة الأدب الفريد والمختلف.. هل لدينا اليوم ذائقة خاصة يمكنها إشباع الذائقة العامة؟

•• يمكن الاتفاق في البدء أن تغيير شروط الكتابة هو في المقابل تغيير لشروط التلقي، وأن كل كتابة أصيلة ومختلفة ستصنع قارئاً مختلفاً. كل كتابة جادّة ستصنع قارئها، وهذا هو الرهان الحقيقي. أما المألوف والسائد فإنّ القارئ مصابٌ بتخمة منه. كل كتابة في المألوف والسائد هي ابنٌ بارٌّ للذاكرة لا للمخيّلة؛ الذاكرة بوصفها مستودعاً لكل ما قرَّ واستقرّ فيها وأخذ مكانه المكين. والمخيّلة بوصفها انفتاحاً على المتجدّد واللانهائي.

• ماذا يعني لك فوزك بالمركز الأول في مسابقة التأليف المسرحي في مسار الشعر؟ وماذا تعني لك كتابة الشعر المسرحي؟

•• سعدت كثيراً بالفوز، سيما أن المسرحية تتحدث عن شخصية أحبها كثيراً: شخصية ابن عربي؛ تلك الشخصية التي عشت معها طيلة ثلاثة أشهر (وهي مدة كتابة العمل)، تجربة روحية وروحانية بالغة الرهافة، فقد استدعت الكتابة عن ابن عربي، العودة إلى قراءة سيرته وأجزاء من أعماله التي حملت جوهر فكره وعمق تجربته الصوفية. وبالانتقال إلى الجزء الثاني من السؤال، أقول إن كتابة الشعر المسرحي عمّقت من مفهومي للشعر وإيماني به وبقدرته على التحرك في مناطق جديدة، يمكن استثمارها على نحو جيد ومثرٍ، إذا ما تعاملنا معها بجدية.

• أما زلت تبحث عن دار نشر تطبع لك ديوانك الجديد دون مقابل مادي تدفعه؟

•• استطعت التواصل مع أكثر من دار، وقد رحبوا بالديوان والتعاون من أجله. لا ضير في كون دور النشر تبحث عن الربح، فهذا من حقها، وهذه هي طبيعة عملها. كل ما أنادي به أن تكون هناك جهة حكومية تشرف عليها وزارة الثقافة، تقوم بطبع الأعمال الجادة التي تعبّر عن حقيقة الأدب السعودي وواقعه.

• جاسم الصحيح قال عنك إنك لست شاعراً عابراً، وإنما شاعر ذو موهبة كبرى تتجاوز المألوف والسائد.. ماذا تعني لك هذه الشهادة؟•• جاسم اسم كبير في المشهد الثقافي وتجربة مرجعية في الشعرية العربية الحديثة، وأن تأتي الشهادة من قامة كقامة جاسم الصحيح لا شك أنها شهادة تدعو للابتهاج والنشوة، إضافة إلى ما تلقيه عليّ من عبء ومسؤولية كبيرة.

• كيف يكون المؤلف الجاد والرصين رأس مال لدور النشر؟

•• تمهيداً للإجابة عن السؤال، لا بد من القول إن الرساميل الرمزية أحياناً تكون أهم وأكثر مردوداً من القيمة المادية. بالنسبة لدور النشر، يُعد الكاتب الجاد رأس مال رمزياً مهمّاً؛ لأنه يبني لها سمعة في الوسط الثقافي. إذا أرادت دور النشر أن تستثمر في سمعتها، فإن أسرع طريقة هي استقطاب كتاب أصحاب مشاريع جادة، مقابل أن تطبع لهم بمبالغ رمزية على الأقل.

• كتبتَ الشعر بأشكاله الثلاثة ومع ذلك ما زلت ترى أنّ الوزن ليس شيئاً جوهرياً في القصيدة.. ما البديل من وجهة نظرك؟

•• نعم الوزن ليس شيئاً جوهريّاً في الشعر. ونحن حين نقول الوزن نقصد بطبيعة الحال الأوزان التي أقرها الخليل بن أحمد. الحقيقة أن الأوزان جزء من الإيقاع، أو بمعنى آخر، هي إحدى إمكانات الإيقاع وليس الإمكانية الوحيدة، وما دامت إحدى تجليات الإيقاع وليس التجلي الوحيد، فمعنى ذلك أن الإيقاع أعم وأشمل وأقدم. وعليه فإن الإيقاع هو الجوهري وليس الوزن. والإيقاع يمكن أن يتحقق في قصيدة النثر مثلاً، عبر حركة الأصوات داخل الجملة الشعرية. وهناك حادثة دالة وكاشفة أنهم حتى في القديم كانوا يدركون أن الشعر بما فيه من إيقاع يوجد أيضاً خارج أوزان الخليل، إذ يُروى أن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت دخل على أبيه وهو يبكي، وكان حينها طفلاً، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: لسعني طائر، فقال: صفه، فقال: كأنه ملتف في بردي حبرة. فصاح حسان: قال ابني الشعر ورب الكعبة. هذه القصة المروية في كتب الأدب تكشف بجلاء أن الشعر أوسع من مجرد الوزن والتفاعيل.

• أنت تقول: لا شيء يسعدني ككتابة الشعر الجيّد.. ما مواصفات الشعر الجيّد؟

•• لا أملك ولا يحق لي ربما الحديث عن الشعر الجيد بإطلاق؛ لأن في هذا ادعاءً كبيراً، لكن يمكن الحديث عما أراه أنا أنه شعر جيد؛ أي في حدود رؤيتي فقط. كل شاعر يكتب الشعر بناءً على ما يعتقد أنه شعر، وعليه فإن الشعر الجيد -كما أراه- خرق لنمطية اللغة وبحث جاد عن اللامرئي في المرئي، ومن مواصفات النص الجيد أن يتقاطع فيه الفكري بالوجداني، وأن يكون نتاج الحالة البرزخية بين الوعي واللاوعي. طبعاً إضافة إلى ضرورة أن يتخلص من المقولات السابقة، وأن يعمل في تضاد مع الذاكرة والثقافة؛ لأنهما يفرضان السائد والمألوف وكل ما هو قارّ في الذهن.

• العودة الملاحظة للشذرات كتابة وطباعة.. إلام تعيدها؟

•• الشذرة في رأيي هي رأس الشعرية. حَشْد كل هذا العالم بمستوياته وتناقضاته ورؤاه في بضع كلمات أمر بالغ الصعوبة على مستوى التكنيك، لكنه مثير وممتع حين تدخله كمساحة للتجريب وتحدي إمكانياتك. أيضاً جزء من اهتمامي بالشذرة يعود إلى افتتاني بالمشهدية وتأمل الفضاءات البصرية واستنطاقها. إضافةً إلى ما في الشذرة من تداخل أجناسي يزيدها ثراءً وغنى. وعلى مستوى آخر أعتقد أن الشذرة بحجمها وبنيتها أكثر تمثيلاً لحياتنا المعاصرة التي أشبه ما تكون بلقطات متتابعة ومنفصلة في فضاء بصري، يجمعها سياق عام. وأخيراً لا أنسى أن منصة (إكس) بما كانت تفرضه من قيود تقنية قد أسست لتجربتي في الكتابة الشذرية وصقلتها.

• الشاعر أحمد السيد عطيف اختلف معك في شكل القصيدة، ورأى أنّ الشكل لا يجعل الكلام جميلاً ومؤثراً.. فيما ترى أنت أنّ الكتابة على نمط القصيدة القديمة تقليد وليس إبداعاً.. هل المشكلة في الشّكل أم في أشياء أخرى؟

•• نعم، كان الحديث في هذه الجزئية عن القصيدة العمودية، وعن كتابتها بصياغة تقليدية مغرقة في القدامة. النقد الحديث على عكس القديم، لا يفصل بين الشكل والمضمون، ولكتابة نص حديث لا بد من تحديث الشكل؛ لأننا لا يمكن أن نتحدث عن مضمون ما بمعزل عن الشكل، إذ إن الشكل يخلق مضمونه أيضاً. طبعاً لا أقصد بتحديث الشكل استبدال القصيدة العمودية بشكل آخر، بل أقصد التحديث من داخل الشكل نفسه. تجديد الصياغة وتحديث الجملة الشعرية ذاتها لتكون قادرة على التعبير عن الرؤى الجديدة.

• لماذا ترى أنّ كتابة قصيدة النثر أصعب من كتابة قصيدة عمودية أو تفعيلة؟

•• السبب في رأيي أن النص العمودي والنص التفعيلي لديهما قوالب إيقاعية جاهزة تجعل من مهمة الخلق الشعري مهمة أقل صعوبة. بينما في قصيدة النثر أنت تعمل في منطقة أقرب ما تكون إلى الشكل الهلامي. قصيدة النثر ملامحها أقل حدة ووضوحاً من الشكلين السابقين، وعليه فإن كتابتها تحمل صعوبة أكبر؛ لأن لكل نصٍّ قالبه الخاص الذي عليك أن تخلقه من العدم.

• كيف يمكن للشاعر أن يكون رائعاً؟

•• يكون كذلك إذا كان أصيلاً؛ أي معبراً عن صوته الخاص، ولحظته الراهنة، ومنغمساً بالكامل في تفاصيل عالمه، طبعاً دون أن يفقد قدرته على الاتصال بالوجود والكون.

• النصوص القصيرة التفعيلية التي كتبتها وترغب في نشرها مرفقة برسوم إبداعية.. ماذا عنها؟

•• هي أربعون نصّاً، تحمل خلاصة تجربتي في كتابة الشذرة الشعرية، وهو تنويعٌ على تجربتي الشعرية عموماً. تعاونت في هذا المشروع مع الرسامة السورية القديرة راما الدقاق. والعمل الآن في مرحلته الأخيرة، وسيُنشر خلال الشهرين القادمين.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .