ثقافة وفن

منذر مصري: ولدت وعشت وسأموت في «الحفرة السعيدة»

للشاعر والتشكيلي السوري؛ منذر مصري، بصمة خاصة، في القصيدة الحديثة، يكتب الوجع، كما لو أنه يضع إصبعه في دمه، ليوثّق

للشاعر والتشكيلي السوري؛ منذر مصري، بصمة خاصة، في القصيدة الحديثة، يكتب الوجع، كما لو أنه يضع إصبعه في دمه، ليوثّق اسم قاتله، وُلد في اللاذقيّة عام ١٩٤٩. صدر له ١٦ كتاباً، منها: «بشر وتواريخ وأمكنة» (شعر)، «الشاي ليس بطيئاً» (شعر)، «بيروت الصدى الذي أخطأ» (شعر)، «لأنّي لستُ شخصاً آخر» (مختارات شعريّة)، «حقل الفخاري» (مسرح). وهنا نص حوارنا معه:

• هل تُسعد الأسماءُ وتُشقي، أم الأرضُ، أم الأصدقاء؟

•• أنهيت لتوي تصحيح تجارب الجزء الأول من أعمالي الشعرية، الذي يتضمن مجموعتي الرابعة (دعوة خاصة للجميع. دعوة عامة لشخص واحد) بمقدمتها التي لا تزيد، على غير عادتي في الإسهاب، على نصف صفحة إلا قليلاً، ذات العنوان (الأسماء.. لا شيء دبقاً وشائكاً معاً، بقدرها)! ولكن أنظر، ها أنذا أبدأ كلامي دون أن أحذر شبهة التباهي، الأكثر إساءة من الجريمة ذاتها! جريمة حديث الشاعر عن نفسه وعما قال وفعل في كل فرصة تتاح له! الأمر الذي لا يمكن لأحد تجنبه، وها أنذا أعود لما يمكن أن يطلق عليه ينبوع الأفكار، ماذا تعني كلمة (الأسماء) في واقعة تفرّد القرآن الكريم بذكرها: «وعلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها ثمَّ عرضَهم على الملائكةِ فقالَ أنبئُوني بأسماءِ هٰؤلاءِ إن كنتم صادقين» 31- سورة البقرة. فلطالما حيرني اختيار الله تعالى (الأسماء) ليسأل عنها الملائكة، وهو يعلم، قالوا ذلك بردهم، إنهم لا يعلمون إلا ما علمهم! فإذا كانت بحسب ما يورده المفسرون كافة، أسماء كل شيء: (سماء) (شمس) (أرض) (بقرة) (كرسي).. فإن ذلك يوصلنا، إلى أن كلمة (الأسماء) تعني اللغة برمتها، لأنه لا لغة دون معرفة أسماء الأشياء التي يعيش معها ويستخدمها ناطقوها، وإلا لكانت إشارات فحسب!

• مَن لقنوكَ الأسماء؟

•• في قصيدتي عن الناس، الذين سلطهم الله تعالى على الأرض، وأوكلهم بإدارة شؤون عالمهم، ونقل معارفهم إلى من يأتي بعدهم، قلت:

هُم مَن علَّموكَ كيفَ بلِسانِكَ

وسَقفِ حَلقِكَ وشَفَتيك

يخرُجُ الهَواءُ من فَمِكَ حُروفاً وكلِمات

هُم مَن لَقَّنوكَ الأسماء

ثُمَّ نادَوكَ باسمِكَ

• هل شقيت بما حفظت من أسماء؟•• بما أنها أسماء بشر، فالبشر الذين يحملون هذه الأسماء هم من في استطاعتهم أن يسعدونا أو يشقونا! مستعيداً، رغم أنه في ذلك، خفة تكاد تكون غير محتملة، ذلك المقطع من أغنية لي مارفن، الذي ليس من عادته الغناء أبداً:

الثلجُ يحرق عينَيك

ولكنَّ الناس

وحدَهم

يجعلونكَ تبكي

وكذلك عبارة جان بول سارتر المتداولة لحد الابتذال في أوساط المثقفين: «الجحيم هو الآخرون»! مقابلها: «النعيم هو نحن» أو «النعيم هو العزلة». لكنها بالنسبة لي تتضمن في ذاتها نقيضها الكامل: «النعيم أيضاً هو الآخرون»!.

أمّا جوابي على المعنى الثاني، فإنه حقاً أمر يستدعي التفكير ما إذا كانت أسماؤنا تسعدنا أوتشقينا. خصوصا وأنا أستعيد هنا تلك المقولة العربية: «لكل امرئ من اسمه نصيب» التي على غرابتها، وصعوبة تصديقها، لا أظنها جاءت من الفراغ.

أذكر، تلك الأغنية الشهيرة للمغني الشعبي الأمريكي جوني كاش عنوانها (ولد يدعى سو)، حسناً دعني أخبرك أني قضيت حياتي أستمع إلى هكذا أغاني، التي كنا نعيد سماعها مراراً وتكراراً، أنا ومصطفى عنتابلي ومالك آني، ونحن في طريقنا إلى حلب، بسيارة سيمكا بيضاء صغيرة مغلقة. عن شخص أسماه أبوه (سو) وغادر البيت يوم ولادته، وقد جلب هذا الاسم الغريب الكثير من المتاعب لصاحبه، الذي عندما التقى أباه، بعد سنين كثيرة، في أحد الملاهي، مصادفة، دخل معه في اشتباك بالأيدي. كانت نهايته أن الأب أوضح لابنه أن غايته باعطائه هذا الاسم كانت ليجعله أشجع وأقوى! وقد قبل الابن بهذا الاسم على أنه غداً عندما سيأتي له ابن فسوف يسميه: «بيل، جورج، أو أي اسم لعين.. ما عدا سو»!

• أتعرف من اختار لك اسمك؟•• لا أدري على وجه الدقة، على الأغلب إحدى عمّاتي، مستهام أو فائقة، من ذكر لي هذه الواقعة اللطيفة، أن جدي رفعت، أبا أبي، اتفق مع أمي خالدية، وأبي شكيب، على أن يتناوب وإياهم بتسمية أبنائهما، اسم من اختياره، يتبعه اسم من اختيارهما، فأسماني، أنا حفيده الأول (محمد منذر)، وأسمى أختي حفيدته الأولى (مرام). أما (ماهر) و(منى) فكانا من حصة أبوي. إلى أن جاء أخي الأصغر وأسماه أبي (رفعت) باسم أبيه بعد رحيله. الذي ألمح لي بنفسه، عندما اسميت ابني الأول باسمه، أنه ليس من عادة أهل طرابلس تسمية أبنائهم باسم آبائهم، إلا بعد رحيلهم! ولكن ذلك لم يمنع من أن يسمّي كلا أخوي أبناءهم البكر (شكيب)! ورغم حبنا أختي وأنا لأسمينا، فإني كنت أجد أنه لمن الغريب أن يكون هذان الاسمان من اختيار جدي! الذي سبق وأطلق أغرب الأسماء على أبنائه أنفسهم: (مستهام) (فائقة) و(شكيب)! وهنا يمد رأسه؛ سؤال ضمن سؤال: ترى إذا كانت هذه الأسماء هي أسماؤنا الحقيقية، فمن أين لجدي، أو لوالدي، معرفتها! أم أنها مجرد مصادفة؟ وإذا لم يكن كل هذا صحيحاً، فيكون السؤال: «ترى، ما هي أسماؤنا الحقيقية؟ كيف لنا بمعرفتها؟ من يعرفها؟ حتى نذهب ونسأله عنها؟».

غير أن كون اسمي مركباً، أي تصديره باسم (محمَّد)، بدل أن يشفع لي في الدنيا والآخرة، كما كانت غاية جدي، صنع لي على مدار السنين، من الاشكالات والمصاعب، ما لم يصنعه اسم (سو) لصاحبه في أغنية جوني كاش، بمرات عديدة، حتى كاد يودي لهلاكي! فهناك، في سوريا وحدها، دون لبنان وفلسطين والأردن، ما يزيد على مائة ألف محمَّد مصري، موزعون في جميع أنحائها، دمشق وحلب وحمص ودرعا وجبلة.. حيث تشابك يوماً اسمي مع اسم (إرهابي) له مولدي، وذات اسمي المركب، واسم أبي واسم أمي، وذات رقمي الوطني المطبوع بأحرف باهتة على هويتي، متهم بخمس جرائم، لا ينجو صاحبها منها جميعها ولو صدر عشرون عفوا رئاسيا شاملا: (حاقد. محرض على الشغب. له صلات مع المعارضة الخارجية. ممارس للأعمال القتالية، ممول للإرهاب). لكنه من مواليد… دوما. دوما! وأنا لم تطأ قدماي، يوماً، دوما، حتى لا أعرف أين تقع دوما! قرين كامل لي يطابق مواصفاتي جميعها، حتى إنه، قيل، يكتب ويرسم! وقد شهد البعض إنهم التقوا به جالساً في مقهى رصيف، أو رأوه يقف في طابور ربطة الخبز، أو لمحوه يعبر الشارع من أمامهم!

• ما أهمية الأسماء وما دورها في حياتنا؟•• معرفة مدى أهمية الأسماء، وحجم دورها في حياتي كإنسان وكشاعر، فإن في مخطوطي الذي بدأته منذ عقود ولم أنته منه لليوم، ذي العنوان: (رجل أقوال). الذي هو في وجه من وجوهه، مخزن إحضاراتي الشعرية، كما هو مخزن حياتي برمتها، عندما أخبرت محمّـد سيدة عن وجود قائمة بأسماء ألف مواطن سوري ينتوي النظام اعتقالهم ورميهم بالسجون. كما أخبرني محمّـد رعدون، قال جازماً: «اسمي بينهم الخمسمائة».

• ماذا عن منذر؟••هناك بين ملوك اللخميين، ثلاثة ملوك باسم منذر: منذر بن ماء السماء، ومنذر الأسود، ومنذر المغرور. ترى أي منذر أنا منهم؟ أسأل نفسي. الاحتمال الأول أني خليط اثنين، منذر بن ماء السماء ومنذر المغرور. أو ربما أنا خليط ثلاثتهم، فمنذر الأسود لا ريب بي. إلاّ أن صوتاً صاح في داخلي: أنت لا شيء من هؤلاء الثلاثة، هم ملوك وأنت منذر فحسب.

• ما هي مدينتك؟•• ما أن تلفظ اسم الأسكندرية، حتى يبتدئ الغناء.

• هل تتوقى نسبة قصائدك لغيرك؟••اكتشفت بالصدفة، وأنا أعمل في المكتبة، أقوم بتسجيل بعض المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، أن أسطوانة أغنية كتب أنها من تأليف الموسيقار الفرنسي (ميشيل لوغراند) دون أي إشارة لصاحب اللحن الحقيقي، وهذا أمر إن كان يحدث عندنا نحن العرب، فمن المستغرب جداً أن يحدث في فرنسا وأوروبا عموماً. فكان أن أخبرت الياس مرقص بما اعتبرته، اكتشافاً خطيراً، إلا أنه، أجابني بكل بساطة: «المقطوعة يا منذر، معروفة جداً، لدرجة أنهم ربما لا يجدون داعياً لكتابة اسم مؤلفها الحقيقي على الأسطوانة».

• ما آخر ما قالت لك الصديقة المُغادرة؟•• قالت لي: حذار أن تغير رقم هاتفك، سيبقى مدوناً عندي بدون اسم.

• كم تحفظ من الأسماء؟•• أحفظ أسماء أعضاء عشرات فرق موسيقى البوب والسول والبلوز، ولكن لا أعرف اسم أي عضو من فرقة (القمم الأربع – The Four Tops) المفضلة عندي، صاحبة أغنية (Reach out I’ll Be There). ربما، أقول لنفسي، لأنهم جميعهم مغنون، مؤدّون، لا أحد منهم مؤلف أغانٍ، ولا أحد منهم يعزف على جيتار أو بيانو! بينما أعرف أسماء الثلاثي الذي يؤلف لهم أغنياتهم: (هولاند – دوزيير – هولاند). وأتتبعهم، حتى إني أوصيت صديقي معن عربي على كتاب اغنياتهم، وأحضره لي. ولكن لماذا لا أعرف حتى اسم مغنيهم الأول؟ حسناً! إنه ليفي ستوبس، الصوت الأمثل لموسيقى السول. ثم هناك عبدول -الدوق- فقير. الطويل الضاحك ذو النظارة! أظن اسمين يكفي.

• هل لديك قدرة على تغيير الأسماء؟•• أمتلك القدرة على تغيير أسماء الأيام، الاثنين أسمّيه الأربعاء، والجمعة أسمّيه الخميس.

• بماذا تحلم؟••أن أضع فوق كل قصيدة اسم صديق، شيء قريب مما فعله ليبوبولد سنغور عندما وضع فوق كل قصيدة اسم آلة موسيقية.

• إلى أين تريد أن تذهب؟•• أريد أن أذهب إلى مكان ناء، وأصيح باسمها. أريد أن أذهب إلى شاطئ بعيد، أهبط وادياً، أصعد جبلاً، وأصيح باسمها بكل قوتي. ولا أريد أن أصيح باسمها، هنا والآن، أمام الناس، بين الناس. لأن الناس، سيفسدون علي غايتي الأهم من الصياح. لأن صيحتي سوف تتشتت بينهم، ولأن أجزاء منها سوف تتوزع على آذانهم. ولأنهم قد يظنون أنني أصيح بهم، وأن صيحتي موجهة لهم. وأنا لا يهمني الناس، عندما يتعلق الأمر بها، أياً من الناس. ولأن المكان هنا، ضيق، يغطيه سقف، وتحده الجدران، ولا تستطيع العين أن ترى أفقاً، ولا سماء. أريد أن أصيح باسمها، عالياً عالياً، بأقوى ما أستطيع، فلا يسمعه إلّا اللّـه.

• ما مقدار حاجتنا للجُرأة؟•• عاد نجيب عوض من بيروت، وأحضر لي معه عدد مجلة الآداب المخصص عن الرقابة في سوريا، الذي تضمن مقالي عن منع مجموعتي الشعرية (داكن)، معلقاً بقوله: «لا يوجد من تجرأ على ذكر الأسماء سواك!».

• كيف تكتب؟•• أكتب كمطعون، لا هم بقي له سوى أن يغمس رأس أصبعه بدمه، ويكتب اسم قاتله.

• متى تم توظيف اسمك دون علمك؟•• أصدر المثقفون السوريون بياناً عن اغتيال سمير قصير عليه توقيعي، دون أن يسألني أحد! اتصلت بياسين حاج صالح فقال لي ليس هو من أعطاهم اسمي، وإن اسمه أيضاً مذكور رغم أنه لم يوقع على البيان، ولكن…. ليست هناك مشكلة؟

• أي مكان يسكنك؟•• (الأرض) مجرد عقارات! تقاس بالأمتار، وتشترى وتباع بالنقود! تحتلها الأسواق والجوامع، وتبنى فوقها العمارات السكنية والمستشفيات والفنادق! قاطنو المدن، كما تعلم، لا يفلحون ولا يزرعون حتى يعرفوا المعنى الحقيقي لكلمة أرض. كل ما لديهم هو بعض الحدائق العامة والمنزلية، المهملة غالباً أو المعتنى بها بصورة زائدة! حيث تضيق الأرض فلا تعود أرضاً! وتنحصر الطبيعة فلا تعود طبيعة. ثم، كيف أنسى، لديهم أيضاً أحواض ترابية ضيقة تحتل أجزاء من الأرصفة على شكل مصطبات دائرية، يغرسون في وسطها أشجاراً، يحيطون جذوعها بأقفاص، تصطف على طرفي الشوارع، وفي ظنها، أن الشوارع أنهار والأرصفة ضفافها، أما البشر الذين لا ينفكون يندلقون فيها، ماضون لقضاء مشاغلهم، ولمصائرهم، فهم مياهها!

• من يُعطي المكان قيمته؟•• لطالما سمعت الآخرين يلغطون، فيما إذا الناس هم من يعطون المكان معناه، قيمته؟ أم أن المكان له معنى وقيمة بذاته؟ أو، بتعبير أفضل، ما إذا كان من حق المكان علينا، نحن شاغليه وسكانه أن نعطيه الحق بالقيمة لذاته، ولا لشيء آخر طارئ يأتي عليه ويذهب! سمعت مرة، في مقابلة إذاعية على الـ(بي بي سي) النجمة السينمائية (مارلين ديتريتش) تجيب بحنق ظاهر على سؤال، أي المدن كانت الأحب إلى قلبها، برلين أم باريس أم برشلونة؟ قائلة: «ذهبت إلى هذه المدن وسكنتها زمناً، لأنني أحببت رجالاً كانوا يحيون فيها!». بالنسبة لي، غادر اللاذقية الكثيرون ممن كانوا يصنعون معنى وقيمة المكان! ممن كانوا حقاً روح المكان، ولكن، رغم افتقادي الشديد لهم، ورغم كل ما أصاب لاذقيتي من أذى، ومن تبدل، ليس للأفضل، للأسف، ما زلت أشعر بمعنى عيشي فيها، وجدواه. فهي مثلي لم تبارح مكانها، لم تغادر!

• هل للمكان روح؟•• سألتني صديقة؛ ذات السؤال؛ أنا الذي لا أؤمن بالأرواح، أجبتها: «نعم! نعم بالتأكيد». نعم للمكان روح، كما له جسد، لا بل أجساد وأرواح! لأن الأمكنة أيضاً تولد وتعيش و.. تموت! ولكنها سرعان ما تعود لتولد وتعيش و.. تموت. ثم تولد وتعيش وتموت في دورة أبدية لا تنتهي. ولأن المكان كائن حي، فيمكن أن يكون أماً أو يكون صديقاً، كما يمكن أن تكون المدينة حبيبة! أقول لك، أحببت الكثير من النساء، أو ربما خيل لي أني أحبهن، أعطينني كل شيء مقابل.. لا شيء، لولاهن، ربما، لا ليس ربما بل بالتأكيد، لما كتبت وما رسمت ولما أنجبت أولاداً، ولما فعلت أي شيء يذكر، ولكن حباً واحداً، كنت وما زلت أشعر به وأحياه، وليس لدي أي شك به، لأنه سبق واختبرته العديد من المرات، وفي الكثير من الظروف المناسبة وغير المناسبة، وفي كل مرة كان يأتي مبدداً شكوكي ومجدداً إيماني! هو.. اللاذقية! لذلك لم يكن فيه ذرة ادعاء، ما كتبته كتعريف بي في صفحتي على الفيس بوك: «ولدت وعشت وسأموت في اللاذقية. قرار لا رجعة عنه.. مهما كانت الظروف ومهما كانت العواقب». وأستطيع أن أزيد المغريات! لأنه، كما يعلم الكثيرون، كان ولا يزال لدي فرص حقيقية لمغادرة البلد والعيش في أمكنة عديدة أشد أمناً واستقراراً و.. لا أريد أن أقول جمالاً! لكني لم أفعل، ولا أريد أن أفعل! مردداً كل مرة أسأل بها، ومرات دون أن يسألني أحد، لأن هناك حاجة تدفعني لأردده لنفسي: «لا ندم ولا مأثرة.. بقيت كبقية الأشياء الباقية». كلام كثير أستطيع أن أورده عن أسباب عدم مغادرتي ما أسميه الحفرة السعيدة، حتى إني أسميت مجموعتي الشعرية الأخيرة (قصائد من الحفرة)، ما يبدو وكأنه تعلق جنوني بالمكان، وربما هو كذلك. لأنه يقتضي جنوناً كما البقاء في مكان قاس ومؤلم، ومكلوم ومفجع، كسوري، ولكني سأنهي بوحي الحزين هذا، بقصيدة كتبتها عن واقعة حدثت لي عندما كنت طالباً جامعياً في حلب، عندما اضطررت مرة للتنقل من غرفة مكثت بها أكثر من سنتين، إلى غرفة أخرى في بيت آخر في حيّ آخر:

طويلاً أقِمتُ في هذا البيت

طويلاً مكَثتُ في هذهِ الغُرفة

عِندَ هذهِ النافذة

وراءَ هذا الباب

بينَ هذهِ الجُدران.

**

وعِندما حزَمتُ حقيبتي وخرجت

ما إن أدرتُ ظهري

حتَّى سمِعتُ

جِداراً

يُنادي اسمي

• ماذا عن الصداقة؟ •• الصداقة نهد أصيل؛ نجيب عوض. أحد الأصدقاء الذين يعلمون كيف رضعت من هذا النهد طوال حياتي. صداقتي مع نجيب بدأت ربما يوم مولده، وستنتهي يوم موتي! أو ربما ستكمل معه إلى اليوم الذي سيلحقني به ويموت. أمّا مصطفى عنتابلي، صديقي من يوم ولدت أنا، ولا تسألني كيف، وهو أصغر مني! فقد كتبت قصائد عديدة، طويلة وقصيرة، للحد الذي يمكن به أن تتضمنها مجموعة شعرية خاصة به! منها: (رأسان على وسادة ضيقة – على وجهك علامات براءتي- تفوقت علي في كل شيء دون أن تقوم به- أنت الأرقام وأنا النسر) تستطيع أن تجد قبيلة كاملة من الأصدقاء، الذين، كما قلت في مقدمتها، لم يزاحمني في شعري شيء في احتكاري دور البطولة سواهم!

• من هم الأصدقاء الذين لا تنساهم؟•• محمد سيدة.. علمني.

– محمد كامل الخطيب. من حمل شعري تحت إبطه!

– زكريا تامر.. أول من نشر لي قصيدة، عندما كان يرأس تحرير مجلة الموقف الأدبي، العدد الأول في 1974.

– عبد الله البردوني.. زارنا في مقر عملنا أنا وبوعلي ياسين، وأخذ مني قصائد، إحداها (من نافذتي يا أمريكا)، ونشرها في مجلة الحكمة اليمنية 1976.

– يوسف بزي.. أقنع رياض الريس ليصدر لي بعد 18 سنة من حياة الظل والصمت، مختاراتي الأولى: (مزهرية على هيئة قبضة يد) 1997.

– رياض نجيب الريس… نظر إلى مخطوطة (الشاي ليس بطيئاً) وسألني من أين تأتي بكل هذا الكلام! وأصدر لي ثلاث مجموعات متتالية آخرها (من الصعب أن أبتكر صيفاً) 2008.

– كلود كرال.. مترجمة مختارات (أهل الساحل) إلى الفرنسية 2000. عندما ماتت أوصت لي بمبلغ رمزي من المال! لم تكن متزوجة وليس لها أولاد!

– خالد خليفة.. أنشأ دار نشر وأصدر أربعة كتب، رواياته الثلاث، والجزء الأول من أعمالي الشعرية (المجموعات الأربع الأولى) 2006.

Trending

Exit mobile version