برغم كل ما أحدثته الصحافة في روحه من ندوب، وما أرهقت به كاهله من المتاعب، وما كشفت لناظريه وبصيرته من زيف وخداع و«شوفة نفس»، إلا أنه ظلَّ وفيّاً لمهنة الأصل فيها «الحسّ والكفاءة». لم يعتنِ بالمكافآت مع أهميتها، ولم يتشوّف لمناصب يسيل لها لعاب كثر وتنفتح شهيتهم على الآخر، فما يؤرق زميلنا النبيل؛ إتقان العمل مع الكبار، وذاك لا يكون إلا بعمل كبير، وهكذا كان، وما زال، وسيظل الكاتب الصحفي علي مكي إدريس.
ولا يغيب عن ذهن أصدقاء «ابن مكي» الذين لا حصر لهم ولا مِصر، أن صديقنا «الاستثنائي» دخل بلاط الصحافة من نوافذ الأدب، ولو لم يكن جديراً بها لما رحّبت به، ولما قالت برغم وفرة عُشاقها «هِيت لك»، ولما أشرعت باب مخدعها، إذ بان لها أن الضمدي المنتمي، استلّ مبكراً من شغاف قلبٍ مهجوسٍ بالأجمل دواعي الخمول والدعة، وازداد تعلقه بمستقبل يزيد غموضه كلما اتسعت حدقات الاستيضاح، فانبرى للاتصال والتواصل بالمعرفة، وأعلى مكانتها فرفعت مقامه، وكعادة القادمين من القُرى النائية، إلى مُدن لا ترحم، في ذممهم عهدُ ووعد ببياض الوجه، وقد كان.
ومن خلال منتجه الأحدث «علمانيون وإسلاميون.. جدالات في الثقافة العربية» يوثّق الصديق الفنّان لمرحلة حفيّة بالتوثيق، فالإبداع والفكر لا ينبتان عن سابق ولا يحسران عن لاحق، ولا يتبرمان بتأثير وتأثر، ولا يتبرآن من أخطاء وخطايا، وباعتبار «أبو مشعل» رُبّاناً مخر عُباب بحور مهولة، وخاض غمار منازلات، منها الشريف ومنها دون ذلك، آثر أن يجدد صلتنا بالأمس الذي كأنه اليوم، وبحكم وعيه بأهمية من حاور وما طرح، واستشعاره خطورة تسييل الثقافة؛ جمع نتاج حواراته الأصلب في هذا الكتاب، فكأنه يقول: ما زال للثقافة الصلبة محل وقبول.
وما يستوقف القارئ في هذا السفر الغني بأسئلته وإجاباته وضيوفه ومقدميه، أنه صناعة شاب لم يتهيّب مقارعة القِمم بعاطفة تتسع للكون، وبروح شغوفة بوضع بصمة في صفحة التاريخ، بصمة نقاء تؤكد أن الصحافة السعودية لم تدر وجهها للنخب العربية، بل كانوا محل التقدير والحفاوة، وفُتحت الملاحق لكتاباتهم ونقدهم، عكس ما يتعامل به من يرون أنفسهم «مراكز» مع مبدعينا ومفكرينا السعوديين.
في هذا الكتاب الفخم الصادر عن «جداول» في 350 صفحة، خلاصة أفكار 25 شخصية، احتلت هذه الشخصيات -وما زالت- حيّزاً من الوعي العربي والإنساني، وما فتئت تملأ الفضاء وتشغل الناس بأطروحاتها وآرائها المُهادنة والصادمة، فشكراً لمن حفّز، وألف شكر لمن أسهم في شد انتباهنا للوراء الذي هو أمام، كان ولا يزال ضوءاً وفناراً، وكل ما سبق يؤكد أن «علي مكي» لا يصلح إلا أن يكون مُحاوراً لا يرى كبيراً في محيطه إلا سؤالاً صادماً، وإجابة صادقة.