تتميز تجربة الشاعر علي بافقيه بالتطابق بين الشخص والنص، فالإنسان الصادق هو الشاعر الراقي بالذائقة، والمُدهش بالمفردة، والغارق في جماليات المنجز الشعري العربي؛ ليكتسب ما يقدمه ثراءً وعذوبة ونفاذاً إلى أرواح مريدي قاموس (أبو يافا). وصادف أن يأتي الحوار في ظرف صعب، إذ فقد ضيفنا ابنه (ياسر 24 عاماً) وبسؤاله عن سبب إخفاء خبر وفاة فلذة كبده، قال: يا أبا محمد كل صديق مثقل بما يكفي من أحزانه، ولم أُرد أن أضاعف حزن أصدقائي، ليكون سؤالي الأول:
• ماذا يعني الفقد لشاعر مرهف الحس؟
•• البكاء، ما كنتُ أذكر متى بكيت آخر مرة، وها هو يذكرني. والصمت، هذه ليست أدوية أظنها مسكنات. أعترف أنني لا أجيد الحديث عن هذا السؤال، أشكر الأصدقاء، لقد حاولوا ملء الفراغ المرعب.
• ماذا بعدُ أبا يافا؟
•• سؤال محكور، في مكة يقولون شاهي محكور إذا كان تمام وينعش المخ. أنت أستاذ يا أبا محمد كأن (علي) ذا الـ30 عاماً الذي يصر على التواجد معي إلى اليوم يقول لهذا الذي تخطى الـ65 عاماً ماذا بعد يا عم علي؟
• ما الذي يشغلك اليوم؟
•• من طبعي أنني لا أتهرب من الأمور والوقائع أكانت شخصية أو عامة، يشغلني الآن الخروج من سنتين حَكَمَها كورونا، أقصد يشغلني الخروج إلى زمني الفسيح وخطواتي الحرة.
• ألا يكفي هذا التوقف الطارئ؟
•• لا أعلم يا صاحبي، تعودت أن أكتب بمزاج تلك اللحظات العظيمة والتجليات، نشوة الكتابة وطزاجة اللغة.
هي عادة سيئة للأسف وعليَّ التغلب على هذه العادة.
• ما أثر شخصية ومزاج الشاعر في نصوصه؟
•• شخصية الشاعر ومزاجه وطقوسه ومشاغله هي الرحم والمخاض للنص الشعري، ربما لهذا السبب نجد لكل مبدع لغته الخاصة به ورؤيته.
• هل من مبرر لهذا الصمت الشعري الطويل؟
•• لا أعلم! ومرة أخرى عليّ التغلب على هذا الصمت.
• كيف ترى من يُصدر كل عام ديواناً أو مجموعة؟ ومن يكتب كل يوم قصيدة؟
•• ليس من حقي الحكم على مثل هذه الأمور وهؤلاء الناس، لكن النص الشعري بجسده وروحه وقيمه الجمالية هو الذي يمكن أن نرى ما له وما عليه.
• هل الشاعر المميز قارئ متميز، أم موهبة وإن تضاءلت قراءته؟
•• كلاهما معاً من أدوات الشاعر. وللشاعر رؤيته للحياة والناس، وهو أدرى بالآفاق التي يتحرك فيها ويتجلّى فيها.
• ما سبب تحفظك على النص العمودي؟
•• ليس لدي تحفظ على الشكل العمودي، أو لنسمه الكلاسيكي، إنه شكل عظيم؛ لكنني أتحفظ فقط على النظم، فنحن نعرف أن النظم ليس هو الشعر. لا يزال نص المتنبي طازجاً وخالداً.
• ما أدبيات علي بافقيه مع نصّه؟
•• كما قلت سابقاً، أميل إلى اللحظة الشعرية آن أجد نفسي مهيئاً للكتابة ربما لأنني تعودت ذلك، أما في المقال أو النثر فأميل إلى لغة تقترب من النص الإبداعي. المهم هنا عدم إثقال النص. عفويته تجعلني أواصل الكتابة وأحياناً أترك الكتابة إذا لاحظت زوائد أو تكلفاً.
• متى سنقرأ الأحدث من نصوصك؟
•• قريباً إن شاء الله.
• بماذا ترد على من يرى قصيدتك أنثوية بحسّ إنساني؟
•• أرَحّب بكل زوايا القراءة، وأعتقد أن النص له طبقات بعضها فوق بعض، وكل طبقة لها تجلياتها.
• أين شعراء السبعينات؟
•• أواخر الستينات وأوائل السبعينات كنت طالباً في الثانوية مهووساً بالشعر، وعندما بدأت النشر في الساحة الأدبية لاحظت أنهم يسموننا شعراء السبعينات! أين هم الآن؟ تناثروا كل في فلك يسبحون.
• هل أكلت الحداثة أبناءها؟
•• لا مفر من الحداثة، فالحداثة ليست ذلك الشيء الذي يحاربه المحاربون بكل أصنافهم. إنهم يحاربون شبحاً ويظنون أنهم يحاربون الحداثة. الحداثة هي سيرورة المجتمعات من عصر إلى عصر آخر له معطياته التي تختلف عن معطيات الماضي.
• أين تضع شعراء الألفية الجديدة من مشهدنا الشعري؟
•• لم يعد المشهد واضحاً، فهو متناثر بين الصحف ومنصات التواصل الاجتماعي على النت.
•ماذا تقول لشاعر مهجوس بمنافسة أنداده ومجايليه؟
••برأيي أن على المبدع أن ينافس نفسه وذاته الابداعية والشخصية، وأن يرتقي بها فنيًاً وإنسانياً، ويتجاوز المألوف والراكد. هكذا يكون الشاعر شاعراً.
• هل لك آباء شعريون محليون؟
•• نعم لي آباء محليون وعلى امتداد الوطن العربي، وكذلك من غير العرب، من امرئ القيس والمتنبّي إلى لوركا الأندلسي وبول إيلوار الفرنسي، ومن الرواد مثل العواد والسرحان والقرشي وعبدالكريم الجهيمان ومحمدالعلي، أما علي الدميني فهو الذي وضع يدي على السر في الخروج من شكل البيت إلى شكل التفاعيل.
ما الفرق بين تجربة السياب وتجربة نازك الملائكة! الخروج من شعرية البيت إلى شعرية التفاعيل ليست مجرد تفكيك للشطرين فهذا عمل بسيط، من هنا تأتي عبقرية السياب وريادته في تجديد الشعر العربي وإلا فما جدوى تخريب البيت الشعري بشطريه ورنين قافيته؛ ولهذا فإن ريادة التجديد في شعر التفعيلة العربي بلغة شعرية جديدة وقيم جمالية جديدة للسياب، وريادة التجديد في الشعر المحلي لعلي الدميني.
• من الناقد الذي أنصف تجربتك؟
•• لا أهتم كثيراً بهذه المسألة قدر اهتمامي بما أكتب، لكنني دون شك أقدر هؤلاء، سأذكر محمد العلي وعبدالله نور والدكتور سعد البازعي وزملائي المبدعين في الساحة الأدبية الذين أخذوا بيدي بمحبة ودفعوا بي إلى النشر.
أما الاكتراث بجمع نصوصي في كتاب فقد كان لصديقي المبهر جبير المليحان وأستاذي عبدالله نور الذي أخذني في ناحية وأنبني لعدم جمع نصوصي في كتاب يرحمه الله كان مُحباً كبيراً.
• ماذا بقي من الثقافة الصلبة في زمن سائل؟
•• يبقى الحفاظ على القيم الإنسانية والارتقاء بالثقافة الإنسانية، وكذلك الارتقاء بالفنون والآداب التي تعكس في تجلياتها حال المجتمعات والناس وتوقهم وآلامهم وأفراحهم ومخاوفهم.