Connect with us

ثقافة وفن

عبدالعزيز خوجة: لو لم أنجز من شعري إلا الأسفار لكفتني

الذي عرف، الشاعر الوزير السفير الدكتور عبدالعزيز خوجة، قبل ترجّله عن كرسي المسؤولية، وحظي بلقائه إثر التقاعد،

الذي عرف، الشاعر الوزير السفير الدكتور عبدالعزيز خوجة، قبل ترجّله عن كرسي المسؤولية، وحظي بلقائه إثر التقاعد، سيكتشف، أن معدن هذا الرَجُل الإنساني، لم ولن يتغير، فالبساطة، والتواضع، ودماثة الخُلق، واحترام الناس، أبرز خصائص شخصيته، فيما تتجلى أريحيته وذائقته الشاعرة العاشقة للجمال، والمُعبّرة عنه بالمنطق المُهذّب، وخلال دعوته لإحياء أمسية في أدبي منطقة الباحة، كانت الفُرصة مواتية، لإجراء هذا الحوار:

• متى كانت البداية مع الشعر؟

•• أعتقدُ أن الشاعر يولد شاعراً، ثم يبدأ باكتشاف شاعريته بالتدريج، من خلال تفاعله مع الموجودات، والمخلوقات الكونية، من شجر، وبشر، وكواكب، وسحب، وغابات، وكانت تستوقفني وأنا طالب، الزهرة، أو يشدني اكتمال البدر، وأبدأ أعلّق على جماليات ما أرى، وزملاء المدرسة يتضاحكون، وهذا الشعور بأن عندك حساسية خاصة تجاه الأشياء، مؤشر شاعري، إذ ترى في ما تنظر إليه ما لا يراه غيرك، وتكتشف ما لا يكتشفون، وقرأتُ سيرة أبو زيد الهلالي، وعنترة، وحفظتُ القصائد ورددتها، فعُرِفتُ بالشاعر بين أهلي وزملائي.

• ما النص الأول الذي خضت به التجربة؟

•• «بماذا أخط إليك جوابي، أبلوعتي أم بالعذابِ» وكنت في المرحلة المتوسطة، وتعرفت على المحرر في صحيفة (قُريش) علي مهدي الشنواح، وأسمعته القصيدة، فأخذها للأستاذ أحمد السباعي، فطلبني، وذهبتُ إليه، وسألني: القصيدةُ لك، فأجبته: نعم، فقال: هذه قصيدة موزونة على البحر المتقارب، وتكرّم بنشرها، ونصحني بحفظ الشعر العربي، لبناء الذائقة، وأكد أن الموهبة حاضرة لكنها تحتاج رفدا بالقراءة والاطلاع.

• هل الشعر موهبة أم صنعة؟

•• موهبة، والموهبة تنمو بالرعاية والاهتمام، وأنا عملتُ بنصيحة أبو نواس، التي مؤداها «احفظ ألف بيتٍ من الشعر، ثم انسها» فحفظت من المعلقات، ومن شعر شعراء صدر الإسلام، ثم الشعر الأموي والعباسي. والقراءة رافد كبير، إلا أن تجربة السفر والترحال، طالباً في بريطانيا، ثم سفيراً في عدد من البلدان، كل ذلك غذّى تجربتي، وأغناها، وأسهم في زيادة المحصول الشعري.

• مَن هم آباؤك شعرياً؟

•• لكل مرحلة من مراحل العمر، شعراؤها، وآباؤها، ربما تعجبنا القصائد أكثر، لكني تأثرتُ بمالك بن الريب، ولم أفهم المتنبي وأبو تمام إلا في العشرين من عمري، ونحن أبناء التراث أردنا أم لم نرد، ويظل للشعراء العاطفيين بصمة في الوجدان، خصوصاً الذين عاشوا معاناة.

• كيف أسهمتْ دراستك للكيمياء في ميلك الوجداني؟

•• الكيمياء هي الحياة، بكل تفاعلاتها، والشعر أداة التعبير عن تفاعلات النفس مع محيطها، وأنا أتعامل مع الشعر تعاملي مع الكيمياء، وهناك تناغم بين العلوم والفنون، وليس كل من يدرس العروض، ويتخصص في الأدب يغدو شاعراً، والعلوم تكشف جانباً من أسرار الكون.

• ماذا عن حس التصوّف في التجربة؟•• التراث الصوفي؛ فتح لي آفاقاً، وأمدني بأبعاد جديدة، ونقلني لعوالم أجمل، مليئة بالدهشة والتجدد، وأعد قراءتي للشعر الصوفي مثرياً وإيجابياً.

• ما مدى رضاك عن تجربتك الشعرية؟

•• لو لم أنجز سوى الأسفار، لكفتني، فمجموعة (سِفْر الرؤيا) هي عبارة عن قصيدة متصلة، تنتظم فيها قصائد شعرية: «سفر الأنا»، و«سفر المناجاة»، و«سفر الخلاص». واستشعرتُ كثيراً من الرضا عنها.

• ما أثر المرأة في شعرك؟•• المرأة أثّرت في تجربتي الحياتية والشعرية، وهي الأساس، في كل شيء، ولذا قلتُ لها «ذهبت على أنفاسها كبدي، أفديك من أنثى إلى الأبد».

• أين يقف النقد من تجربتك؟•• موقف النقد الفني ضروري، لتطور التجربة، وإن كان النقدُ جارحاً أو قاسياً أو سلبياً، كل ناقد يتناول عملاً يضيف له، وينبه صاحبه على ما لم يدر بذهنه، فالشاعر لا يكتشف جماليات نصه، ولا مواطن الضعف، إلا من خلال ناقد متمكن، والناقد الموضوعي أخبر من كاتب القصيدة، بها؛ وبقدر خلفيته الثقافية يخلق نصاً موازياً بالنقد.

• كيف رأيت العواصم التي عملتَ بها؟

•• المدن مثل النساء، هناك جميلات نعشقهن من أوّل نظرة، ولكل مدينة روح تلامسك بشيء من أنفاسها، عشقتُ بريطانيا أيام الدراسة، ثم إن الزملاء السفراء يقولون، حظك طيّب، لأن الخارجية اختارت لك أجمل البلدان، وموسكو بانوراما من الإيحاء الجمالي والإبداعي، المستثير للعين والسمع والوجدان، والمغرب جمال طبيعة وإنسان، وذائقة شعراء، وفضاء فلاسفة ومفكرين، ولبنان بلد مكثّف الجمال والفن والقصائد والأدب، وبصمة لبنان في شعري واضحة، وتأثيرها عميق.

• ما دلالة دعوة الشاعر لإحياء أمسية، وأنت اليوم في أدبي الباحة؟•• بالطبع ليست كل الدعوات مُغرية بالتلبية، والشاعر عندما يُدعى من منطقة بقامة الباحة يفرح فرح الطفل بالهدية، وأشكر الباحة؛ أميراً، وكيل إمارة، ومسؤولين، ومجتمعاً، وأثمّن لرئيس النادي الأدبي الصديق الشاعر حسن الزهراني، الدعوة، وممتن للحضور الجميل الذي شرفني، بالاستماع لشعري، ولمقدم الأمسية الزميل سعد زهير، وتظل الباحة شاعرة أولى منذ الشاعر الشنفرى، إلى الشاعر علي الدميني.

• بصراحة، هل تراجع اهتمام النُقّاد بشعرك إثر تقاعدك؟ •• المنصب يضرُّبالشاعر، سواء بالغ الناقد في الإطراء غير المستحق، أو تهيّب التناول خوفاً من مركز الشاعر وموقعه الوظيفي، وبالخروج للتقاعد أرى أن الكتابة عن الشاعر ستكون موضوعية.

• ماذا أضاف غناء نصوصك لك؟•• أسهمت في انتشار اسمي؛ خصوصاً أنه غنّى لي محمد عبده، وعبادي الجوهر، ووديع الصافي، وصباح فخري، وآخرون من مصر والمغرب، وأنا سعيد بغناء قصائدي.

• هل ما زلتَ تصحو باكراً وتقرأ؟•• نعم؛ فأنا قارئ نهم، ولا أُحب الترهل.

• أنجزت مشروع القنوات التلفزيونية، كيف ترى غياب القناة الثقافية؟ •• إلغاء القناة الثقافية مُحزن، وهي مطلب كل المفكرين والمبدعين والمثقفين والأدباء والفنانين والشعراء، والإعلاميين، كون الوطن يتميز بتراث ثقافي ممتد تاريخاً وجغرافياً، ماضياً وحاضراً، ولدينا الكثير من المبدعين والفنانين والشعراء والأدباء.

• انطباعكم عن معرض الكتاب؟ •• معرض الكتاب غدا مضرب مثل ومقصد الناشرين، وإثر خروجي من الوزارة، أصبحتُ أتابع الأخبار الطيبة عن بُعد.

Continue Reading

ثقافة وفن

انكفاء

إلى الغائب الحاضر دوماً الكبير محمد الثبيتي؛تنكفئ الرياحُ عن أشرعتكَالتي أربكتْ جهاتُها حاسَّةَ الشَمِّ لديهاتنكفئُ

إلى الغائب الحاضر دوماً الكبير محمد الثبيتي؛

تنكفئ الرياحُ عن أشرعتكَ

التي أربكتْ جهاتُها حاسَّةَ الشَمِّ لديها

تنكفئُ الموجةُ عن شواطئك

كل ما هجَستْ بالأشواطِ التي تنتظرها في ميناءكْ

تنكفئُ المسافةُ عن خطواتكَ التي لم تعد قادرةً

على تجسيرِ الهُوَّةِ بينها وبين أجْنحتِكَ المنسوجةِ بخيوط البرقْ

تنكفئُ الغيومُ عن شتاءاتكَ

لأن ثَمَّةَ مطرٌ فاضَ من وديان حروفكَ

ولا يزال يكتبُ روايةَ الطوفانْ

ينكفئُ الزمنُ عن عقاربِ ساعاتكَ المُعلَّقةِ في جدرانٍ فقدتْ إيقاعَها منذُ هجرها الوقتُ فسقطت في بِرْكةِ الدُوارْ

ينكفئُ الأفقُ عن نافذتكَ المغروسةِ فاصلةً في أوراقِ العُمرِ

تُغْري بها ما تبقَّى لطيورِ معانٍ حرَّرْتَها من أقفاصِ مجازاتكْ

تنكفئُ الغربةُ عن أبوابكَ المُشْرعةِ برائحةِ أغانيكَ الليْليةِ

كأنَّها أسطوانةٌ لا تملُّ من الدَورانِ

مُؤنسةً وحشةَ الكلماتِ التي تنتظرُ عودتكْ

أخبار ذات صلة

Continue Reading

ثقافة وفن

وصية الذئب الأخيرة

ها أنا..ذئبٌ يقضي أيامه الأخيرة؛منتظراً انحدارَ الوعول من أعالي الجبال ليُطعِمها اعتذاره،ويمضي إلى حتفه جارّاً

ها أنا..

ذئبٌ يقضي أيامه الأخيرة؛

منتظراً انحدارَ الوعول من أعالي الجبال ليُطعِمها اعتذاره،

ويمضي إلى حتفه جارّاً قوائمه بصعوبة.

لا يتذكّر غير الهواء الذي أدمى رئتيه

… الأحجار التي لعقها تاركاً رائحته للكلاب

الدماء التي تبعها العواء في وجه الأيام

… إغماض عينه قبل أن يخرج ثدي الضوء من مخبأه.

ها أنا..

أُمدِدُ نحيبي على التراب، متذكراً عائلتي التي أكلتها الرياح..

الرصاص الذي أخطأ طريقه إلى قلبي آلاف المرات؛ نادماً على ضياعه قبل هذا الأوان.

وحيدٌ.. إلاّ من رئتي الواسعتين والمدربتين على الركض خلف الفرائس.

نعومة الرمل وقدح الصخر تحت مخالبي.

قوائمي المتورمة.

خوف القطعان العزلاء ورائحة صغارها ورقابها في فمي.

ها أنا يا إلهي،

أركضُ مرةً، وأقعي مرةْ..

منتظراً الوعول لأسمعها اعتذاري الأخير عن ضرب أنيابي في جلود ذريتها كلّ هذه السنوات.

عن الخوف الذي أسمعه في أظلافها قبل أن ترى عينيّ المتقدتين بالغريزة والأوجاع.

عنه.. وأنا أستنشقُ رائحةَ العشب في أفواهها.

ها أنا..

أقفُ في هذه الأرض منتظراً…

الشيبُ يخدشُ بصري

جِلدي يابسٌ

أضلاعي تكوّمت

أنيابي قشّ

وها هي وصيتي الأخيرة في انتظار الفريسة والقطيع الذي لن أتذوّقَ دمه احتراماً وندماً.

… لقصته التي دافع عنها ببسالة و…

ندماً على ما فعلته به من التربّص والخديعة.

فيا أيّتها القطعان البعيدة والخائفة من المخابئ والجوف..

ها هو سلاحي يثلمه الوقتُ وترقبهُ الثعالبُ والأفاعي والدّود..

وأغنياتي لم تعد كافية للعيش.

أمّا ورثَتي فغادروا.

وبرُ جلدي تدعكه الأشواك ليأخذه رجل خائفُ يُغنّي عليه بشجاعة..

هو نفسه الذي أيقظ لهاثي حواسه، ونبهته ضربات قوائمي.

ها أنا (الوحيد) أحمل معطف سنواتي بتعبٍ لا مثيل له.

فتعال أيّها القطيع لنُنهي الأمر،

ففي قلبي ما يكفي من الكبرياء والنّدم.

تعال.. فلم يعد هناك من الوقت ما يكفي قبل قبضة الوجود الهائلة والأبدية.

أخبار ذات صلة

Continue Reading

ثقافة وفن

حاتم البطيوي: مكتبة بندر بن سلطان فضاء حيوي.. و«أصيلة» لم ترتبك

يسكن أمين عام منتدى أصيلة، حاتم البطيوي، قلب من يعرفه، ومن يلتقيه، ومن يقرأ له، شخصيّة وُلِدتْ بالقُرب من المحيط

يسكن أمين عام منتدى أصيلة، حاتم البطيوي، قلب من يعرفه، ومن يلتقيه، ومن يقرأ له، شخصيّة وُلِدتْ بالقُرب من المحيط الأطلسي، فاستنشقت الصفاء والنقاء والافتتان بسفر الخيال على صفحات الماء، واشرأبت روحه للتواصل الثقافي مبكراً، فانتسب لجمعية المحيط الثقافية منذ عام 1979م، التي غدت لاحقاً مؤسسة منتدى أصيلة، وتم تكليفه بالإعلام، وكان من أبرز المساهمين الرئيسيين في الفعاليات الثقافية والفنية للموسم، وظلّ وفيّاً للأدب والفنّ والإبداع، رغم أنه حائز على إجازة في العلوم السياسية من كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط عام 1989م، إلا أنّ عشقه تغلّب على تخصصه. عمل البطيوي في بداية مشواره الإعلامي صحفياً متدرباً في جريدة «الشرق الأوسط» بمقرها في لندن لمدة سنة (1989-1990)، ثم مراسلاً للصحيفة في الرباط (1990-1996). وخلال الفترة ذاتها عمل مراسلاً لراديو «إم بي سي إف إم» في المغرب.

في عام 1996 انتقل إلى لندن للعمل في المقر المركزي لجريدة «الشرق الأوسط» وظل هناك حتى عام 2004. حصل البطيوي في عام 2014 على وسام رفيع من الملك محمد السادس، ومنذ أشهر تم انتخابه أميناً عاماً لمنتدى أصيلة، خلفاً للمؤسس الراحل محمد بن عيسى. وهنا نصّ حوارنا معه:

• كيف حال مكتبة الأمير بندر بن سلطان في أصيلة بعد مرور عقدين على إنشائها؟

•• تجاوزت مكتبة الأمير بندر بن سلطان في أصيلة مفهوم المكتبة التقليدية، لتغدو ذاكرة حية ومؤسسة فكرية نابضة في قلب المدينة، ومركز إشعاع ثقافي منفتحاً على العالم. وقد حافظت على رسالتها الأصيلة في نشر المعرفة، وتحولت إلى فضاء يعكس دينامية التحولات الفكرية التي تعرفها أصيلة، ومرآة تنبض بحيوية موسمها الثقافي الدولي ومحيطه الإبداعي.

تحتضن المكتبة اليوم ورش الإبداع، ومشاغل التعبير الأدبي، وكتابة الطفل، إلى جانب اللقاءات الفكرية ومنتديات الحوار المخصصة للشباب. كما أصبحت مختبراً لإنتاج الفكر والمعرفة، وفضاء خصباً لورش التفكير التي تستشرف آفاق المستقبل الثقافي للمدينة والمنطقة. وإلى جانب دورها الثقافي، تظل المكتبة شاهداً على متانة العلاقات الأخوية التي تجمع المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.

• هل أثّرت الظروف العربية في العقد الأخير على أصيلة سلباً؟

•• لا شك أن التغيرات الإقليمية أفرزت تحديات لم تكن أصيلة بمنأى عنها. لكن اللافت أن المدينة لم ترتبك أمام العواصف، بل تماسكت، وواجهت هذه التحديات بإصرار على أن تظل منبراً للسلام والاعتدال والتسامح، ومنصة للفكر الحر، وجسراً بين الشعوب دون أن تفقد روحها. وتحقق ذلك بفضل الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، والدعم المؤسساتي والمجتمعي الوازن، إذ مكّن هذا الحاضن الرسمي والشعبي المدينة من مقاومة الانعكاسات السلبية، وتحويل الأزمات إلى فرص لإعادة التأكيد على رسالتها الثقافية الكونية.

• كيف تقرأ معطيات الوفاء الأدبي والثقافي لهذه المدينة التي تطبع صورة فاتنة في ذهن زائرها؟

•• تمثل أصيلة نموذجاً نادراً لقدرة مدينة صغيرة على بناء شرعية ثقافية عالمية عميقة ومتجذرة. هذا الوفاء لم يكن وليد الصدفة، بل هو ثمرة التقاء إرادات متعددة، في طليعتها الرعاية الملكية السامية، والانخراط الفعّال للمثقفين والفنانين والدبلوماسيين والسياسيين الذين آمنوا بحلم أصيلة. كما أسهم السكان المحليون في تجذير هذا الإرث، وجعلوه جزءاً من هويتهم وسلوكهم الحضاري.

وتجلّت هذه الروح في مبادرات رمزية، مثل إنشاء حدائق عامة تحمل أسماء كبار المثقفين والشعراء، لتصبح فضاءات للذاكرة الحية، ومتنفساً للجمال والتقدير والوفاء. أصيلة تحتفي بالثقافة والفن كما يحتفي العاشق بمحبوبته، وتراكم رصيد من الجمال لا يمحوه الزمن، حيث الشُّرفات تطل على البحر، والجدران تهمس بالفن، والأرصفة تحفظ خطى المبدعين والمفكرين والفنانين التشكيليين، في ذاكرة لا تخون.

• ماذا سيبقى من الوزير محمد بن عيسى في أصيلة؟ وماذا سيُمحى؟

•• سيبقى مشروعه الثقافي الحضاري، وسيبقى الحلم الذي زرعه في أصيلة، فأنبت فيها زهرة عالمية، إذ أثبت أن الثقافة قوة ناعمة قادرة على تغيير مصير المدن.

وقلت عقب وفاة الراحل محمد بن عيسى إنه كان (رحمه الله) يجسد فكرة، والفكرة لا تموت. سيبقى من «بن عيسى» أسلوب تفكير جمع بين المحلي والعالمي، كونه غرس في تربة المدينة نباتاً مثمراً، بَنَى أصيلة وارتقى بها، وأخرجها من الهامش بمذاق السكينة والصبر. إنها بصمة ستظل شاهدة على رجل آمن بأن الثقافة تصنع المعجزات.

• ما الذي ينقص أصيلة اليوم؟ وماذا تخططون لمهرجان «جوهرة المحيط»؟

•• ما ينقص أصيلة اليوم ليس الجوهر ولا الروح، بل الحاجة إلى تعميق الشراكات الوطنية والدولية، والانخراط الفعّال في المجال الرقمي، بما يواكب تحولات العصر، من دون المساس بأصالة موسمها الثقافي وهويته المتفردة. نطمح من خلال مؤسسة منتدى أصيلة إلى أن تكون «جوهرة المحيط» منصة ملهمة لأهل الفكر والفن والمعرفة، وفضاءً يحتضن الإبداع بمختلف مجالاته والمبادرات الشبابية المبتكرة، عبر بناء جسور قوية بين الأصالة وروح الابتكار العصري.

وبدعم مستمر من الفاعلين الرسميين والخواص والمجتمع المدني، نؤمن بأن مستقبل أصيلة يكمن في قدرتها على الجمع بين إرثها الثقافي العميق، وتطلعات الأجيال الجديدة إلى آفاق أكثر انفتاحاً.

• لماذا خَفَتَ وهج أصيلة الثمانينيات والتسعينيات؟

•• لا يمكن الحديث عن تراجع بالمعنى السلبي، إن الأمر هنا يتعلق بدورات طبيعية من الصعود وإعادة التقييم. في عقدي الثمانينيات والتسعينيات كانت أصيلة تواكب لحظة عربية غنية بالحلم والانفتاح، وكان المشهد الثقافي أكثر قابلية لاستقبال المبادرات الرائدة. اليوم، في ظل التحولات العالمية المتسارعة، أصبحت التحديات أعقد، والرهان على التجديد أكثر إلحاحاً. الوهج لم ينطفئ، لكنه بات يحتاج إلى أدوات جديدة، وتوسيع دائرة الفاعلين، للحفاظ على المكانة التي حققتها المدينة ثقافياً وتنموياً على امتداد 45 سنة.

• بماذا يمكن استعادة الوهج؟

•• أؤكد لكم أن وهج أصيلة لم ينطفئ، وإذا حصل ذلك، فإننا سنستعيد ألقه بتضافر جهود أعضاء المنتدى ومحبي المدينة في مختلف أنحاء العالم. سننصت للجيل الجديد، كما أنصت لنا الآباء المؤسسون للمنتدى حينما كنا أطفالاً يافعين، وها نحن اليوم نستلم المشعل. سنعمل قدر المستطاع على دمج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في الدينامية الثقافية، والانفتاح على شراكات تعزز البعد الكوني للمدينة. إن وهج أصيلة ليس حنيناً إلى الماضي، بل هو استثمار ذكي في المستقبل، يستند إلى الرعاية الملكية السامية، والرؤية الاستشرافية لجلالة الملك محمد السادس في كل المجالات، بما فيها المجال الثقافي.

• أين تلتقي أصيلة مع الثقافة العربية، وأين تفترق؟

•• تلتقي أصيلة مع الثقافة العربية في تمسكها بالهوية، واعتزازها باللغة والانتماء، واحتفائها بالكلمة والفن والحوار. وتفترق حين تختار أن تكون مختبراً للحداثة، ومنصة للحوار الثقافي العالمي، وفضاءً للاختلاف الخلّاق، متحررة من الانغلاق ومن أسر الأيديولوجيات، لتؤكد أن الثقافة الحقيقية تتجدد من دون أن تفقد جذورها.

• متى شعرت بالقلق على مشروع أصيلة الثقافي؟ وما الذي يبدد قلقك؟

•• أشعر بالقلق حين أرى تراجع دور الثقافة لصالح صخب السياسة، أو احتمال فتور الانخراط المجتمعي تحت ضغط التحولات الاجتماعية والاقتصادية. لكن هذا القلق يتبدد أمام الإيمان العميق بجذور أصيلة، والدعم الرسمي المتواصل، واحتضان الساكنة لهذا المشروع بوصفه ملكية جماعية وموروثاً حضارياً يجب صونه.

• ما هي تطلعاتك من المؤسسات الثقافية العربية؟ وماذا عن الشراكات معها؟

•• نفتخر بالشراكات القائمة مع مؤسسات ثقافية عربية، ونتطلع إلى توسيعها، بما يرسّخ رؤية إستراتيجية لبناء فضاء ثقافي عربي متجدد، قادر على التأثير في المشهد العالمي. نأمل في شراكات نوعية ومستدامة، تؤمن بأن دعم الثقافة استثمار في المستقبل، وأن دعم أصيلة هو رهان على دور العرب في صياغة معاني الجمال والسلام في عالم مضطرب.

• كيف يمكن توظيف العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي لخدمة موسم أصيلة؟

•• يفتح العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي آفاقاً غير مسبوقة، سواء في توسيع قاعدة الجمهور، أو ابتكار أساليب تفاعلية للحضور الثقافي.

في هذا السياق، يمكننا الحفاظ على ذاكرة أصيلة بطريقة تفاعلية، وتنظيم معارض وتجارب افتراضية غامرة، تعزز من حضور المدينة في الفضاء الرقمي العالمي.

ومن خلال الدعم الملكي والمؤسساتي، يمكن لموسم أصيلة أن يتحول إلى نموذج عالمي في الدمج بين الثقافة التقليدية والابتكار التكنولوجي.

• هل من كلمة أخيرة؟

•• أصيلة لم تكن يوماً مشروعاً ظرفياً، بل رؤية متجددة تُبنى بالحوار والفن والجمال. استطاعت هذه المدينة الصغيرة أن تحجز لنفسها مكاناً مرموقاً في خارطة الثقافة العالمية، لا بالإمكانات وحدها، بل بالإرادة والإيمان بدور الثقافة في البناء المستدام. اليوم، تدرك أصيلة أن الوفاء لماضيها لا يعني الجمود، بل يستدعي التجديد الذكي الذي يحفظ الجوهر ويبتكر الوسائل.

تبقى الحقيقة الأكيدة هي أن أصيلة من خلال الدعم الملكي السامي ومساندة أهل الثقافة والفكر والمجتمع المحلي، ستواصل كتابتها لقصتها كمدينة صغيرة بحلم كبير، لا تنكسر أمام الزمن، بل تتماهى معه بنظرة استشرافية متفائلة.

أخبار ذات صلة

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .