لا يكتب الروائي اليمني وجدي الأهدل، ليستعرض، ولا ليتمظهر، بل ليعبّر عن مكنون شخصياته، المؤثر في جدار أعلى مقامات التابو، ولعل آخر ما يدور بذهنه ردود الأفعال، وإن عرّضته لمصاعب ومتاعب؛ يراها (ملح التجربة) أنجز أعمالاً لافتةً بدءًا من (قوارب جبليّة) التي مهّدت الشواطئ، لعبور (حمار بين الأغاني) تبعتها (أرض المؤامرات السعيد)، ولم يتوقف عن الكتابة الجادة المميزة، ولم يغادر (يمنه) ليغترف من خلجان البئر الأولى ما يروي به شغف عشاق حرفه، ولا غرابة أن تجد اسم هذا المُدهش وسيرته العطرة على ألسنة الأصدقاء من الماء إلى الماء؛ وهنا نص حوارنا معه:
• من قدح زناد القراءة والكتابة في وعيك المبكّر؟
•• امتلكَ والدي مكتبة منزلية متنوعة، نهلت منها في سنوات الصبا، وكان أول كتاب قصصي جذبني إلى قراءة الأدب هو (سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن)، وأما الكتاب الذي بذر في نفسي الرغبة في الكتابة الأدبية فهو (ألف ليلة وليلة). أحببتُ كثيرا رواية (قصة مدينتين) لتشارلز ديكنز، وكتبت محاولة روائية من وحيها. أحد أسباب اتجاهي إلى عالم الأدب هو هدية تلقيتها من والدي وكانت آلة كاتبة، هذه الهدية جعلتني أبني رؤية عن مستقبلي.
• ما دور الجدة نور في تأسيس ذائقة السرد؟
•• جدتي (نور) حكت لي الكثير من الحكايات في صغري، أخشى أن يندثر هذا التقليد لدى الأجيال الجديدة، حتى لو استعان الآباء والأمهات بقراءة الحكايات من الكتب فهذا لن يعوض عن الحضور الشخصي للجدة وأسلوبها المميز في الحكي الشفوي.. ومع التقدم في العمر والكتابة، أدركتْ أن للحكاية الشعبية سحرها الخاص، وأنها بالغة الأصالة ومتجذرة في اللاشعور.. الآن أميل أكثر فأكثر إلى التقاليد الكتابية المستمدة من هذا التراث الشفوي، وأحاول هجر الأساليب الكتابية الحديثة المستوردة من الغرب.
• ما زلت تزاوج بين كتابات القصة والرواية والمسرح والسيناريو، ألا يربك التعدد مشروعك؟
•• هذه كلها تصب في مسار واحد هو (السرد)، ومزاولة كل نوع منها يضيف إليّ تقنيات فنية معينة، فمثلًا استفدت من تجربة كتابة السيناريو، ووظفت البناء المشهدي والصورة البصرية في كتابة الرواية والقصة، المسرح علمني كتابة الحوار المزدوج المعاني الخ..
• أين تجد الفضاء المريح للكتابة؟
•• أكتب في المقاهي، الأحاديث الجانبية لا تضايقني، بل تلهمني في بعض الحالات.
• ما مواصفات الكاتب الروائي انطلاقاً من وجدي الأهدل؟
•• أولًا موهبة الكتابة، ثانيًا ألا يكتب من موقع القاضي، ولكن من موقع المحامي؛ أيّ أنه لا يصدر الأحكام على الشخصيات، فالأمانة الفنية تقتضي منه أن يدافع عن جميع الشخصيات، بما في ذلك الشخصيات التي تلعب دوراً سلبياً أو إجرامياً في الرواية.
• ألا تعد الرواية بنت المدينة؟•• أتفق مع هذا الرأي، فظهور الرواية في أيّ بلد يتزامن مع نشوء المدن الحديثة، ومع نمو الطبقة الوسطى التي تقرأ الرواية.
• هل خرجتَ بأبطالك من القرية للمدينة؟ أم وجدتهم في العاصمة؟
•• تدور معظم أعمالي في المدينة، باستثناء مجموعة قصصية وحيدة تدور أحداثها في الريف «وادي الضجوج»، ويمكن أن توجد شخصيات هاجرت من الريف إلى المدينة.
• لماذا منذ (قوارب جبلية) قررت الصدام مع السلطات؟
•• صدرت الرواية في عام 2002، وكان واضحاً بالنسبة لي أن النظام في طريقه إلى التحلل التدريجي ثم الزوال التام.. هي رواية هجائية القصد منها إصلاح المسار السياسي، ولكن علي عبدالله صالح كان محاطاً بجوقة من المنافقين الذين لم يعطوه تقديرات صحيحة عن أحوال الشعب، وبعد عشر سنوات؛ أيّ في عام 2011، اضطر للتنازل عن الحكم.
• هل أنت كاتب مُسيّس؟
•• لا أنتمي لأيّ حزب أو تيار سياسي، أنتمي للفن الجميل والكتابة الجيدة.
• من وراء اتهامك ومقاضاتك بسبب الكتابة؟
•• رسمياً، قامت وزارة الثقافة اليمنية برفع دعوى قضائية ضدي، واستدعيت للتحقيق في النيابة، وأما من كان خلف تحريك القضية، فهي وشاية وصلت للرئيس السابق علي عبدالله صالح تزعم أنني ذكرته بسوء في الرواية.. وبالتأكيد هذا غير صحيح، وإنما هو تأويل للنص بحسب ظنون الوشاة.. وبحسب ما ذكره لي الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح (رحمه الله) فإن الرئيس استدعاه بصفته مستشاره الثقافي وقال له إن الرواية تُسيء للرموز الوطنية -يقصد نفسه- فرد عليه المقالح أن الرواية ليس فيها شيء من ذلك البتة وإذا كان هناك شخص ما يتحسس نفسه في الرواية فهذا شأنه!
• كيف نجحتَ في تفادي الصدام مجددًا بصدور عملك (حمار بين الأغاني)؟
•• بعد توسط الروائي الألماني غونتر غراس لدى رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح، وحصوله على وعد منه بتوفير الأمان وعدم التعرض لي، حصلت على نوع من الحماية.
• هل أنت كاتب إشكالي، أم تتعمد كسر التابوهات؟
•• التابوهات لا تعنيني، اهتمامي منصب على فضح الواقع ولو أدى ذلك إلى إغضاب السياسيين الفاسدين.
• بماذا تحتفظ للكاتب الألماني غونتر غراس؟
•• أحتفظ له بالجميل في عنقي إلى الأبد؛ عندما قابلته وشكرته على ما قام به، أوصاني بالاهتمام بقضايا الناس وعدم الانعزال عنهم.
• ما نسبة التشابه في علل المجتمعات العربية، وهل عالجت الرواية بعض الأسقام؟
•• أخطر علة تعاني منها المجتمعات العربية هي تدني نسبة القراءة، وأتت وسائل التواصل الاجتماعي لتزيد الطين بلة، وحتماً نهوض أية أمة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقراءة الكتب. بالنسبة للرواية هي بذاتها عنصر جذاب للشباب، والإقبال على قراءتها يساعد على اكتساب عادة القراءة.
• من هو الروائي اليمني المعبّر بشفافية عن أزمات ومتاعب اليمن؟
•• الجميع تقريبًا يعبرون عن أزمات ومتاعب اليمن، 99% من الأدب الروائي اليمني يذهب باتجاه الرواية الواقعية، ونادرة هي الأقلام التي تتجنب الخوض في الواقع اليمني المرير وتسلك باتجاه الرواية البوليسية أو الرومانسية وسواهما من الأنواع الروائية.
• لماذا تفشل النخب في اتخاذ مواقف موحدة حيال بعض قضايا الأوطان؟
•• السبب أن النخب عندنا ليست مثقفة، بل ربما لها موقف من الثقافة، وهي أول من يزدريها ويحط من شأنها.
• ما صحة مقولة، إن المثقف اليمني عاجز عن البقاء في وطنه، كون حياته ورزقه مهددين؟
•• لم يعد اليمن آمناً لأيّ مثقف، الجماعات المتصارعة لا يوجد لديها هامش لاحتمال أيّ رأي مخالف، ومحال أن تأخذ بنصيحة من مثقف مهما كان وزنه، لذلك خرجت جمهرة واسعة من المثقفين اليمنيين إلى المنفى.
• كيف تقرأ براغماتية المثقفين، وإلى ماذا تحيلها؟
•• المثقفون انعكاس للمجتمع الذي نشأوا فيه، مرة لفت انتباهي رأي لمستشرق أوروبي حين قال إن العربي مادي أكثر من الأوروبي! وهو قد كوّن هذا الرأي من خلال السنوات التي أمضاها متنقلاً بين عدة دول عربية.. بلا شك عندما سمعت رأيه سبب لي ذلك صدمة كبيرة، وجعلني أراجع المسلمات التي أؤمن بها، وأنظر إلى الشخصية العربية من منظور مختلف.
• في ظل الظروف الراهنة هل تردد بيت الشعر «رب يوم بكيت منه فلما، صرت في غيره بكيتُ عليه»؟
•• ينطبق بيت الشعر هذا على أحوال اليمن، فكلما تقدم هذا البلد خطوة إلى الأمام تراجع خطوات إلى الخلف. وقد لخص الشاعر الراحل عبدالعزيز المقالح شعريًا هذا الواقع المظلم: «سنظل نحفر في الجدار إما فتحنا ثغرة للنور أو متنا على وجه الجدار». لقد مات الشاعر العظيم وهو يُقاتل من أجل النور، ولكن رسالته لن تموت، وستظل حية في قلوبنا جيلًا بعد جيل.
• هل انتهى زمن الرواية الرمزية؟
•• لا تخلو الرواية من الرمزية إلا إذا كانت أدباً من الدرجة الثانية، وفرة الرموز في الرواية دليل على خصوبة خيال الروائي.