تحرص شريحة عريضة من مؤلفي الكتب، على اعتلاء منصة التوقيع، في معارض الكتاب، وتدبيج عبارات إهداء تتفاوت بحسب مقامات المستهدفين، وربما لا يتوقع كاتب أن يكون مصير كتابه سلة مهملات، أو بجوار مكب نفايات، أو في سوق الكتب المستعملة؛ إلا أنه حدث ما دفع البعض، للزهد في الإهداء، وتجاوز البعض حفلات التوقيع، تفادياً للمآلات المحرجة للمُهدي، والمُهدى إليه.
وكشف الباحث العراقي رشيد الخيون إهداءه أحد كتبه لشخص تجرأ على طباعته مع الإهداء، ونشره بمئات النسخ وصار معروضاً في المكتبات.
وقال الشاعر الأردني موسى حوامدة دلني الصديق المرحوم عبدالستار ناصر على طريقة لعدم الإساءة، إذ أتلقى إهداءات بعشرات الكتب، فيلجأ لقص صفحة الإهداء والاحتفاظ بها، وعدّ حوامدة هذه الآلية على الأقل أفضل من إهمال الكتب، وعليها إهداء أو إعطائها لمن يرمي بها أو يبيعها، ويؤكد أنه مقلٌّ في الإهداءات، ويرى في الكتاب الإلكتروني انتفاءً للحرج.
وأوضح الشاعر عبدالمحسن يوسف، أنه شخصياً لم يحدث أن وقع في يده كتاب أهداه لشخص ثم تخلى عنه، إلا أنه رأى الأعمال الكاملة لشاعر فلسطيني مُهداة بخط يده للفنان نور الشريف، ويبدو أن عائلة (نور) باعت المجموعة لأحدهم، والمشتري عرضه على الرصيف وباعه لأحدهم.
فيما كشف رئيس بيت الشعر المصري الشاعر السمّاح عبدالله أنه أحد الزبائن الدائمين لمنافذ بيع الكتب القديمة في وسط البلد بالقاهرة، وغالبية الكتب الموجودة في مكتبته مجلوبة من هناك، وكثيراً ما يجد نفسه أمام مفاجأة ما، إذ في كتاب الخواطر، لإبراهيم أبي الخاطر، عثر على خطاب من يوسف السباعي موجهاً لموسى صبري، يطلب منه نشر مقالة كتبها عنه عدلي، ولم يعرف من (عدلي) هذا، إلا أنه استنتج أن كتاب الخواطر كان مملوكاً لموسى لصبري، ومرة اشترى مذكرات الهلباوي بجنيهين، ولما تصفح الكتاب وجد فيه جنيهين، ومرة وجد خطاباً غرامياً مكتوباً بقلم الكوبيا في الصفحتين البيضاوين في نهاية كتاب أبي دلامة لعلي أحمد باكثير، كتبه شاعر اسمه محمد أفندي فريد، مؤرخاً في 6 ديسمبر 1971، لفتاة اسمها ريري، يتهمها فيه بأنها خانته وتزوجت من ربيب العواصم الأورباوية على حسب تعبيره، ويؤكد لها أنه سيظل وفياً لها، وللحضارة العربية، ولن يتزوج أبداً، ولن يغادر الوطن، ويطلب منها من خلال أبيات شعرية صاغها في نهاية الخطاب، ألا تحاول أن تشم زفيره الخارج من فمه، لأنه سيحرقها، ويبدو أنه أتى بقافية «زفيري»، لأنها متفقة مع اسم حبيبته «ريري» الذي يختم به أبياته الشعرية الستة في نهاية الخطاب، وأكد أن أكثر المواقف طرافة، يتمثل في التعليقات التي كتبها «رامي الحديني» على هوامش كتاب (72 شهراً مع عبدالناصر) لفتحي رضوان، إذ لا تكاد صفحة في الكتاب تخلو من تعليق مكتوب في الهامش، يسب جمال عبدالناصر سباً شنيعاً، ويصفه بأنه رجل الهزائم الكبرى، ويتوعده بأنه سيكون وقوداً لنار جهنم، أما إذا امتدحه المؤلف، فلا يبخل عليه بشتائمه أيضاً، وأحياناً يكون الهامش صغيراً، فيشير بسهم ويقول التكملة في صفحة 115، فيذهب السماح للصفحة، ليقرأ بقية شتائمه في عبدالناصر وفتحي رضوان ودار النشر والمصحح والمخرج الفني، وأحياناً يخرج الحديني عن شعوره، فيصبح سبابه بألفاظ شديدة البذاءة. وأضاف عندما حصلت على جائزة الدولة التشجيعية عام 2002، طلب مني «جمال الغيطاني» نسخة من ديواني (أحوال الحاكي) الفائز بالجائزة، وكتبت له إهداء قلت له فيه: (من صاحب خديجة إلى صاحب الزيني) كونه كان يسميه صاحب خديجة، لأن ديوانه الأول اسمه (خديجة بنت الضحى الوسيع)، فأحب أن يداعبه، فنسبه لروايته الجميلة (الزيني بركات) وإثر مرور نحو العام، وجد هذه النسخة من ديوانه على سور الأزبكية، وكان ثمنها جنيها، فاشتراها، ولاحظ أن الغيطاني كتب بجوار إهدائه، بخطه المميز، (ابن بلدي العاشق)، وللتوضيح، فالغيطاني والسماح ينتميان إلى محافظة واحدة هي سوهاج، فلم يسكت، وإنما احتفظ بالنسخة في شنطته، والتقى الغيطاني في هيئة الكتاب، لأنه كان مشرفاً على سلسلة أدب الحرب، ولما دخل مكتبه، قال له: لقد وجدت نسخة ديواني التي أهديتها لك في سور الأزبكية.
فوضح له الموقف قائلاً: إن فراش مكتبه ربما ظنها من الكتب التي تأتيه بالبريد من الكتاب، وخمن أنه لست بحاجة إليها فأخذها مع ما يأخذه يومياً من كتب وجرائد من على مكتبه، وباعها بالكيلو. وأضاف: أنه لم يفتح الديوان، وكان سيقتنيه لأنه خجل أن يطلبه منه ثانية، ولم يقتنع برده، وفتحت شنطته، واستخرج النسخة، وقال له: كيف لم تفتحه، وأنت كاتب بخطك، أنني ابن بلدك العاشق؟ فابتسم الغيطاني، وخطف النسخة من يده، واعترف السماح بأنه مرة كان في ملتقى الشعر الدولي، وأنزلوهم في فندق، وقابل كثيراً من أصدقائه الشعراء الذين أهدوه دواوينهم الشعرية، وكتبوا له إهداءات في صفحاتها الأولى، وكانت الكتب كثيرة جداً، حتى أنه رصها على التسريحة، ولما انتهى الملتقى، وجد الكتب ثقيلة جداً في حملها، فتركها عند رجال الأمن، كي يعود في اليوم التالي لينقلها، إلا أنه لم يجدها، وتساءل أين يكون مصيرها، بالتأكيد ستذهب إلى سور الأزبكية، وربما يجدها أصحابها ذات يوم، ويطالعون إهداءاتهم، فيظنون به الظنون.
فيما أكد الشاعر فتحي عبدالسميع أنه لم يسبق له أن أهدى أحداً كتاباً لي ثم وجده في موضع آخر، وإن كان يتوقع حدوث ذلك، وعدم انتباهه له لا يعني عدم حدوثه. وأضاف: أنظر بتعاطف لذلك السلوك، ولن يغضبني عثوري على كتاب لي في سوق الكتب القديمة، ربما لأنني كنت من رواد تلك السوق وكنت أفرح بالعثور على كتاب جيد رخيص الثمن، وأشكر المهدى إليه الذي سمح له بالتواجد في متناولي، ولا يتوقع كثيراً قيام المهدى إليه بقراء الكتاب في الغالب، كونه تصله كتب أكثر بكثير من طاقته على قراءتها.
قصة الديوان الأول
وأكد الشاعر اللبناني الدكتور كامل فرحان صالح أنه عندما أصدر ديوانه الأول في عام 1985، نفذ حملة إهداءات واسعة احتفاء بباكورة أعماله، رغم اكتشافه لاحقاً، أن الديوان يتميز بالبساطة والغرق في الرومانسية السوداء، وفي الإمكان إعادة النظر في مجمل النصوص، إلا أنه يبقى محطة أولى في حياته الأدبية، ولم يعد من جدوى أن أستمر في جلد الذات. وقال إذا كان لا بد لي من تذكر ذلك، وأستعيد بعض الذكريات التي آلمت حينها، إلا أنها أضحت تثير لديه الضحك، منها أنه أهدى الديوان لشاعر عربي كبير في أحد معارض الكتب العربية، ليصدم بأنه وجد الديوان منسياً، أمام سلة القمامة، وأهدى نسخةً لجارتهم، ولم تمر أسابيع قليلة حتى نشب خلاف بين هذه الجارة وعائلته، ليفاجأ في إحدى الصباحات، بديوانه في بركة ماء بموقف السيارات التابع للبناية. وأحيا أمسية في بلد عربي وأهدى ديوانه لعدد من الحاضرين، وإثر أعوام وجد كتابه ظاهراً في صورة منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي لكتب معروضة على أحد الأرصفة في ذاك البلد، وعدّ الإهمال من قبل البعض لديوانه الأول، حافزاً كي ينشر لاحقاً كتباً تجعله يثق بتجربته أكثر من ناحية، ويتوقف نهائيّاً عن القيام بحفلات الإهداء من ناحية الأخرى، وبلغت مؤلفاته 13 كتاباً وكلها صدرت ونُشرت ووزعت ونفدت من الأسواق، من دون حفل توقيع كما قال.