حالة من الترقُّب المستمر الممزوج بالقلق تسود الآن جميع دول العالم، عقب الانتشار المفاجئ لمرض نادر يظهر خارج أفريقيا، وبدأت حالة القلق في الانتشار بعد أن رصدت السلطات الصحية في دول أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا عدداً من حالات الإصابة بمرض «جدري القرود» الفايروسي في الأيام الأخيرة. هذه هي المرة الأولى التي ينتشر فيها المرض بين أشخاص لم يسبق لهم أن سافروا إلى أفريقيا.
جدري القردة، مرض فايروسي نادر حيواني المنشأ، ينشأ في الحيوانات البرية مثل القوارض والرئيسيات، ويُنقل أحياناً من الحيوانات إلى الإنسان، واكتُشفت أول إصابة بشرية في 1970 لطفل يبلغ من العمر 9 سنوات، يسكن في منطقة نائية من الكونغو. وعلى الرغم من استئصال الجدري منذ 1980، إلا أن جدري القردة لا يزال يظهر بشكل متفرق في بعض أجزاء قارة أفريقيا، وكُشِف لأول مرة عن الفايروس في 1958 بالمعهد الحكومي للأمصال في كوبنهاغن بالدانمرك، أثناء التحرِّي عن أحد الأمراض الشبيهة بالجدري في قرود للأبحاث، ومنذ ذلك الحين، طفا على السطح اسم (جدري القرود).
وأُبلغ في خريف 2003 عن وقوع حالات مؤكدة من جدري القردة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أولى الحالات المُبلّغ عنها للإصابة بالمرض خارج نطاق القارة الأفريقية، وتبين أن معظم المصابين به كانوا قد خالطوا كلاب البراري الأليفة. كما اندلع في عام 2005 وباء جدري القردة في ولاية الوحدة بالسودان، وأُبلِغ عن وقوع حالات متفرقة في أجزاء أخرى من القارة الأفريقية، ولم تكن هذه هي الحالات الأخيرة التي يُبلغ عنها، إذ أُبلغ أيضاً عن حالتين للإصابة به في 2009، في أوساط اللاجئين الوافدين من جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى جمهورية الكونغو، في حين حدثت 26 حالة إصابة، وحالتا وفاة في إطار اندلاع فاشية أخرى للمرض بجمهورية أفريقيا الوسطى في الفترة بين أغسطس وأكتوبر 2016.
متى يموت المصاب؟
الطبيب الاستشاري في تخصص الأمراض الباطنية والمعدية الدكتور هاشم الشريف، يقول: إن فايروس جدري القرود ينتمي إلى عائلة الفايروسات نفسها المسببة للإصابة بمرض الجدري المعروف، لكنه يسبب أعراضاً أكثر اعتدالاً، إذ يعاني معظم المرضى من الحمى وآلام الجسم والقشعريرة والتعب، وقد يطور الأشخاص المصابون، بمستوى أكثر خطورة للمرض، طفحاً جلدياً وبثوراً على الوجه واليدين يمكن أن تنتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم، وفترة حضانة الفايروس تبلغ (وهي الفترة الفاصلة بين مرحلة الإصابة بعدواه ومرحلة ظهور أعراضها) المسبب لهذه الإصابات من نحو خمسة أيام إلى ثلاثة أسابيع، ويتعافى معظم الناس في غضون أسبوعين إلى أربعة أسابيع دون الحاجة إلى دخول المستشفى، لكن يمكن أن يكون جدري القرود قاتلاً بنسبة تصل إلى واحد من كل 10 أشخاص، كما يُعتقد أنه يكون أكثر حدة عند الأطفال والحوامل ومَن يعانون ضعف المناعة.
المنتجات الحيوانية غير المطهية.. خطرة
مع غياب العلاج، وعدم وجود لقاح محدّد لمكافحة المرض، فإن الوسيلة الوحيدة للحد من الإصابة به -بحسب الدكتور هاشم الشريف- رفع الوعي بعوامل الخطر المرتبطة به واتخاذ التدابير التي يمكنها الحد من معدل التعرّض له، وعلى مستوى الدول والمنظمات المعنية، لابد من تطبيق إجراءات الترصد والإسراع في تشخيص الحالات الجديدة. كما ينبغي أن تركِّز رسائل التثقيف بشأن المرض على أمرين؛ ضرورة تجنّب المخالطة الجسدية للمصابين بالمرض، مع ارتداء القفازات اليدوية عند الاعتناء بالمرضى، وضرورة المداومة على غسل اليدين، والحد من مخاطر انتقال الفايروس من الحيوانات الحاملة له إلى البشر، وضرورة طهي كل المنتجات الحيوانية جيدا قبل أكلها.
الطفح يبدأ بالوجه
طبقا للدكتور هاشم الشريف، تنقسم مرحلة العدوى إلى فترتين، الغزو: وتراوح من لحظة الإصابة إلى 5 أيام، وأبرز سماتها الإصابة بحمى وصداع مبرح وتضخم العقد اللمفاوية والشعور بآلام في الظهر وفي العضلات ووهن شديد. وهناك فترة ظهور الطفح الجلدي، ويكون في مدة تراوح بين يوم واحد و3 أيام عقب الإصابة بالحمى، ومن أبرز سماتها ظهور الطفح الذي يبدأ على الوجه، في أغلب الأحيان، ومن ثم ينتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم، ويكون الطفح أشد ما يكون على الوجه (في 95% من الحالات) وعلى راحتي اليدين وأخمصي القدمين (75%)، ويتطوّر الطفح في نحو 10 أيام من بقع ذات قواعد مسطحة إلى حويصلات صغيرة مملوءة بسائل، وبثرات والمرحلة التي تليها من تطور، وقد يلزمها ثلاثة أسابيع لكي تختفي تماما. وقبل ظهور الطفح، قد يُصاب بعض المرضى بتضخم كبير في العقد اللمفاوية، وهو سمة لجدري القردة تميزه عن سائر الأمراض المماثلة. وغالبًا ما يتم إعطاء الأشخاص المعرضين للفايروس واحدًا من عدة لقاحات ضد الجدري، التي ثبت أنها فعالة ضد جدري القرود أيضًا، كما يجري تطوير أدوية مضادة للفايروس.
الصحة العالمية تشعر بالقلق
هي المرة الأولى التي ينتشر فيها جدري القرود بين الأشخاص الذين لم يسافروا إلى أفريقيا، كما تشمل معظم الحالات رجالاً في أوروبا وجرى الإبلاغ عن إصابات في كلٍّ من بريطانيا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا والسويد، كما أبلغ مسؤولون أمريكيون عن حالة إصابة لرجل سافر أخيرا إلى كندا، وأكدت وكالة الصحة العامة الكندية عن حالتين، كما أعلن مسؤولو الصحة في كيبيك، في وقت سابق، عن أنهم يشتبهون في وقوع 17 حالة في منطقة مونتريال. وكان مسؤول صحي أوروبي رفيع المستوى، حذر من أن حالات الإصابة بالفايروس النادر قد تتسارع خلال الأشهر القليلة القادمة. وقال هانز كلوج، المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا: «مع دخولنا فصل الصيف، ومع التجمعات الجماهيرية وخصوصا في المهرجانات والحفلات، أشعر بالقلق من أن انتقال العدوى يمكن أن يتسارع»، ويصف «كلوج» الانتشار بأنه «غير نمطي»، مضيفاً أن «جميع الحالات الحديثة باستثناء حالة واحدة فقط ليس لها سجل سفر ذي صلة بالمناطق التي يتوطن فيها جدري القردة». وأوضح يبدو أن انتقال العدوى ربما كان مستمرا لبعض الوقت، حيث تنتشر الحالات جغرافيا في جميع أنحاء أوروبا وخارجها.