أوضح الباحث التاريخي محمد شعبان أيوب، أنَّ التاريخ في النظرة الإسلامية لا يُعد مجرد سرد للأحداث، بل هو أداة لفهم مشيئة الله وقدره في الكون، مشيراً إلى أن نظرتنا له تتباين كثيراً عن النظرة الغربية للتاريخ؛ الذي يُعتبر، في كثير من الأحيان، مجرد دراسة للأحداث على أساس أسباب مادية، غافلًا عن المضمون الروحي والمعنوي.
ولفت إلى أنه في تاريخ الفكر الإسلامي يُنظر إلى التاريخ باعتباره جزءًا لا يتجزأ من حركة الإسلام نفسه، ويُعتبر القرآن الكريم والسنة النبوية المصدرين الأساسيين لفهم حركة التاريخ وسُنّته الماضية، كما يُعد الحديث الشريف وسير الصحابة والتابعين أداة لفهم المسار التاريخي الإسلامي.
واستعاد ما قام به المؤرخ اللبناني أسد رُستم الذي أصدر في ثلاثينيات القرن الماضي كتابه المهم «مصطلح التاريخ»، تناول فيه المنهجية التي يجب أن يتبعها المؤرخ والقارئ على السواء في كتابة التاريخ وفهم سرديته ومبتدأه ومنتهاه؛ ذلك أن التاريخ يقوم على الرواية والوثيقة، والرواية ربما تكون صحيحة وربما تكون ملفّقة باطلة، فمن ذا الذي يقبل على نفسه أن يصنع وعيه تاريخ مزيف، وأحداث باطلة، يكون ضررها على الإنسان والمجتمع عظيما فادحا ومستمرا؟
وقال، على الرغم من أن أسد رستم لم يكن مسلماً إلا أنه اعترف بكل أمانة وصدق، بل وانبهار بعلم مصطلح الحديث والرجال في التراث الإسلامي، وأعلن دون مواربة أن «أول من نظّم نقد الروايات التاريخية، ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، كونهم اضطروا اضطرارًا إلى الاعتناء بأقوال النبي وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل»، واتخذ منهجية علم مصطلح الحديث وأسانيده ومتنه وعلله وصحيحه وسقيمه، وطالعه ونازله دستورا، ما ألهمه فكرة كتابه (مصطلح التاريخ)؛ الذي تبنّى فيه ضرورة نقد الأصول والروايات، والتحليل القائم على الإلمام بعلوم إنسانية عدة لا تنازل عنها، وأدوات لا بد منها للوصول إلى الحقيقة.
وعدّ أيوب التاريخ واحدًا من أهم المجالات التي يوليها المسلمون اهتمامًا خصوصاً منذ عصر التدوين الأول زمن الأخباريين والرواة وإلى يومنا هذا، ليس فقط لأنّه يحوي أحداثاً ماضية، بل -وهم الأهم- لأنه يشكّل مرجعية لا انفكاك لها لفهم الواقع وتوجيه سلوك الأجيال الحالية والقادمة.
وتساءل: كيف ينظر المسلم اليوم إلى تاريخنا المبكر؟ وما هو الموقف الموضوعي من المرويات التاريخية التي تُنقل من جيل إلى جيل؟
ويجيب، على الرغم من أن المسلمين أولوا التاريخ أهمية كبيرة، إلا أن الموقف من المرويات التاريخية تطوّر عبر الزمن، إذ بدأ العلماء في مختلف العصور الإسلامية بمحاولة دراسة المرويات وتحليلها بشكل موضوعي. وتعود أهمية ذلك إلى أن المرويات التاريخية في بعض الأحيان ربما تكون مغلوطة أو مشوهة بسبب التأويلات المختلفة أو حتى الأساطير التي أضيفت إليها، مؤكداً أنّ الموقف الموضوعي من المرويات التاريخية يقتضي التدقيق، والتحقق من صحة الأحداث والوقائع، وفي هذا الإطار، نجد أن الكثير من العلماء المسلمين قد وضعوا قواعد للتأكد من صحة الأحاديث النبوية التي ألهمت العديد من الباحثين في العصر الحديث لاتخاذها سبيلاً يُضيء لنا تاريخ صدر الإسلام وما وقع فيه من تشويه كبير، بل وتلفيق الروايات كلّ لنصرة مذهبه للحط من خصمه، وإعلاء مكانته وشأنه، وجذب أنصار جدد.
لافتاً إلى أهمية (علم الرجال) كونه من أبرز العلوم التي تساعد في دراسة السند والبحث عن مصداقية الروايات، لذا أثنى بعض المستشرقين على هذا العلم؛ الذي حرص المسلمون فيه أشد الحرص على تعديل الرجال من نقَلة الحديث النبوي الشريف، وتجريحهم بحسب مواقفهم وما عُرف عنهم، وقال القس المستشرق الإنجليزي (دافيد صموئيل مرجليوث) برغم عدائه الشهير للإسلام: «ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم».
ويرى أنه إذا تأكد الباحث من صحة الرواية التاريخية سنداً ومتناً، لا سيما روايات صدر الإسلام سهل عليه الوصول إلى الحقيقة، وانطلاقاً من دعوة ابن خلدون، لإعمال ملكة النقد لدى القارئ والباحث على السواء، وضرورة التأمل في ما يُعرض على الإنسان من وقائع انتقد الروايات التاريخية التي جمعها مؤرخو المسلمين دون نقد وإعمال بصر، يقول ابن خلدون: «إنّ فحول المؤرخين في الإسلام استوعبوا أخبار الأيّام وجمعوها، وسطّروها في صفحات الدّفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفّلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الرّوايات المضعفة لفّقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممّن بعدهم واتّبعوها، وأدّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتّحقيق قليل، وطرف التّنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل».
وأوضح أنه يمكن أن نلمس هذه الروح النقدية لدى مؤرخي المسلمين في مضان متفرقة، وكتب متنوعة، منهم من يصرح بمنهجه، ومنهم من يسكت عنها، ومنهم من ينقل الأخبار والحوادث دون إبداء رأي، ولهذا السبب كانت المهمة ثقيلة على باحثي العصر الحديث أمام الروايات التاريخية التي أثارت الجدل، وأحدثت شرخاً في وحدة الأمة.
ففي العصر الحديث، ومع تزايد الوعي الفكري والبحث الأكاديمي، بدأ الكثير من الباحثين في تبني منهجية نقدية في روايات العصر النبوي وصدر الإسلام، ومنهم من تجاوز السرد التقليدي للمرويات التاريخية، كما بدأت تنفتح أفق البحث في التاريخ على أسئلة جديدة تتعلق بالدور الاجتماعي والسياسي في تدوين التاريخ، ودور الطبقات الاجتماعية المختلفة في تشكيل أحداثه ومجرياته، والنظر إلى المناهج والمدارس التاريخية المختلفة والاستفادة من آرائها وأطروحاتها للوصول إلى الحقيقة التاريخية.