– بكين.. مفترق طرق الغرب، والردع العسكري…
بعد أن نقلت بعض الملامح لكيف غيّرت الصين شكل الاقتصاد العالمي،
يبقى السؤال الأهم الذي يشغل كوكبنا: إلى أين تتجه؟ كيف هو شكل العالم الجديد؟ والحديث طبعاً عن المستقبل القريب جداً …!
هذا الصعود القادم من إرث امتد لـ٦ آلاف عام، نحو القوة الأولى بلا منازع،
أم تلك التحديات الداخلية والخارجية – التى يطرحها الإعلام الغربي بمبالغة أو تضليل أو يظهر فيها فهم قاصر، بشكل مقصود أو غير مقصود-، وهل سيضعف زخمها ويجعلها تواجه مصير الاقتصادات المتباطئة في التاريخ الحديث، اليابان – مثلاً في التسعينيات؟!
من خلال زيارات عدة وبحث والمشاهدات لمدن وأرياف متفاوتة نوعاً وكماً، ومقابلات واجتماعات، ومتابعة كيف يعمل هذا الشعب، وتحليل، وجدت أن مستقبلها مختلف عن كل النماذج والتجارب، اعتماداً على عدة عوامل حاسمة، منها، طبيعة المجتمع وعلاقاته، والسياسات الاقتصادية، ومسار التنمية والنمو، والتطور التكنولوجي المبهر، والعلاقات الجيوسياسية، والموارد والطاقة والقوة العسكرية المتنامية جداً والانضباط والإرادة.
• حاجة العالم للصين أكبر من حاجتها له!
تجد اللغة الصينية هي الأبرز في كل مكان تذهب إليه، بما في ذلك المصانع العملاقة والشركات الضخمة التى لها فروع في قارات الدنيا، لكن هناك وحتى في فنادق الأعمال الفخمة المنتشرة في كل المدن الصغيرة منها، وفي قلب بكين العاصمة تبقى اللغات الأخرى غير الصينية محدودة جداً.
وسواءً تتعامل مع مدير مصرف أو مصنع أو موظف استقبال ستحتاج إلى «ترجمان» بشري أو آلي أو تطبيق، حقيقة تؤكد أن هذا العالم الصيني المتفرد يشعر أن العالم يحتاج إلى التواصل معه أكثر من حاجته للتواصل مع العالم، ولها طريقتها الخاصة في ذلك!
ونحن نرى العالم اليوم يعتمد بشكل غير مسبوق عليها كمحرك رئيسي للصناعات والتكنولوجيا الحديثة، أصبحت بكين مركزاً عالمياً للتجارة وسلاسل الإنتاج والتوريد التي تغذي الاقتصادات الكبرى. من الإلكترونيات المتقدمة إلى السيارات الكهربائية، ومن أشباه الموصلات إلى الطاقة المتجددة، باتت المنتجات الاستهلاكية وتلك الضرورية في عالمنا اليوم، بما فيها الخدمات تلعب دوراً حاسماً في تلبية احتياجات المستهلكين والشركات حول العالم. وفي مقدمتها التقنيات والاتصالات والذكاء الاصطناعي، مما يجعل فكرة الحاجة للصين خياراً ثابتاً لغالبية الدول.. والعالم.
• في المقابل، تحتاج الصين رغم تعدادها السكنى الضخم واستهلاكها الكبير إلى الأسواق العالمية لضمان استمرار نموها الاقتصادي الهائل، فمع ازدهار صناعاتها وتوسعها في الإنتاج، تحتاج إلى تصدير إنتاجها إلى الأسواق الخارجية بالطبع..
وتلاحظ تدريجياً أن من بين الأسواق التى بدأت تعتمد بكين عليها بشكل أقل هي الأوروبية والأمريكية لتصريف منتجاتها، بينما تلعب الأسواق الناشئة الكبيرة من جنوب أمريكا إلى أفريقيا وآسيا دوراً متزايد الأهمية في تعزيز أسواقها الخارجية. ومع ذلك، فإن حاجة العالم، بما في ذلك الغرب أكبر من حاجة بكين للعالم.
لا تزال معظم الاقتصادات تعتمد على البنية التحتية الصناعية الصينية، في حين أن الصين بدأت في تعزيز استهلاكها المحلي وتوسيع تحالفاتها التجارية لتقليل تأثير أي صدمات خارجية.
– حسم الفوز بصدارة الثورة الرابعة..
في العام 2025، الجاري ستصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً وفقاً لمعيار تعادل القوة الشرائية (PPP)، حيث يساهم اقتصادها بأكثر من 30% من النمو الاقتصادي العالمي.
وعليك ألا تهمل في هذه القراءة، عدم الاستقرار وضبابية الاقتصاديات الغربية بشكل متردٍّ.
في عالم يتجه نحو الثورة الصناعية الرابعة، وتلعب التكنولوجيا فيه الدور الأهم في تحديد القوى الاقتصادية الكبرى، هنا تبدو الصين وكأنها وضعت قدمها بقوة في مقدمة السباق. وحسم الفوز بصدارة الثورة الرابعة.
مثلاً، مفاجآتها المتتالية في التفوق المتنوع في صناعة أشباه الموصلات، وتركيزها في الذكاء الاصطناعي على برمجيات مفتوحة المصدر لتوفير التكنولوجيا للجميع، وتصنيعها لكل التقنيات الحديثة اليوم دون استثناء.
في الماضي، كان الاقتصاد الصيني يعتمد على التصنيع والتصدير، لكن اليوم تتحول الصين نحو التكنولوجيا الدقيقة وتحقق قفزات عملاقة، وتعزز الاستهلاك المحلي ليصبح المحرك الأساسي للنمو.
في الوقت ذاته تركز على تقديم الدعم للشركات الخاصة كونها محرك الاقتصاد.
وارتفعت مساهمة الاستهلاك في الناتج المحلي الإجمالي من 39% في 2020 إلى 55% في 2025.
• انتشار اليوان الرقمي سهل عمليات الدفع الإلكتروني، مما زاد من حركة التجارة الداخلية والخارجية.
• قوة الردع العسكرية الضاربة!
على الرغم من هذا التفوق، يبدو أن بكين لا تسعى إلى لعب دور «شرطي العالم»، بل تركز على تعزيز نفوذها الاقتصادي والتقني بدلاً من الهيمنة العسكرية أو السياسية، لكنها لا تهمل الردع والتمكن العسكري لحماية نفسها ومصالحها، فقد حددت الدولة إستراتيجية تنموية من ثلاث مراحل لتحديث الدفاع والقوات لتحقيق الأهداف المئوية للجيش بحلول عام 2027، لبناء القوات المسلحة بشكل كامل لتصبح قوة عسكرية من الطراز العالمي. وخلال سنوات قليلة، تم نشر مجموعات حاملات الطائرات للبحرية الصينية عبر المحيطات، وطورت وحدات جوية، إضافة إلى القدرات النووية، والقدرة على أداء مجموعة متنوعة من المهمات العسكرية، تقف البحرية الصينية في وضع جديد اليوم، وتجوب المقاتلات «جيه-20» الجو، وتنشر طائرات التزويد بالوقود «واي-20» أجنحتها، وتمتلك سرب من طائرات دون طيار، وتنتج صواريخ أرض-جو دون توقف.
وتتسارع وتيرة تحول القوات الجوية إلى قدرات هجومية ودفاعية متكاملة. وتتم تنمية قوات قتالية جديدة مثل العمليات الخاصة والهجمات المحمولة جوّاً والقوة بعيدة المدى. وتعلن عن المعدات الذكية، والتقنيات الرقمية العسكرية باستمرار.
تفتخر الصين بأكبر جيش دائم في العالم بأكثر من مليونَي جندي في الخدمة الفعلية و5 ملايين جندي احتياطي آخر. وهي توسع بسرعة أسطولها البحري، الذي تنوي استخدامه في أماكن مثل بحر الصين الجنوبي لتأمين طرق التجارة البحرية. ينظر هنا، إلى الجيش باعتباره «رادعاً ضد التهديدات. في الجنوب من أجل الاستقرار السياسي وفي الغرب من أجل الأمن الاقتصادي».
في مبادرات مثل الحزام والطريق، التي توسع النفوذ الاقتصادي الصيني عبر تطوير البنية التحتية العالمية، دون فرض إملاءات سياسية مباشرة. هذه الإستراتيجية تتيح للصين مرونة أكبر في التعامل مع تقلبات الأسواق العالمية، مما يعزز من دورها كركيزة أساسية في الاقتصاد الدولي دون إثارة المخاوف الجيوسياسية بشكل مباشر.
في النهاية، لا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل بدقة، لكن ما رأيته في رحلاتي يجعلني متأكداً أن العالم بأسره يجب أن يستعد لعصر تقوده بكين اقتصادياً ورقمياً!
فقد تمكنت قبل ذلك من بناء بنية تحتية متقدمة تربط جميع مناطق البلاد وأريافها التى كانت متواضعة، بل فقيرة جداً في الماضي القريب، لتحتضن الآن أبراجاً شاهقة على طول المسافات الممتدة لمئات الكيلومترات، وديونها ترجع إلى الاستثمار الهائل في البنية التحتية وعمارة كل أركان البلاد.
يمكنني القول إن الصين جاهزة لتولي قيادة الاقتصاد العالمي، أمام عقبات محدودة، كل ما يمكن أن تفعله هذه العقبات هو تأخير هذه الريادة والقيادة فقط لبعض الوقت!
– سيناريوهات التفوق المحتملة:
* سيناريو التفوق: إذا تمكنت الصين من مواجهة التحديات الديموغرافية والجيوسياسية، واستمرت في قيادة التكنولوجيا كما تفعل الآن، ستكون بلا منازع القوة الاقتصادية الأولى عالمياً خلال هذا العقد.
* سيناريو التباطؤ:
إذا تعثرت في ظل أزمات مفتعلة، فقد تعاني من تباطؤ اقتصادي، لكن الصين من الداخل وبقوتها الاقتصادية الضاربة «قد» تكون أمام تباطؤ مؤقت لكن السرعة والدقة والتنظيم الذي تسير عليه سيعيدها للريادة الاقتصادية ولو بعد حين!
* سيناريو الصدام:
إذا تصاعدت التوترات مع الغرب مثلاً، فقد تؤدي العقوبات والتوترات العسكرية نظرياً إلى تعطيل (سرعة) تقدمها الاقتصادي، وأيضاً مؤقتاً فقط.، لكنها داخلياً مستقلة ومستقرة، لكن الضرر سيكون على الغرب المرهق والغارق في مشاكله الاقتصادية ونزاعاته السياسية الواضحة وقيمه المعقدة وعقيدته السياسية المتناقضة.
بكين اليوم تراهن أمام العقوبات والضرائب الأمريكية – الغربية على الأسواق الناشئة، وتعميق التعاون مع روسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية كبديل وهي تعلن باستمرار استعدادها لكل الاحتمالات..
وهي تؤمن تماماً أن الحرب التجارية لا تحل مشكلة العجز التجاري للولايات المتحدة مثلاً، وبكين لا ترغب بالتصعيد على الرغم من استعدادها للمواجهة.
فهي لم تعد مجرد قوة اقتصادية صاعدة، بل أصبحت قوة عظمى تعيد تشكيل النظام العالمي بطريقة لم يشهدها العالم منذ قرون.
في النهاية، لا أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل بدقة، لكن على العالم بأسره أن يستعد لعصر تقوده بكين اقتصادياً ورقمياً والكثير ولو بعد حين!