يقع بعض المسلمين في إشكالية الفهم الخاطئ لمقصد العبادات، وغاية الأديان، الجاهدة في سبيل بناء الأخلاق السويّة. وجاء في القرآن إنكار على التناقض بين العبادة القولية والسلوك الفعلي (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون)، وفي شهر رمضان يزداد تعلّق المسلمين بأعمال الخير، فينصرف البعض للصلاة وتلاوة القرآن والوعظ، ويرجّح كفة الأقوال على ما سواها من المعاملات والأخلاق، رغم أن أثر الثواب في العبادة قاصر على مؤديه، خلافاً للتعامل فأثره متعدٍ وثوابه أوسع.
ولا أثر لعمل يؤديه مسلم دون نيّة صالحة، تقصد التعبد والتقرب به إلى الله، والمنطق يفترض ألا يتقرب العبد إلى خالقه إلا بما هو جميل ونقي وراق. جاء في الحديث النبوي (إنما الأعمال بالنيّات). ويرى بعض الشُّراح أن المقصود بأداة الحصر (إنما) الصحة؛ أي لا يصح العمل إلا بالنيّة، والبعض يذهب إلى أن القصد (الكمال) أي إنما كمال الأعمال بالنيّات، والأعمال تعم وتشمل كل أعمال البدن والجوارح، فاللسان عمله القول، واليد والرجل عملهما الحركة، والعين النظر، والعقل التدبر والتفكر، والقلب الذكر، والأذن السماع.
فيما يجمع البعض بين القولي والفعلي، من مباشرة أعمال الخير المتعدي نفعها إلى الغير، من تفطير صائم، وكسوة عار، وإطعام جائع، ومساعدة معاق، ونقل إنسان، وإغاثة محتاج، وحُسن الخلق، والكف عن الأذى.
ويؤكد الفلاسفة على القصدية، لأن مجرد الفعل متصور الوقوع من الجماد، فضلا عن الحيوان دون قصد، فالقصدية والنية بمنزلة الروح من الجسد، بل هو روح العمل، وربما كان للعمل الواحد كما يقول المفكر طه عبدالرحمن أكثر من قصد، وربما كان لأكثر من عمل قصد واحد.
ويضيف عبدالرحمن، لا يجوز لعاقل أن يتوهم أن مبدأ التعامل مع الخالق يقضي بأن لا ينشغل العبد إلا بالطاعات المفروضة أو بما تطوع به من النوافل المأذونة؛ فالعبد إنما هو من استطاع أن يتعامل مع الخالق في كل عمل يزاوله، عبادةً كان أو معاملة، لأن هذا التعامل الروحي يملأ عليه أفقه ويستغرق قلبه، بحيث لا يمكنه أن يرى في المعاملة إلا عبادة، إن لم تكن عبادة بالرسوم المعلومة، فهي عبادة بالروح المبثوثة، وبمقدور النية أن تنقل المعاملة إلى عبادة يتقرب بها كما يتقرب بالطاعة الواجبة.
ولعل حالة الفصام بين المعتقد والقول والتعامل أكثر ما يقض مضجع المفكرين والفلاسفة، إذ إن مطلب المعاملة الإنسانية بأن يعامل كل إنسان معاملة إنسانية، بما يحفظ کرامته، فلا يحرم من ثابت حقوقه، ولا ينزل منزلة الوسيلة لغيره، ولا تُقدر ذاته على أساس العرق أو الجنس أو السن أواللون أو الدين أو اللغة أو الموطن أو المجتمع؛ ويتصل بهذا المطلب مبدأ أساسي أخذت به الأديان عرف باسم القاعدة الذهبية، وصيغته السالبة هي (لا تعامل غيرك بما لا تريد أن تعامل به) وصيغته الموجبة هي: (عامل غيرك بما تريد أن تعامل به)؛ والراجح أنه لا دين من الأديان الكبرى يخلو من صورة، أو صور ممثلة لهذه القاعدة؛ وتجد لها صورا متعددة في الإسلام تفرد به عن غيره بجعل إيمان المرء نفسه موقوفا على حسن المعاملة، نذكر منها الأحاديث، وفي شعب الإيمان: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وأيضا (أحب للناس ما تحب لنفسك، تكن مسلما). وأوضح أن هذه القاعدة تقضي باجتناب كل أشكال الظلم التي تنتج عن الأثرة والأنانية في مختلف مجالات الحياة.