اعتمد سكان مكة المكرمة وحجاج بيت الله الحرام والزوار والمعتمرون قديماً على الآبار لتوفير احتياجاتهم من المياه، وكان الحجاج يحملون الماء إلى عرفات من الأمكنة البعيدة، وأصبح الواقفون بعرفة لا يطلبون شيئاً غير الماء، لقلته وعزّته.
ولما علمت الأميرة زبيدة بنت جعفر المنصور زوجة الخليفة هارون الرشيد التي ولدت عام 145 هجري؛ وهي المعروفة بالذكاء، والحكمة، والكرم، والنبل، والفصاحة، وحبها لخدمة الناس خصوصاً الفقراء، وكانت سيدةً مصونةً سخيّةً، تقدّر العلماء وتجلّهم، وتعطف على المحتاجين والمساكين، فانصبّ اهتمامها الأكثر على العمران، فبنت المساكن والمساجد، وبرك الماء والآبار على طول طريق الحج من بغداد إلى مكة المكرمة وجعلته للنفع العام (الحجاج وعابري السبيل).
وأمرت زبيدة بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط المطر، واشترت جميع الأراضي في وادي نعمان، ونزعت ملكية المزارع والنخيل، وأمرت بأن تُشقّ للمياه قناة في الجبال، كما استطاعت زبيدة برجالها العاملين المخلصين أن يبدأوا في تصميم هذا المشروع العملاق بطرق فنية متطورة تتساوى مع ما توصل إليه اليوم علم الهندسة من تطور وتقدم، لاسيما في قدرة العاملين آنذاك على سحب المياه عبر تلك المسافة الطويلة وعبر مرتفعات ومنخفضات جبلية وأودية وصحار فعملوا المناسيب المنسابة لمجرى العين والقنوات بالحجر والجص، حتى استطاعت المياه الانسياب عبر هذه القنوات والمضخات البدائية بكل سهولة ويسر حتى وصلت إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة مروراً بمناطق المشاعر المقدسة منى وعرفات ومزدلفة، ولا تزال آثار القنوات المائية والخرازات قائمة إلى يومنا هذا فـي سفوح الجبال وكأنه قد تم عملها بالأمس رغم مرور مئات السنين عليها.
وروعي أثناء تنفيذها وضع فتحات لقنوات فرعية أقامتها في المواضع التي يكون من المتوقع اجتماع مياه السيول فيها؛ لتكون هذه المياه روافد تزيد في كمية المياه المنقولة إلى مكة المكرمة عبر القناة الرئيسية، ومن هذه القنوات الفرعية التي خصّصتها للمياه الإضافية السيلية فـي الطريق: عين «مشاش» وعين «ميمون» وعين «الزعفران» وعين «البرود» وعين «الطارقي» و«عين تقبة» وعين «الجرنيات»؛ وكل مياه هذه القنوات الفرعية تصبّ فـي القناة الرئيسية، وبعضها يزيد سنوياً، وبعضها ينقص بحسب الأمطار الواقعة على جهاتها من وادي نعمان إلى عرفة. ويعد المشروع من أعظم المشاريع التاريخية التي لا تزال آثارها قائمة منذ مئات الأعوام حتى يومنا هذا، وخلد معه تاريخ هذه المرأة العظيمة التي كان هدفها سقاية الحجاج.
ويؤكد مدير مركز تاريخ مكة المكرمة الدكتور فواز الدهاس، أنه لم تكن في مكة المكرمة قبل زمزم موارد للمياه تجذب القبائل التي تموج بها الجزيرة العربية، وكانت مكة بلدة قاحلة ليس لأحد فيها قرار فاشترت السيدة زبيدة الحائط الذي كان يسمى حائط حنين واشترت الزروع، وشقت القناة في الجبال، ثم أمرت ببناء البرك وتحسينها بهدف تجمع المياه عقب الأمطار، وأجريت في قناة إلى مجرى العين تغذيها وتقويها، فصارت كل بركة تمدها بالماء، ومن ذلك عين المشاش وهي عين الشرائع، وعين ميمون، وعين الزعفران وعين البرود وعين الطارقي، وكل مياه هذه العيون تندفع في (دبل) مجرى عين حنين، وعندما تم الانتهاء من المشاريع اجتمع المباشرون والعمال لديها وأحضروا دفاترهم، المدونة بها تكلفة المشروع وبنود الصرف. وكانت السيدة زبيدة في قصر عالٍ مطل على نهر دجلة فأمرت برمي الدفاتر في النهر، وقالت: تركنا الحساب ليوم الحساب، فمن بقي عنده شيء من بقية المال فهو له، ومن بقي له عندنا شيء منه أعطيناه إياه.
مضيفاً أنه في عهد الملك عبدالعزيز أُنشئت إدارة خاصة لإدارة العين سُمّيت (عين زبيدة)، تشرف إشرافاً كاملاً على العين والآبار الخاصة بها وترميمها. وقام عبدالله الدهلوي بأمر من الملك عبدالعزيز سنة 1346هـ بعمارة عين زبيدة لأعوام عدة. ثم بدأ توزيعها في مجارٍ صغيرة إلى أحياء مكة المكرمة، وكانت تُسمّى بالدبول (أي مجرى صغير للمياه)، وكانت هنالك أماكن مخصصة تصبّ فيها هذه الدبول تُسمّى البازان (وهي بئر عميقة تصبّ فيها عين زبيدة يسحب منها السقايا المياه عن طريق الدلو)، ومن ثمَ يقوم السقايا بتوزيعها على البيوت في الحي في أوانٍ خاصة تُسمّى (الزفا) يحملها الرجل على كتفه إلى البيوت. واستمرت هذه العين إلى أن استُعيض عنها بمياه البحار الناتجة عن محطات التحلية الضخمة، وذلك بسبب شحّ المياه فيها وتدمير أغلب قنواتها بسبب التطوّر العمراني في مكة المكرمة. وما زالت الأبحاث والدراسات مستمرة لإنهاض عين زبيدة؛ فـ«دارة الملك عبدالعزيز» تنسق في دراساتها مع جهات عدة ذات علاقة بالثروة المائية في منطقة مكة المكرمة، وذلك بغرض الحصول على نسخ من الوثائق وكافة المعلومات الخاصة بعين زبيدة ومشاريع ترميمها وصيانتها.
ولا تزال قنوات عين زبيدة قائمة يشاهدها القادم إلى مكة المكرمة.