لبنان أمام نقطة تحول حقيقية في مسار الدولة.. هذه ليست مجرد شعارات، بل قراءة واقعية لبرنامج عمل نال ثقة نيابية وازنة، إذ منح 95 نائباً ثقتهم لحكومة رئيس الوزراء نواف سلام، في تأكيد واضح على دعم نهجها الإصلاحي.
هذا الزخم النيابي يمنح الحكومة دفعاً قوياً لانتشال البلاد من أزماتها المتشابكة ووضعها على سكة الإصلاح والاستقرار، كما يعكس قناعة بإمكانية تجاوز العراقيل التي لطالما أعاقت عمل الحكومات السابقة. ومع اكتمال البنية التنفيذية للدولة، انتقل لبنان من مرحلة الوعود إلى مرحلة الفعل، حيث تتجه الأنظار إلى أولى خطوات الحكومة، التي ستكون الاختبار الحقيقي لقدرتها على ترجمة هذه الثقة إلى عمل فعلي، يواجه التحديات الاقتصادية والمعيشية، إلى جانب التهديدات الأمنية والاستحقاقات السياسية الكبرى.
من وعود الخطاب إلى التنفيذ
إقرار الثقة لا يعني نجاح الحكومة تلقائياً، بل يضعها أمام اختبار جدي لترجمة التزاماتها الواردة في البيان الوزاري إلى خطوات ملموسة. فقد انتهت مرحلة التصريحات والتعهدات، وحان وقت القرارات والإجراءات التي يتطلع اللبنانيون لرؤيتها على أرض الواقع، ولو بشكل تدريجي. ولا شك أن إعادة تفعيل المؤسسات العامة وتقديم الخدمات الأساسية تبقى أولوية، رغم أن تنفيذ هذه الإصلاحات يحتاج إلى وقت ضمن الأطر الإدارية والقانونية المعتمدة.
أولويات الحكومة
أمام الحكومة جدول أعمال مزدحم، يتصدره إنجاز التعيينات الإدارية، وإقرار الإصلاحات الضرورية لضمان الحصول على الدعم الدولي، إلى جانب إعداد موازنة 2025 واتخاذ القرار بشأنها، سواء عبر إصدارها بمرسوم أو إعادتها إلى المجلس النيابي لمزيد من التعديل. كما يشكل ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي أولوية أساسية، في ظل الحاجة إلى معالجة أزمة الودائع المالية ووضع خطة لتعافي الاقتصاد الوطني.
كذلك، يبرز ملف إعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب الإسرائيلية كأحد التحديات الكبرى، حيث تسعى الحكومة إلى تأمين التمويل اللازم لهذه العملية بالتوازي مع جهودها الدبلوماسية لاستكمال تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة.
التحدي الإسرائيلي والسلاح
على المستوى الأمني والسيادي، تواجه الحكومة تحدياً كبيراً يتمثل في استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية، رغم اتفاق وقف إطلاق النار، واحتلالها لنقاط حدودية، إضافة إلى الخروقات اليومية للمجال الجوي اللبناني. هذا الواقع يفرض على الحكومة التعامل بجدية مع ملف السيادة الوطنية، بالتنسيق مع المجتمع الدولي.
وفي السياق، يبقى ملف سلاح حزب الله من القضايا الحساسة، إذ لطالما ظهر عامل انقسام داخلي وتأزيم للعلاقات الخارجية. أي مقاربة لهذا الملف تحتاج إلى رؤية متكاملة تأخذ في الاعتبار التوازنات الداخلية والتحديات الإقليمية، بما يضمن استقرار لبنان ويعزز سلطته الشرعية.
العهد الجديد والانفتاح العربي
على الصعيد الخارجي، تشكل زيارة الرئيس جوزيف عون إلى المملكة العربية السعودية محطة مفصلية في إطار تعزيز العلاقات اللبنانية – السعودية، خصوصاً في ظل تفاؤل المملكة بالعهد الجديد، الذي ترجم من خلال برقية تهنئة وصلت من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان لرئيس الوزراء بمناسبة تأليف الحكومة ونيلها الثقة.
ومن المرتقب أن يشارك الرئيس اللبناني في القمة العربية غير العادية في القاهرة، حيث ستكون القضية الفلسطينية في صلب النقاشات، ما يعكس الدور الذي يسعى العهد الجديد إلى لعبه على المستوى الإقليمي.
نجاح الحكومة ومواجهة العقبات
رغم الدعم النيابي الواسع، يبقى نجاح الحكومة رهناً بقدرتها على مواجهة العقبات التي قد تضعها الجهات المتضررة من الإصلاحات، والتي اعتادت على عرقلة أي مسار تغييري. كما أن نجاح العهد الجديد يتوقف على مدى التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ إن أي تأخير في إقرار القوانين المطلوبة قد ينعكس سلباً على مسار التعافي.
يدرك الرئيسان جوزيف عون ونواف سلام أن المهمة التي أمامهما ليست سهلة، لكن ما يميز هذه المرحلة هو التوافق الواسع على ضرورة إنقاذ لبنان. قد لا تكون الحلول آنية، ولن تتحقق الإنجازات بضربة واحدة، لكن إذا سارت الحكومة وفق خطة واضحة وبإرادة جدية، فإن لبنان سيكون على موعد مع مرحلة جديدة من الاستقرار والإصلاح.
حان وقت العمل، والحكومة أمام مسؤولية كبيرة، لتكون على قدر الآمال المعلقة عليها.