تجري جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) دراسة تعاونية مع مهندسين وعلماء من الوكالة اليابانية للعلوم والتقنية الأرضية-البحرية (جامستيك)، وهي معهد ياباني رائد في مجال أبحاث علوم البحار العميقة. وتهدف هذه الدراسة لإجراء مجموعة من الأبحاث الاستكشافية في البحر الأحمر، تحديداً في الشعاب المرجانية الضحلة والمياه العميقة باستخدام معدات يابانية متطورة ومتخصصة، فضلاً عن سفينة الأبحاث «ثول» التابعة لكاوست. انطلقت المشاريع التجريبية الأولى بين كاوست وجامستيك بدعم وتمويل من وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية (METI) ومكتب نائب الرئيس للأبحاث في كاوست. وتساهم مثل هذه المشاريع البحثية في تعزيز العلاقات الثقافية والدولية والمبادرات العلمية بين المملكة العربية السعودية واليابان، التي تسهّل للباحثين من مختلف أنحاء العالم استكشاف أماكن لم يسبق دراستها من قبل في منطقة البحر الأحمر. وتحدث البروفيسور المتميز دونال برادلي، نائب رئيس كاوست للأبحاث، بهذه المناسبة عن هذا التعاون وكيف أنه يوفر منصة متعددة التخصصات ومتعددة الأقسام لتبادل الموارد والخبرات الدولية، يقول: «تمتلك جامستيك خبرة كبيرة وطويلة في أبحاث المياه العميقة وتطوير بنيتها التحتية، مع أسطول سفن حديث ومعدات بحرية عالية التقنية ستكون ذات فائدة كبيرة لأهدافنا البحثية. وتوفر كاوست الدعم اللوجستي والفني المحلي بواسطة مختبرنا الأساسي للموارد الساحلية والبحرية، والأهم من ذلك كله، هو معرفتنا الكبيرة بمختلف نواحي البحر الأحمر من علم الأرض إلى علم البيئة».
من جهته، قال شون توكزكو، نائب رئيس مجموعة إدارة الرحلات الاستكشافية في معهد الاستكشافات والهندسة الأرضية-البحرية (MarE3) التابع لجامستيك: «تدفع وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية بمزيد من التعاون البحثي التقني والثنائي مع المملكة العربية السعودية. وشراكتنا مع كاوست هي حقاً مبادرة رائعة ستمكننا من الحصول على نتائج عالية الجودة واكتشافات مثيرة للاهتمام في البحر الأحمر».
الرحلات البحثية الاستكشافية
أكمل علماء كاوست وجامستيك أول رحلة بحثية في فبراير 2022 في منطقة شعاب الوجه، وهي عبارة عن تجمع للشعاب المرجانية في الطبقة المتوسطة «الضوء الأوسط» للبحر الأحمر (أي المنطقة التي ترتفع 200 متر عن مستوى قاع البحر). وتقع الشعاب المرجانية هناك فوق طبقة ملحية سميكة زاحفة، تتآكل وتتحرك وتغرق جزئياً مع تسلل الملح إلى المياه العميقة.
حقق الفريق العلمي في أحد تجمعات الشعاب المرجانية المغمورة من منظور رسوبي وبيولوجي وأوقيانوغرافي (علم المحيطات). وتميزت المنطقة بوجود فتحات بركانية نشطة، وينابيع ساخنة، وأحواض ملحية غنية بالمعادن، وعالم من الكائنات الحية التي تطورت بشكل فريد لتعيش هنا.
يمكن أن تتجاوز درجات الحرارة في برك المياه المالحة العميقة في البحر الأحمر 70 درجة مئوية، وهي أقصى درجة يمكن أن تتحملها معظم الأجهزة الإلكترونية الصناعية والعلمية والطبية. في حين أن أجهزة فريق كاوست يمكن أن تتآكل أو تذوب أو تطفو في مثل هذه الظروف القاسية، فإن معدات الفريق الياباني مصممة لتتحمل بيئات الملوحة ودرجة الحرارة والضغط العالية جداً. علاوة على ذلك، فإنهم معتادون على العمل على أعماق 3000 متر وأكثر، وإجراء دراسات جيولوجية وحيوية متكاملة باستخدام معدات متخصصة مثل الغواصات التي يتم تشغيلها عن بُعد والمركبات التي يديرها الإنسان.
قام مهندسو «جامستيك» بتدريب علماء «كاوست» على هذه المعدات وكيفية إجراء قياسات لمختلف المعايير، وجمع العينات من الرواسب والمياه والعوالق لتحليل التركيب الكيميائي الحيوي والمعدني لها وتحديد تسلسل الحمض النووي ودرجة الملوحة المطلقة. كما سجلت كاميرات جامستيك التي تم إنزالها في الماء عبر الغواصات الصغيرة ذات التحكم عن بُعد، مقاطع فيديو عالية الدقة لمجموعة من الحياة البحرية والظواهر الطبيعية المختلفة. يشار إلى أن طاقم سفينة الأبحاث ثول ومختبر كاوست للموارد الساحلية والبحرية قدموا أداء متميزاً في هذه الرحلات البحرية، عكست خبرتهم الهندسية ومهارتهم الكبيرة خصوصاً في دمج الأجهزة والمعدات الجديدة ونشرها من السفينة. يقول للويد سميث، مدير المختبر الأساسي للموارد الساحلية والبحرية في كاوست: «مختبرنا مؤهل جيداً للعمل في مثل هذه المهمات، إذ يمتلك طاقمنا خبرة عملية وتقنية في العمل في بيئة البحر الأحمر تمتد لـ 13 عاماً، ولدينا مختبر خاص بالضغط والحرارة لإجراء عمليات محاكاة للابتكارات التقنية والتحقق منها، ونمتلك خبرة تشغيلية واسعة تساعد جامستيك في صنع الأجهزة والمعدات التي يمكنها البقاء في البيئات البحرية الشديدة لفترات طويلة».
تحليل البيانات
مع اكتمال الرحلة البحرية الأولى، يكون العلماء من كلا الفريقين في المراحل الأولى من تحليل البيانات التي تم جمعها، والتي ستكون اللبنة الأساسية للأبحاث القادمة.
وتؤكد هيلدغارد ويستفال، الأستاذة الزائرة في كاوست، التي تتمتع بخبرة في علم الترسبات الكربونية، أن الرحلة البحرية كانت ناجحة من وجهة نظر علمية، تقول: «تدعم شعاب الوجه – التي هي في طور الغرق بسبب الوضع التكتوني- نمو وازدهار بعض الكائنات البحرية التي تكيفت لتعيش في ظروف الإضاءة المنخفضة والمياه الدافئة، مثل بعض الطحالب الحمراء والمنخربات (كائنات أولية ذات قواقع). ولا نزال نجهل الكثير عن المراحل التي تمر بها الشعاب المرجانية عندما تغرق، أو الحياة التي تعيش هنا. وتوفر هذه البيانات الرسوبية والبيولوجية ولقطات الفيديو التي تم جمعها في هذه الدراسة رؤية غير مسبوقة للحياة البحرية ولموائل هذه المنطقة الفريدة من البحر الأحمر».
ويشرح البروفيسور توماس فينكباينر، أستاذ موارد الطاقة وهندسة البترول في كاوست، الذي يدير مكونات المشروع التعاوني بين كاوست وجامستيك، أن الطبقة المترسبة في منطقة الوجه مثيرة للاهتمام لارتباطها الوثيق بالأرض. خصوصاً أنها تضم أحد أكبر الأودية على طول البحر الأحمر. فعندما تمطر، يمكن أن يفيض الوادي بسرعة، حاملاً معه تيارات ضخمة من الحصى والصخور والنباتات عبر قنواته في البحر، وأن «دراسة العينات الجوفية المستخرجة من هذه الرواسب تقدم لنا معلومات قيّمة عن المناخات القديمة في المنطقة وأكثر».
يقول البروفيسور دوغال ليندسي، كبير علماء معهد أبحاث العلوم والتقنية المتقدمة (X-star) في «جامستيك»، الذي يقود دراسات الأنظمة البيئية العائمة: «يضم البحر الأحمر مزيجاً من درجات الحرارة والملوحة المرتفعة جداً، الأمر الذي يجعله بيئة مناسبة لفهم تأثير تغيّر المناخ على النظم البيئية للعوالق. وفي هذا السياق، نخطط لاستخدام عينات العوالق التي تم جمعها خلال رحلة ثول البحرية لدراسة حجم التأثير ومقاومة تغير المناخ في العوالق البحرية مثل قنديل البحر، والتي من المتوقع أن تكون بجانب البكتيريا، واحدة من أكثر مجموعات الكائنات الحية نجاحاً في مقاومة تغير المحيطات».
أهمية الرحلات البحرية
يؤكد آدم وسبانالي، مهندس الحفر في فريق إدارة الرحلات الاستكشافية التابع لجامستيك، أن مشروع الوجه يعتبرخطوة أولى للتعاون الاستراتيجي في المستقبل، ويقول: «هذه الرحلة الأولية هي بمثابة تجربة للرحلات المستقبلية. لقد قدمت لنا معلومات مهمة حول معدل الملوحة ودرجة الحرارة والضغط. وهي معلومات ستساعدنا بلا شك في تحديد معدات البحث والأساليب التي يجب استخدامها في المستقبل. لقد تعلمنا أيضاً الكثير حول كيفية العمل معاً، والذي كان في حد ذاته هدفاً رئيسياً لهذا المشروع». ويرى فريقا كاوست وجامستيك أهمية مواصلة أبحاث أعماق البحار لتحقيق مجموعة من الأهداف التي في مقدمتها دراسة السمات التكتونية للبحر الأحمر وقشرته المحيطة. وفي هذا السياق، يخطط فريق جامستيك للعمل مع كاوست وكذلك وزارة الاستثمار السعودية لإحضار سفينة الأبحاث البحرية (كايمي) التابعة لهم إلى البحر الأحمر في رحلة استكشافية لمدة 6 أشهر لدراسة عمليات قاع البحر الأحمر وحوضه المركزي. ومن السمات الفريدة لشعاب الوجه أنها تقع عند منطقة صدع رئيسية تمتد عبر البحر الأحمر وتلتقي مع اليابسة. وسبب هذا الصدع هو حركة الصفائح التكتونية التي شكلت البحر الأحمر قبل 30 مليون سنة عندما بدأت شبه الجزيرة العربية بالانفصال عن قارة أفريقيا. ولا تزال هذه الصفائح التكتونية في حركة مستمرة وآخذة في الاتساع بمقدار 8-16 ملم كل عام.
كما سيعمل العلماء في هذه الرحلة البحثية على نشر شبكة من أجهزة قياس الزلازل في قاع البحر الأحمر. وكلما طالت مدة بقاء هذه الأجهزة في البحر، زادت موثوقية المعلومات التي يتم جمعها عن النشاط الزلزالي في المنطقة. ومن ناحية أخرى، سيساعد هذا على فهم العمليات التكتونية بين الصفيحتين الإفريقية والعربية بشكل أفضل وتأثيرها على حدوث الظواهر الطبيعية في المناطق الساحلية مثل الزلازل والفيضانات والتسونامي والانهيارات الأرضية. كما يمكن استخدام هذه البيانات لتقييم البيئة في المجتمعات الساحلية وإعدادها للكوارث البيئية لا سمح الله. ويعتبر جمع العينات الجوفية (Coring) من المجالات البحثية المشتركة بين كاوست وجامستيك. وسيتم هنا استخدام منصة جامستيك الخاصة المزودة بنظام (BMS)، وهو روبوت متطور يقوم بالحفر تلقائياً حتى عمق 60 متراً، وهو عمق يتجاوز المدى الذي يمكن لمعدات كاوست التعامل معه حالياً. ويؤكد شون توكزكو أن إحضار سفينة يابانية إلى البحر الأحمر تتمتع بقدرات متقدمة على إجراء البحوث في المياه العميقة (من عمق 7-8000 متر) يوفر ميزة كبيرة تمكن العلماء والباحثين من تحديد ماذا يوجد تحت سطح البحر، يقول: «سيساعدنا تحليل العينات الجوفية التي تم جمعها سابقاً في الكشف عن الظروف الخاصة بصفيحة البحر الأحمر، والتعرف على التاريخ المبكر له ولسواحله المجاورة. ويسلط الضوء أيضاً على تغير المناخ في المنطقة وآثاره على التطور البيولوجي وتطور البشر والكائنات الأخرى، فضلاً عن العمليات الجيولوجية المشاركة في تطور البحر نفسه».
موسوعة حية للبحر الأحمر
يقوم فريق كاوست وجامستيك ببناء موسوعة أو قاعدة بيانات مفتوحة المصدر من المعلومات التي يتم جمعها، باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد الأسماك والشعاب المرجانية والعوالق والكائنات الحية الأخرى. ويشرح البروفيسور توماس فينكباينر أن الهدف من ذلك هو إنشاء أرشيف حي متعدد التخصصات لأبحاث البحر الأحمر قابل للتوسع ويمكن الوصول إليه من قبل الطلبة والباحثين في جميع أنحاء العالم، ومن مختلف التخصصات والاهتمامات، مثل علم الأحياء، والبيئة، والموارد الطبيعية، والحفظ البيئي، والتقنية البحرية، وعلوم المحيطات، والجيولوجيا، والكيمياء الجيولوجية، والأخطار الجغرافية، والمناخ القديم، وعلم الأحياء القديمة.
ويضيف فينكباينر: «نأمل في إنشاء موسوعة يمكن لعلماء البحار المساهمة فيها، ويمكن للجمهور والباحثين استخدامها لدراسة الألغاز الكبيرة للبحر الأحمر، كالتعرف على القوى التي شكلته، وأصل الحياة والتنوع البيولوجي فيه، فضلاً عن الكائنات الحية المكتشفة حديثاً، والسمات والأنماط الجيولوجية الحالية، ودوران المياه، والتأثيرات المحتملة لتغير المناخ على الشعاب المرجانية ومحيطات العالم المستقبلية».
كما أكد البروفيسور فينكباينر أن مبادرة كاوست-جامستيك ستساعد في ملء الفجوات الحرجة في بيانات البحر الأحمر. وهي بيانات مهمة ومركزية للمشاريع الضخمة في المملكة العربية السعودية، خصوصاً في توجيه اللوائح والتشريعات الحكومية المتعلقة بتطوير وحماية البحر الأحمر.