لم يبتعد الشاعر الإنجليزي (روديارد كبلنغ) عن الحقيقة عندما قال نهاية القرن التاسع عشر «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، فالشرق (الروحاني) منطلق أديان ومنبع حضارات إنسانية النزعة، وبين الغرب والشرق من القواسم المشتركة المتجذرة، أكثر مما بينه وبين الغرب المادي، ما يوطّد علاقات العرب والمسلمين بمجتمعات تقدّس الأديان وتُعلي شأن الجانب الروحي، وتتوافق في العاطفة خصوصاً تجاه العادات والتقاليد، والموروثات الروحية والثقافية.
ويوثّق تاريخ الحضارات صفحات عامرة بالاتصال الروحي بين العرب والشرق فيما هناك انفصال عن الغرب المادي، عدا ما تفرضه اقتصاديات السوق وتبادل المنافع.
في الشرق من أدناه إلى أقصاه نلحظ نشأة الأديان وقداسة دور العبادة والتزام المجتمعات بعباداتها وطقوسها ما يبرر ويفسّر ظهور الديانات التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلامية) على الأراضي المشرقية، وتفاعل الإنسان العربي تفاعلاً إيجابياً مع الشعائر التعبدية الوافدة من شرق يؤمن بالزهد والتقشف أكثر من تفاعلها مع نظريات تفتح الشهية على التملك والامتلاء.
ولم ينحرم الشرق من تطور مجتمعاته، وانتقالها تدريجياً من مكونات معقدة إلى كينونات بسيطة، ومن عقائد مشتركة إلى قناعات موحّدة، ومن قرارات ارتجالية إلى إستراتيجيات منظمة ويمكن أن نحصي حضارات الشرق (السومرية، والمصرية، والبابلية، والكنعانية، والآرامية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والصينية، والإسلامية) لنلمس مدى اتصالها من خلال العمق الروحي المشترك المحرومة منه حضارات لاحقة بحكم عقلانيتها المتغوّلة بالماديات.
ويرى المفكر العربي الدكتور أنور عبدالملك أن دعوات الغرب من أجل الانفتاح عليه، لتأمين التحديث، واللحاق بالركب الحضاري، ليست إلا دعاوى لفرض النفوذ والهيمنة، التي لن تحقق إلا مزيدا من التبعية والانحدار، ويتساءل عبد الملك عن سر عدم توجه شعوب العالم العربي إلى الشرق، على الرغم من تزايد المؤشرات على انتقال مركز الثقل العالمي من دائرة الأطلنطي حول الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي إلى آسيا والمحيط الهادي، حول آسيا الشرقية والصين، إضافةً إلى المشترك بين الحضارة العربية الإسلامية وحضارات الشرق الآسيوي.
ولم يتحفظ عبدالملك على الخصوصية الحضارية، وسلّم بها، وذهب إلى أن خصوصية كل مجتمع تؤثر عليه، ويزداد التأثر قوة كلما كان ذلك المجتمع ضاربا بجذوره في عمق التاريخ، مؤكداً أن الخصوصية تؤدي إلى التوحيد والتجانس والألفة لأبناء الوطن، علاوة على تحصين الأمة ضد المؤثرات الخارجية الرامية إلى مسخ هويتها الثقافية والحضارية.
ويرى أن العالم الذي نحن بين يديه الآن هو عالم «ما بعد القطبية»، إذ يضم 190 دولة قومية وجدت بعد تاريخ طويل من التبعية الاستعمارية، علاوة على ظهور منظومات إقليمية تسعى إلى الأمن الجماعي والشراكة الاقتصادية، إلى جانب الشركات والهيئات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات، مشيراً إلى أن قوى التفكيك ستكون أقوى من نظام الهيمنة وسوف يزداد التوتر بين روسيا والغرب، وكذلك فإن القائمة ستمتد لتشمل اليابان والبرازيل، ومن الاتحاد الأوروبي إلى الهند.
ويدعو أنور عبد الملك العالم العربي إلى زيادة تقاربه مع القوى العظمى الكبرى الصاعدة أمثال روسيا والصين، مع التركيز على التجمعات الإقليمية التي يطلق عليها (الدوائر الجيو-ثقافية) والمناطق التي يمكن أن تصطلح على تسميتها حضاريا بالشرق (الدائرة الآسيوية، وفي القلب منها الصين) والدائرة الإسلامية، وفي القلب منها العالم العربي؛ وما يحيط بهاتين الدائرتين من بلدان تقع في أفريقيا وأمريكا الوسطى والجنوبية في ظل بحث الجميع عن الأصالة والدفاع عن الهويّة للتصدي للهيمنة الغربية، وتعزيز الروابط بتجاوز الإشكالات المربكة للعقليات التقليدية، ويضيف: الغرب يسوّق ثقافة الفرد فيما الشرق يحرص على المجموعة كونها تحافظ على تماسك الوطن.