هل بدأ العد التنازلي لنزع سلاح «حزب الله»؟ وهل تتحرك ساعة الحزب فعلاً نحو حوار وطني حقيقي، أم أنها لا تزال تدق وفق إيقاع حساباته الخاصة بعيداً عن منطق الدولة؟
منذ أن ارتفعت وتيرة الحديث عن ضرورة «حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية»، بدا وكأن «حزب الله» خرج عن صمته الإستراتيجي، وقرر الانتقال من سياسة الترقب إلى المبادرة برفع السقف، معيداً التذكير بخطوطه الحمراء، ومشدداً على أن سلاحه «خط أحمر»، وأن الاقتراب منه يعادل الاقتراب من «هوية الحزب ووجوده».
فهل نحن أمام موقف مبدئي ونهائي؟ أم أنّ في هذا التصعيد ما يُخفي استعداداً ضمنياً للمناورة، وربما التفاوض وفق شروط ومعادلات جديدة؟
في مواقف متسلسلة، متناقضة حيناً، ومتشددة أحياناً أخرى، صدرت عن شخصيات في قيادة الحزب الجديدة، لتكرس معادلة واضحة: لا نقاش جدي حول السلاح قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المتبقية، ووقف اعتداءاتها، وعودة الأسرى. وفيما يبدو ظاهرياً أن الحزب يرفض مبدأ الحوار، تكشف التفاصيل موقفاً أكثر تعقيداً: قبول بالحوار المشروط، وبتوقيت غير محدد، وأجندة غير ملزمة، وسقف زمني مفتوح. بمعنى آخر، الاستراتيجية الدفاعية أولاً، ونزع السلاح مؤجل حتى إشعار إقليمي لاحق.
رسائل في 3 اتجاهات
ويقرأ المحللون تطورات موقف «حزب الله»، وكأنها رسائل في ثلاثة اتجاهات:
للداخل الشيعي: إذ بدا التصعيد الأخير بمثابة رد فعل مدروس على أسئلة داخلية ترددت داخل بيئة الحزب، حول جدوى استمرار الإمساك بالملف العسكري في ظل أزمة معيشية خانقة واستحقاقات وطنية داهمة. أراد الحزب أن يعيد تثبيت ثوابته أمام جمهوره، ويغلق الباب أمام أي اجتهاد أو تشكيك قد يتسلل إلى داخل بنيته، مؤكداً أن السلاح ليس عبئاً بل هوية وموقع.
فيما الرسالة الثانية موجهة إلى العهد؛ أي إلى رئاسة الجمهورية والحكومة معاً، بعد دخول ملف السلاح إلى صلب النقاش الرسمي، سواء في مجلس الوزراء أو عبر المراسلات الدبلوماسية. ورفض الحزب الربط بين إعادة الإعمار أو الاستقرار المالي وبين ملف السلاح، معتبراً أن هذا الربط يخل بتوازنات دقيقة أرسيت بعد القرار 1701، ويستبطن مقاربة أحادية الجانب قد تفتح البلاد على انقسام سياسي خطير.
أما الرسالة الثالثة، فتحمل بُعداً إقليمياً صريحاً، ففي لحظة تتقاطع فيها الضغوط الغربية مع ملامح إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة، وجد «حزب الله» نفسه معنياً بتثبيت موقعه في معادلة التفاوض الإقليمي الكبرى، خصوصاً في ضوء المفاوضات الأمريكية ـ الإيرانية المتقطعة. التلويح بالسلاح ليس فقط للدفاع، بل أيضاً للبقاء على طاولة التسويات باعتباره أحد أبرز أوراق طهران الاستراتيجية.
رحلة
طويلة ومعقدة
وحسب رؤية المحللين لمسار هذا الملف، فإن تصعيد حزب الله لم يكن موجهاً ضد الرئيس جوزيف عون شخصياً، بل ضد «من وضعوا الملف على نار حامية»؛ أي الأحزاب المعارضة التي ترى في هذا الملف مدخلاً لتكريس سيادة الدولة بالقوة. وعلى الرغم من حرص الحزب على الفصل بين موقف الرئيس عون وبين خصومه، يبقى الاستياء من خطاب «احتكار الدولة للسلاح» ملموساً، ليس فقط على مستوى القيادة، بل في المزاج الشعبي لقاعدة الحزب، التي بدأت تظهر نوعاً من النفور تجاه الخطاب الرئاسي، رغم الود الظاهر.
هذا المسار المعقد بين نية «حزب الله» الموجودة، وشروطه التعجيزية لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية، لا يبدو أن الحزب مستعداً بعد لأي تنازل فعلي، ويرى في التوازنات الإقليمية القائمة حالياً ضمانة يجب الحفاظ عليها، لا المقامرة بها.
وفي ظل هذا المشهد، تبدو رحلة نزع السلاح طويلة ومعقدة، لا تُقاس بالأشهر أو البيانات، بل بتوازنات المنطقة، وشكل التسويات القادمة. فهل يتهيأ الداخل اللبناني لصيغة وطنية جامعة تأخذ بعين الاعتبار موقع الحزب وقوة الدولة؟ أم أن النقاش سيبقى معلقاً حتى إشعار إقليمي جديد؟