منذ انطلقت الدعوة المحمدية، أوائل القرن السابع الميلادي، والإصلاح؛ عنوان رئيس، على المستوى النظري والتطبيقي، وورد المصطلح في القرآن (صلح) ومشتقاتها أكثر من مائة وثمانين مرة، وفي مكة المكرمة، لم يكن الإصلاح العملي والتطبيقي ممكناً في مهبط الوحي، في ظل قلة العدد والعُدة، لذا كان التركيز على إصلاح الجانب العقدي، والخروج بالناس من دائرة الكفر والشرك بالقول اللين والموعظة الحسنة.
وبحكم ما حقق الإسلام من مكانة في النفوس، قهرت الجيوش الإسلامية؛ الزعامات المعاصرة لها
(البيزنطية، والفارسية) واكتسب القادة مفاهيم جديدة في الإدارة، والإرادة، وامتدت أراضيهم من أواسط آسيا إلى إسبانيا، وانتقل مركز السلطة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد، فتطورت المجتمعات بحكم الجوار والتلاقح وترجمة الكتب وإتاحة المعرفة، فنشأت دواوين الجُند، ومكاتب محفوظات الرسائل والوثائق، وخزينة تراقب وتضبط الإنفاق، وبُنيت المدن على طراز حديث، وتأسس القضاء، وتنوعت المؤسسات، وكان الحاكم يمارس سلطته طبقاً لقواعد موروثة عن أسلاف سابقين، وكان له فريق من المعاونين، يراقبون كل الأقاليم، وينقلون إليه ما يشاهدونه وما يسمعون، ويعقد جلسات للمعالجات والمحاسبة.
ولا يمكن إنكار دور الفرد في تاريخنا العربي الإسلامي، ولطالما توقّف بنا التاريخ على عتبات شخصيات أحدثت نقلات نوعية، واتخذت قرارات حاسمة، وطبعت بصمتها بالتحولات الحازمة لتطوير حياة المجتمعات والشعوب، فيما تنامت على أيدي القيادات التاريخية (المؤسسات) التي كانت وما زالت أشبه بكائن حيّ، يولد، وينمو، ويحبو، ويمشي، ويتكلم ويتعلّم ويشبّ ويشيخ ويهرم، ما عزز في ذهن الزعامات الفذة فلسفة التغيير واعتماد روح التجديد باعتبارها نواة كل إصلاح، إضافة للمراقبة والمحاسبة والعقاب إن لزم الأمر، ولعل أبرز سمات الإصلاح في العالم يراوح بين تدخل جراحي فوري يقطع دابر الإشكالات، وبين مداواة بالعقاقير والمهدئات.
ويؤكد المفكر المغربي الدكتور كمال عبداللطيف أن سؤال الإصلاح السياسي، الذي يعود، اليومَ، ليشكّل إطاراً كبيراً للتفكير في مآلنا السياسي الراهن، هو، في العمق، سؤال الحداثة السياسية؛ فالديمقراطيات، في صورها المتعدّدة، وأشكالها التاريخية المختلفة، تقوم على قاعدة مركزية مشتركة؛ تفصل السياسي عن العقائدي، والسياسي عن الطوباوي، وإبراز علاقات التداخل القوية القائمة بين السياسي والتاريخي، والسياسي والمجتمعي، والسياسي والعقلاني، والسياسي والفعل الإرادي التاريخي، والفعل السياسي والتدبير التاريخي للصور المؤسِّسة والمُشكِّلة للمجال الديني.
ولم ينف عبداللطيف أن بعض مظاهر التحديث السياسي قائمة في كثير من ملامح المشهد السياسي في عالمنا، إلا أن البنيات العميقة اللاحمة للتحديث، والبنيات التاريخية والنظرية، التي يمكن أن يترتّب عليها طريق اللاعودة، في موضوع غرس قيم الحداثة في فكرنا ومجتمعنا، لا تزال غير قائمة؛ بل إنّنا نعاني من سيادة اللغة العتيقة في خطاباتنا السياسية، وغالباً نستعمل بعض مظاهر الحداثة السياسية في علاقاتنا بالآخرين إرضاءً لهم، وهذا المظهر من مظاهر ازدواجيتنا السياسية يضاعف من إشكالاتنا السياسية، ويرتبط بمظهر اللاحسم، الذي يشكّل آلية من آليات تفكيرنا وحياتنا، ليس في المجال الذهني، والمجال السياسي، وحدهما؛ بل في مختلف مظاهر حياتنا.
وعدّ الإصلاح السياسي، الذي يتّجه إلى إعادة تركيب قيم الحداثة في مجتمعاتنا، في ضوء خصوصيّاتنا التاريخية المحلية، ثورة تفوق كلّ أحلامنا القديمة في الثورة، خصوصاً أن الأنظمة السياسية، ظلت خلال تاريخنا الطويل، تُعبّر عن خيارات يختلط فيها المعطى الخصوصي بالمتغيرات الحضارية المجاورة؛ خصوصاً متغيّرات الأمّم والشعوب التي ارتبطنا معها في علاقاتٍ لا حصر لها؛ إذ استفادت ممارستنا السياسية، في عصورنا الوسطى، من معطيات الممارسة السياسية الفارسية والبيزنطية، وعكست، في مجملها، سواء في مستوى الخطاب، أم في مستوى الفعل، صيرورة تاريخ معقّد من تداخل الطوباوي بالتاريخي. كما استمدّت بنية السياسي، في تاريخنا المعاصر، أغلب مظاهرها من نموذج الدولة الوطنية.