يخوّف الطرح التقليدي المجتمعات العربية والإسلامية من التبعية للغرب، محذراً من خطورة الفكر، وفق أحكام مسبقة، تنطلق من دوغمائية تقسم العالم إلى ثنائيات (إسلام، وكفر، دار سلام، ودار حرب، استلاب وتبعية، وخصوصية)، والتسليم بمثل هذه العقيدة والعقدة الثقافية يقحمنا في ديمومة صراع بين (الخير والشر)، كون المُزكّي لذاته لا يرى ولا يود أن يرى الصورة الحقيقية للفكر الإنساني الخالد، القائم على رؤى فلسفية ونظريات معرفية تُعنى بالتقدم والرقي البشري وتحاول إنقاذه من المنازلة الدائمة، تحت مظلة الأديان.
يمكننا تصوّر التوصيف للأفكار، وإن لم نسلّم بها على الإطلاق، إلا أنه يتعذر تصنيف الفكرة، على أنها مؤمنة أو كافرة، فالفكر يقوم على عقلانية تطمح لتعزيز القِيم العُليا للإنسانية وتوفير أرضية مشتركة تتعايش عليها البشرية دون عداء ولا صراع، وخلق فضاء التفكير الحُر لمزيد من تطوير وتثوير نواة الإبداع الفكري، دون تحسس من مصدره أو تحفظ على قائله.
ولم يكن تاريخ المسلمين القديم خالياً من تكفير المبدعين، فهناك مدارس رمت مخالفيها بالابتداع والزندقة في إطار قرار طوارئ لحماية حوزة الدِّين من التجريف والتجديف، دون اعتبار للتفريق بين ما هو عقدي، وما هو تاريخي، وما هو ثقافي، وما هو فقهي وما هو بشري.
يعتمد التفكير على معيار المنطق والتبعية للغرب التي تبرز تجلِّياتها اليوم ضمن مستويات معيشية شتى، ناجمة عن حريّة الفكر التي وضعت الغرب في مكانة عليا ليغدو القدوة في التحضر دنيوياً، باعتبارهم آمنوا أن ما في قلبك خاص بك، وما ينقدح في العقل من أفكار عام للجميع، ولذا تطبق الأمم أفكاراً وتتبنى قيماً لا تعرف شيئاً عن مصدرها ومرجعيتها الأولى.
والسعي لتحصين الواقع بالتقديس، والتنزيه، لن يخرج الأمم من تخلفها، بل ستتورط في المزيد من التقوقع، والانعزالية والتخلف، والمحاكاة بتديين الفلسفة لن يحقق أي منجز لكثرة القيود والمحاذير، فالفكر الحُرّ كان مقدمة للعلم التجريبي الذي أنتج الآلة ووفّر التمدن وكفل الحريات ونشر المعارف وأعلى شأن المخترعين.
وبقدر ما أنجز الغرب من أفكار، ونقضها، أو طوّرها، بقدر ما ينهمك بعض العرب والمسلمين في إلباس الفكرة لبوساً إسلامياً، ومحاولة التوفيق بين الأفكار بالتلفيق، بينما الأفكار النيّرة تتلاقى وتتكامل وتتفاعل وإن تصادمت، لم تحتج إلى مصالحات كون الأقوى والأصلح قادراً على إثبات نفسه، وما دعوى الأسلمة إلا دليل العجز المؤكد عدم القدرة على المجاراة.
ولعل أبلغ الأوصاف المُقاربة لبعض المتفلسفين العرب الجانحين للأسلمة ما قاله الكاتب الصديق مجاهد عبدالمتعالي، إذ عدّ (طه عبدالرحمن، عبدالوهاب المسيري، أبو يعرب المرزوقي، وائل حلاق) من المتفلسفين ضد الفلسفة.