Connect with us

الثقافة و الفن

فيلم ‘القصص’: تأريخ الطبقة الوسطى المصرية وجوائز قرطاج

مراجعة وتحليل فيلم ‘القصص’ للمخرج أبو بكر شوقي، الذي يرصد تحولات الطبقة الوسطى في مصر عبر عقود حاسمة وفاز بالتانيت الذهبي في أيام قرطاج السينمائية.

Published

on

فيلم 'القصص': تأريخ الطبقة الوسطى المصرية وجوائز قرطاج

حقق الفيلم المصري “القصص” إنجازاً لافتاً بفوزه بجائزة التانيت الذهبي في الدورة الـ36 لأيام قرطاج السينمائية، ليؤكد مكانته كأحد أبرز الأعمال السينمائية العربية لهذا العام. يأتي هذا التتويج بعد مشاركته المميزة كفيلم مصري وحيد في مسابقة الأفلام الطويلة بالدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، مما يعكس القيمة الفنية العالية للعمل الذي يقدمه المخرج أبو بكر شوقي.

خلفية تاريخية: مصر في عيون الطبقة الوسطى

يعود فيلم “القصص” بالمشاهد إلى فترة تاريخية محورية شكلت وعي أجيال بأكملها في مصر، ممتدة من هزيمة عام 1967 وحتى منتصف الثمانينيات. هذه الحقبة لم تكن مجرد سنوات عابرة، بل كانت مسرحاً لتحولات سياسية واجتماعية عميقة؛ بدءاً من انكسار الحلم الناصري بعد النكسة، مروراً بحرب أكتوبر 1973 التي أعادت جزءاً من الكبرياء الوطني، ثم سياسات الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات وما تبعها من تغيرات في بنية المجتمع، وصولاً إلى اغتياله وبداية عهد جديد. يقدم الفيلم هذه الأحداث الكبرى ليس كخلفية تاريخية جامدة، بل كجزء لا يتجزأ من حياة أبطاله، حيث تتشابك آمالهم وإحباطاتهم الشخصية مع مصير الوطن، مما يمنح السرد عمقاً إنسانياً وتاريخياً فريداً.

لماذا “القصص”؟ حكاية عائلة ترسم ملامح وطن

يتجاوز عنوان الفيلم “القصص” كونه مجرد اسم، ليعبر عن جوهر العمل الذي ينسج شبكة من الحكايات المتداخلة لعائلة البطل “أحمد” (أمير المصري). تبدأ القصة الرئيسية بعلاقة حبه مع النمساوية “ليز” عبر المراسلات البريدية، وهي وسيلة تواصل كانت شائعة في تلك الفترة. تتطور علاقتهما عبر عقود مليئة بالأحداث الفارقة: سفره للنمسا، عودته القسرية بعد استشهاد شقيقه في حرب 73، وصول “ليز” إلى مصر تزامناً مع انتفاضة الخبز عام 77، وزواجهما عام اغتيال السادات 81. كل محطة في حياتهما ترتبط بحدث وطني كبير، مما يجعل قصتهما الشخصية مرآة للتاريخ المصري. الفيلم لا يقتصر على قصة الحب، بل يتفرع ليقدم بورتريهات حية لأفراد العائلة، من الأب الموظف القلق، والأم التي تسكن المطبخ، والأعمام بشخصياتهم المتناقضة، ليصنع عالماً غنياً بالتفاصيل يعكس روح الطبقة الوسطى المصرية آنذاك.

رموز ودلالات: الفساد، الصلع، وصورة الرئيس

يبني أبو بكر شوقي رؤيته النقدية للمجتمع من خلال ثلاثة رموز أساسية. أولها “الفساد”، الكلمة التي يتفوه بها الأب الموظف في لقاء تلفزيوني فتتسبب في قطع الإرسال وخوفه من الاعتقال، وهو ما يلخص علاقة المواطن بالسلطة القمعية. الرمز الثاني هو “الصلع” الذي يصيب أحمد وزميله الوصولي “شمس”، كدلالة على التكلس الوظيفي وقتل الطموح داخل البيروقراطية الحكومية. أما الرمز الثالث والأقوى فهو “صورة الرئيس”، التي تمثل مفتاح الترقي الاجتماعي والوجاهة. فصورة “شمس” مع عبد الناصر فتحت له أبواباً مغلقة، بينما يحلم “أحمد” بصورة مماثلة مع مبارك لتغيير مصيره. هذه الرموز تفكك ببراعة سيكولوجية الطبقة الوسطى وعلاقتها المعقدة بالسلطة والوظيفة والحلم بالصعود الاجتماعي.

أهمية الفيلم وتأثيره المتوقع

تكمن أهمية فيلم “القصص” في قدرته على تقديم سردية محلية شديدة الخصوصية، لكنها تلامس قضايا إنسانية عالمية مثل الحب، الطموح، والإحباط. على المستوى المحلي، يعيد الفيلم تسليط الضوء على الطبقة الوسطى التي كانت عماد المجتمع المصري، ويحلل أسباب تآكلها وتغير أحلامها، وهو موضوع يكتسب أهمية خاصة في ظل التحولات الاقتصادية الحالية. إقليمياً ودولياً، يمثل فوز الفيلم في مهرجان عريق مثل قرطاج اعترافاً بقوة السينما المصرية المستقلة وقدرتها على المنافسة وإنتاج أعمال فنية ناضجة تتجاوز الحدود الجغرافية، وتقدم للعالم نافذة صادقة على التاريخ والواقع المصري المعاصر.

كرة القدم والوطن الأكبر: سخرية من الهزائم المتكررة

يضيف المخرج عنصراً آخر لتحليله وهو الهوس بكرة القدم، وتحديداً تشجيع العائلة لنادي الزمالك، المعروف بتاريخه المليء بالخسائر الدرامية. هذا الارتباط بفريق “الانتكاسات” يصبح مجازاً ساخراً لحياة الأسرة والطبقة التي تنتمي إليها، المليئة بالآمال التي لا تكتمل. في لحظة مفارقة سينمائية بديعة، يتزامن فوز الزمالك النادر مع حصول أحمد على صورته المنشودة مع الرئيس، لتنتهي الحكاية على أنغام أغنية “الوطن الأكبر”، في خاتمة تجمع بين المرارة والسخرية، وتلخص رحلة طويلة من الخيبات والانتصارات الصغيرة التي شكلت هذه الطبقة المحورية في تاريخ مصر.

انطلقت شبكة أخبار السعودية أولًا من منصة تويتر عبر الحساب الرسمي @SaudiNews50، وسرعان ما أصبحت واحدة من أبرز المصادر الإخبارية المستقلة في المملكة، بفضل تغطيتها السريعة والموثوقة لأهم الأحداث المحلية والعالمية. ونتيجة للثقة المتزايدة من المتابعين، توسعت الشبكة بإطلاق موقعها الإلكتروني ليكون منصة إخبارية شاملة، تقدم محتوى متجدد في مجالات السياسة، والاقتصاد، والصحة، والتعليم، والفعاليات الوطنية، بأسلوب احترافي يواكب تطلعات الجمهور. تسعى الشبكة إلى تعزيز الوعي المجتمعي وتقديم المعلومة الدقيقة في وقتها، من خلال تغطيات ميدانية وتحليلات معمقة وفريق تحرير متخصص، ما يجعلها وجهة موثوقة لكل من يبحث عن الخبر السعودي أولاً بأول.

Continue Reading
Click to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

الثقافة و الفن

الجزائر تستنهض صناعتها السينمائية بخطط طموحة ومشاريع كبرى

تسعى الجزائر، الفائزة بالأوسكار، لإحياء قطاعها السينمائي عبر مدينة سينما جديدة وفيلم ملحمي عن الأمير عبد القادر لجذب الإنتاج العالمي وتعزيز هويتها.

Published

on

الجزائر تستنهض صناعتها السينمائية بخطط طموحة ومشاريع كبرى

عودة قوية للسينما الجزائرية على الساحة العالمية

تشرع الجزائر، الدولة العربية الوحيدة التي حفرت اسمها في سجلات جوائز الأوسكار، في تنفيذ خطة استراتيجية طموحة لإعادة إحياء صناعتها السينمائية واستعادة بريقها الذي خفت على مدى عقود. مستندة إلى إرث سينمائي عريق، تراهن الدولة على مشاريع ضخمة تشمل فيلماً ملحمياً عن بطل المقاومة الأمير عبد القادر، وتأسيس بنية تحتية حديثة لاستقطاب الإنتاجات العالمية، في خطوة تهدف إلى تنويع اقتصادها وتعزيز قوتها الناعمة على المسرح الدولي.

إرث من ذهب: العصر الذهبي للسينما الجزائرية

لم يكن فوز الجزائر بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1970 عن فيلم الإثارة السياسي “زد” (Z) للمخرج كوستا غافراس وليد صدفة، بل كان تتويجاً لحقبة ذهبية للسينما الجزائرية في فترة ما بعد الاستقلال. خلال الستينيات والسبعينيات، أصبحت السينما أداة أساسية لتوثيق ملحمة الثورة التحريرية وبناء الهوية الوطنية. أفلام أيقونية مثل “معركة الجزائر” (1966) للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، والذي رُشح لثلاث جوائز أوسكار، و”وقائع سنين الجمر” (1975) للمخرج محمد الأخضر حمينة، الذي انتزع السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي، رسخت مكانة الجزائر كقوة سينمائية مؤثرة، قادرة على إنتاج أعمال فنية خالدة ذات رسالة سياسية وإنسانية عميقة.

خطة “إعادة تنظيم تاريخية” للقطاع

اليوم، تسعى الحكومة الجزائرية إلى استلهام هذا المجد عبر ما وصفه مستشار الرئيس عبد المجيد تبون للشؤون الثقافية بـ”إعادة تنظيم تاريخية” للقطاع. تهدف هذه الخطة إلى معالجة التحديات البيروقراطية التي أعاقت نمو الصناعة طويلاً. ويأتي تأسيس “المركز الوطني للسينما” كخطوة محورية لتوحيد الإجراءات وتسهيل منح التصاريح والتراخيص والتأشيرات، مما يفتح الباب أمام المنتجين المحليين والدوليين على حد سواء. هذه الجهود تأتي في سياق أوسع يسعى فيه الرئيس تبون لتعزيز صورة الجزائر الدولية، وتنويع مصادر الدخل بعيداً عن الاعتماد الكلي على قطاع الطاقة.

مشاريع عملاقة وبنية تحتية متطورة

تتجسد هذه الرؤية في مشاريع ملموسة على رأسها إنشاء “مدينة سينما” جديدة في العاصمة الجزائر، ستضم استوديوهات تصوير متكاملة ومرافق للإنتاج وما بعد الإنتاج. كما يُخطط لإنشاء مرافق متخصصة في المونتاج والمؤثرات الخاصة في منطقة تينركوك الصحراوية، للاستفادة من التنوع الجغرافي الفريد الذي تتمتع به البلاد. الهدف المعلن هو رفع القدرة الإنتاجية السنوية إلى ما يصل إلى 30 فيلماً، وهو رقم طموح بالنظر إلى وجود 170 مشروعاً سينمائياً ينتظر التمويل حالياً من وزارة الثقافة.

الأمير عبد القادر: أيقونة النهضة السينمائية

يُعتبر الفيلم الضخم الذي يتناول سيرة الأمير عبد القادر، قائد المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، حجر الزاوية في هذه النهضة. تؤكد الحكومة استعدادها لتوفير كافة الموارد اللازمة لهذا العمل الملحمي، ليس فقط لأهميته الفنية، بل لرمزيته الكبيرة في سرد قصص الأبطال الوطنيين وتقديمها للعالم. وقال فيصل متاوي، مستشار الرئيس: “إنه إنتاج كبير، والحكومة مستعدة لتوفير الموارد اللازمة لأننا بحاجة إلى سرد قصص أبطالنا. لن نحسب التكلفة”.

الانفتاح على الإنتاج الدولي

إلى جانب تعزيز الإنتاج المحلي، تسعى الجزائر بقوة لجذب الإنتاجات السينمائية الدولية. وقد تم بالفعل توقيع اتفاقيات إنتاج مشترك مع دول مثل جنوب أفريقيا، كندا، إيطاليا، وتركيا. وتمتلك الجزائر مقومات طبيعية هائلة، من سواحل البحر المتوسط إلى أعماق الصحراء الكبرى، مما يجعلها موقعاً مثالياً لتصوير أنواع مختلفة من الأفلام، وتطمح لمنافسة جارتها المغرب التي أصبحت وجهة مفضلة لهوليوود. كما يبرز مشروع فيلم “رقان” للمخرج الفرنسي الجزائري رشيد بوشارب، الذي يتناول قضية التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، كنموذج للتعاون الدولي في تناول موضوعات تاريخية حساسة، مما يعكس الثقة والدعم الكامل الذي يحظى به المشروع من السلطات الجزائرية.

Continue Reading

الثقافة و الفن

فيلم الست: نقد فني وقراءة في تجسيد منى زكي لأم كلثوم

تحليل نقدي شامل لفيلم ‘الست’ الذي يتناول حياة أم كلثوم. نستعرض رؤية أحمد مراد ومروان حامد، وأداء منى زكي، وتأثير الفيلم على إرث كوكب الشرق.

Published

on

فيلم الست: نقد وتحليل لسيرة أم كلثوم الجديدة لمنى زكي

أم كلثوم: سياق تاريخي لأسطورة لا تغيب

قبل الخوض في تفاصيل فيلم “الست”، من الضروري فهم السياق التاريخي والثقافي لشخصية أم كلثوم. لم تكن مجرد مطربة، بل كانت أيقونة ثقافية وسياسية شكلت وجدان أمة بأكملها. انطلقت فاطمة البلتاجي، الفتاة الريفية من قرية طماي الزهايرة بالدقهلية، في رحلة صعود أسطورية تزامنت مع تحولات مصر الكبرى في القرن العشرين. شهدت عصر الانفتاح الليبرالي، وتأسيس الدولة الحديثة، وصعود القومية العربية. كانت صوت مصر الذي صدح في كل بيت عربي، ورمزاً للقوة الناعمة المصرية في أوجها. ارتبطت أم كلثوم بعلاقات وطيدة مع قادة الفكر والسياسة والفن، من أحمد رامي وبيرم التونسي إلى محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب، وهم الرجال الذين شكلوا جزءاً أساسياً من نجاحها، وهو ما يجعل أي عمل يتناول سيرتها محط أنظار وتدقيق.

رؤية فيلم “الست”: صراع المرأة ضد الرجل؟

يأتي فيلم “الست”، للثنائي أحمد مراد ومروان حامد وبطولة منى زكي، ليقدم رؤية جديدة لسيرة كوكب الشرق. لكن هذه الرؤية تبدو، من خلال التحليل النقدي، وكأنها ترتكز على فكرة محورية واحدة: صراع أم كلثوم مع الرجال في حياتها. ينتقي السيناريو محطات معينة ليصور معظم الرجال كعقبات في طريقها؛ فالأب عنيف، والأخ وصولي، والمنافسون يحاربونها لكونها “ست”، وحتى الشخصيات الداعمة يتم تقزيم دورها. هذه المعالجة، وإن كانت تتماشى مع بعض التوجهات الفكرية المعاصرة، تتجاهل حقيقة أن أم كلثوم كانت نتاج عصر من الرجال العظام الذين دعموها وصنعوا معها مجدها، من طلعت حرب في الاقتصاد، إلى عمالقة التلحين والشعر الذين رفعوها إلى عنان السماء، مروراً بالدعم السياسي الذي حظيت به من الملك فاروق وجمال عبد الناصر.

يعتمد الفيلم على أسلوب سردي غير خطي، يبدأ من لحظة سقوطها الشهيرة على مسرح الأولمبيا بباريس عام 1967. هذه التقنية، رغم أنها تمنح صانع العمل حرية التنقل بين الأزمنة، إلا أنها هنا تخدم فكرة واحدة: استعراض “سقطات” أخرى في حياتها تسبب بها الرجال، وكيف كانت تنهض منها. لكن هذا التفتيت الزمني المستمر، والانتقال بين “فلاش باك” داخل “فلاش باك” آخر، يخلق حالة من الارتباك لدى المشاهد، ويستهلك طاقته في محاولة ترتيب الأحداث بدلاً من التفاعل الوجداني مع الشخصية.

الإخراج والأداء: بين الطموح الفني وكسر الإيهام

بصرياً، يتبع المخرج مروان حامد أسلوباً فنياً طموحاً، لكنه يقع في فخ الارتباك. فاستخدام الأبيض والأسود في مشاهد والملون في مشاهد أخرى يفتقر إلى منطق واضح؛ فتارة يرمز للماضي، وتارة للحظات الضعف، ثم يظهر فجأة في مشاهد انتصار، مما يفقد هذا الاختيار الجمالي دلالته. كما أن الإفراط في استخدام الموسيقى التصويرية، حتى أثناء غناء أم كلثوم نفسها، يبدو قراراً غريباً يزاحم صوتها الأسطوري بدلاً من أن يخدمه.

أما أداء منى زكي، فقد وُضع أمام تحدٍ كبير بسبب إصرار الفيلم على المحاكاة الشكلية الدقيقة لأم كلثوم، وفي نفس الوقت إغراق السرد بمقاطع أرشيفية حقيقية لها. هذا التناقض يضع المشاهد في مقارنة مستمرة بين الأصل والتقليد، مما يكسر الإيهام الدرامي باستمرار. أجبر هذا المنهج منى زكي على تبني لكنة ريفية قد تبدو غير مقنعة، وأثر على تلقائية الأداء، خاصة أن أفضل مشاهدها كانت تلك التي تخفي فيها عينيها بالنظارة السوداء، وهو ما يطرح تساؤلاً حول مدى نجاح عملية التقمص.

خلاصة نقدية: هل أضاف الفيلم للأسطورة؟

في الختام، يبدو أن فيلم “الست”، رغم ضخامة إنتاجه ونجومية أبطاله، لم يقدم الإضافة المأمولة لسيرة كوكب الشرق. لقد اختار رؤية درامية ضيقة تركز على شيطنة الذكور، واعتمد أسلوباً بصرياً وسردياً مربكاً، ووضع بطلته في تحدٍ صعب بكسر الإيهام الدرامي. قد يظل الفيلم في الذاكرة ليس كعمل فني خالد، بل كدراسة حالة حول مخاطر تناول السير الذاتية العظيمة دون رؤية متكاملة ومنهجية بحثية عميقة تحترم كلاً من التاريخ والفن.

Continue Reading

الثقافة و الفن

فيلم الست: نقد وتحليل لسيرة أم كلثوم الجديدة لمنى زكي

تحليل نقدي لفيلم ‘الست’ الذي يتناول سيرة أم كلثوم. هل يقدم الفيلم رؤية فنية جديدة أم يجتزئ التاريخ لصالح سردية معاصرة؟ اكتشف التقييم الكامل.

Published

on

فيلم الست: نقد وتحليل لسيرة أم كلثوم الجديدة لمنى زكي

تظل سيرة كوكب الشرق أم كلثوم مادة خصبة وجذابة لصناع الدراما، فهي ليست مجرد قصة نجاح مطربة استثنائية، بل هي مرآة عكست تحولات مجتمع بأكمله. وفي هذا السياق، يأتي الإعلان عن فيلم “الست” للثنائي أحمد مراد ومروان حامد وبطولة منى زكي، ليثير تساؤلات حول الرؤية التي سيقدمها العمل لشخصية بحجم أم كلثوم، خاصة عند مقارنته بأعمال سابقة حفرت مكانتها في وجدان الجمهور.

خلفية تاريخية: إرث مسلسل “أم كلثوم”

في عام 1999، قدم مسلسل “أم كلثوم”، الذي كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجته إنعام محمد علي وقامت ببطولته صابرين، قراءة بانورامية ليس فقط لحياة سيدة الغناء، بل لحقبة تاريخية محورية. لم يكن العمل مجرد سيرة ذاتية، بل كان تأريخًا للقضايا الحضارية الكبرى التي شكلت دخول مصر إلى الحداثة في القرن العشرين. نجح المسلسل في ربط صعود الفتاة القروية الموهوبة بالانفتاح الليبرالي، وتأسيس الجامعة، ودستور 1923، ونبوغ القامات الفكرية والفنية التي صنعت ذلك العصر. لقد أظهر كيف أن أم كلثوم لم تكن مجرد ظاهرة فردية، بل نتاجًا لبيئة ثقافية وسياسية سمحت لموهبتها بالازدهار لتصبح “كوكب الشرق”.

فيلم “الست”: رؤية جديدة أم اجتزاء للتاريخ؟

يأتي فيلم “الست” برؤية تبدو مختلفة جذريًا. فما الغرض الذي يقف خلف إنتاج عمل جديد عن شخصية تم تناولها بهذا العمق؟ يبدو أن الفيلم، من كتابة أحمد مراد وإخراج مروان حامد، يتبنى أسلوبًا سرديًا يعتمد على لحظة السقوط على المسرح كنقطة انطلاق لاستعادة الذكريات، وهو أسلوب سينمائي معروف استُخدم في أفلام سير ذاتية مثل “حليم” و”La Vie En Rose”. لكن فعالية هذا الأسلوب تعتمد على الغرض من ورائه.

وفقًا للبناء الدرامي الأولي، يبدو أن مراد أراد الانطلاق من لحظة سقوط أم كلثوم على مسرح الأولمبيا عام 1967 ليروي قصة كبوات أخرى تسبب بها الرجال في حياتها، وكيف استطاعت النهوض في كل مرة. يركز السيناريو على علاقتها بمجموعة منتقاة من الرجال الذين يظهرون كمعوقين أو متخلين أو أنانيين. من الأب الذي يضربها، إلى الأخ الذي تشك في أمانته المالية، والصحفي الذي يتم تقزيمه، وحتى الموسيقار عبد الوهاب الذي يُصوَّر كأنه حاربها لمجرد كونها “ست”.

تأثير محلي وإقليمي: إعادة تشكيل أيقونة

إن تقديم أم كلثوم بهذه الصورة قد يكون له تأثير كبير على كيفية فهم الأجيال الجديدة لهذه الأيقونة. فمن ناحية، قد يتماشى مع التوجهات المعاصرة التي تركز على تمكين المرأة وتحدياتها في مجتمع ذكوري. لكن من ناحية أخرى، يثير هذا التناول خطرًا حقيقيًا يتمثل في “لي عنق التاريخ” وتجاهل الحقائق الموثقة. فأم كلثوم، في الواقع، كانت نتاج عصر صعدت فيه على أكتاف عمالقة من الرجال الذين آمنوا بموهبتها ودعموها، من طلعت حرب في الاقتصاد، إلى زكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب في الموسيقى، وأحمد رامي في الشعر، والملك فاروق وجمال عبد الناصر في السياسة. لقد كان عصرًا من الرجال المتنورين الذين ساهموا في صناعة أسطورتها.

إن تحويل هؤلاء الرجال إلى مجرد عقبات في طريقها هو تبسيط مخل وتشويه لا يخدم الشخصية أو التاريخ، بل يضعها في قالب “الصوابية السياسية” الذي قد يجرد القصة من عمقها وتعقيدها الإنساني. فهل كانت قوة أم كلثوم تكمن فقط في تحدي الرجال، أم في قدرتها على قيادتهم والتعاون معهم لبناء مجدها الفني؟

نقد فني: بين الإخراج والأداء

بصريًا، يبدو أن الفيلم يقع في فخ الارتباك الجمالي. فالتنقل العشوائي بين المشاهد الملونة والأبيض والأسود يفتقر إلى منطق واضح، هل هو للدلالة على الماضي أم للتعبير عن حالة شعورية؟ هذا الغموض يشتت المشاهد. كما أن الإفراط في استخدام موسيقى تصويرية فوق أغاني أم كلثوم نفسها يبدو قرارًا غريبًا، فصوتها هو أقوى موسيقى تصويرية يمكن أن توجد.

أما أداء منى زكي، فيواجه تحديًا كبيرًا بسبب إغراق الفيلم بمواد أرشيفية حقيقية لأم كلثوم. هذا الأسلوب يضع الممثلة في مقارنة مستمرة مع الأصل، مما يكسر الإيهام الدرامي ويجعل المشاهد منشغلًا بتقييم المحاكاة بدلاً من التفاعل مع الشخصية. كان من الأجدى تقليل الاعتماد على الأرشيف لمنح الأداء فرصة للتنفس وخلق عالمه الخاص، كما فعل أحمد زكي في “ناصر 56”.

في النهاية، يظل فيلم “الست” محاولة طموحة قد لا ترقى إلى مستوى التوقعات. فغياب الرؤية المتكاملة، والتعامل الانتقائي مع التاريخ، والارتباك في الأسلوب الفني، قد يجعله عملًا يمر دون أن يترك الأثر المنشود، بل قد يصبح مرجعًا للتحذير من مخاطر تحرير الشخصيات التاريخية من سياقها الزمني والثقافي الحقيقي.

Continue Reading

Trending