من يزور إقليم شينجيانغ الواقع شمال غرب الصين يدرك أن قوة الصين لا تنحصر في ثقلها التجاري والصناعي كقوة اقتصادية تأتي في المرتبة الثانية عالمياً، بل إن الثقافة الصينية بتقاطعاتها الحضارية وأبعادها الاجتماعية والسياسية والدينية تمثّل إضافة نوعية أخرى تظهر بشكل جلي في إقليم شينجيانغ الذي يسكنه أبناء قومية «الإيغور» المسلمة ويمثلون الأغلبية من سكان الإقليم، إضافة إلى قوميات أخرى مثل الهان القازاق والهوى والقيرغيز وغيرهم من القوميات والأقليات الأخرى.
وباعتبار أن التنوع الثقافي قوة محركة للتنمية فإن تلك القوميات تشكل قيمة مضافة للصين من خلال تعددها الثقافي وانتمائها الديني واستقرارها الاجتماعي النابع من احترام الأنظمة الصينية الصارمة المصحوبة بنهضة تنموية كبيرة.
لم تكن زيارتي للصين الأسابيع الماضية التي استغرقت أكثر من 35 ساعة طيران زيارة تقليدية، بل كانت زيارة نوعية استطعت وزملائي الإعلاميون والكتّاب من نحو 15 دولة حول العالم أن نتعرّف على جوانب ثقافية وحضارية مشرقة ما كنا لنكتشفها لو لم نزر إقليم شينجيانغ بدعوة من القنصلية العامة لجمهورية الصين الشعبية.
كنت أعتقد أنني بقبولي لهذه الدعوة سأتمتع بقسط كبير من الراحة كبقية الدعوات المشابهة في بعض الدول، وسأكتفي بلقاء المشاركين والنقاشات الثرية التي تدور غالباً على هامش مثل هذه المناسبات، لكن سرعان ما اكتشفت من اليوم الأول في مدينة أرومتشي عاصمة إقليم شينجيانغ بأننا أمام برنامج عمل شاق ومزدحم يعكس ديناميكية وحيوية الصينيين، إذ يبدأ البرنامج اليومي عند السابعة صباحاً ويمتد إلى الساعة التاسعة مساء، ويتخلل البرنامج الكثير من الرحلات البرية والجوية الطويلة.
في إقليم شينجيانغ تنقلنا بين مدن أرومتشي، كاشغر، ومدينة إنين في محافظة إيلي ومن ثم العودة إلى أرومتشي مجدداً، وتنوعت الزيارات بين المتاحف والأماكن التاريخية والمساجد والمدارس، فضلاً عن المناظر الطبيعية الفاتنة والقرى الموسيقية والشركات الكبرى والموانئ ومحطات نقل البضائع عبر القطارات، ومناطق التجارة الحرة وكثير من المراكز التجارية المطلة على طريق الحرير القديم، التي كانت تعد محطة للقوافل ومراكز تجارية وحضارية مزدهرة.
وفي كل مدينة نجد أن الحضارتين العربية والإسلامية ما زالت تطل بجمالياتها، بدءاً من الحروف العربية المستخدمة في لغة الإيغور، وصولاً إلى المباني القديمة والنقوش والمساجد، بل إن أثر الثقافة الإسلامية امتد بشكل واضح إلى بعض العادات والتقاليد والأزياء التقليدية وطريقة البناء القديم باستخدام الطين والخشب، فضلاً عن التشابه في بعض المأكولات الشعبية خصوصاً في مدينتي كاشغر وإنين. ويعود ذلك إلى دخول الإسلام إلى إقليم شينجيانغ في الفترة ما بين نهاية القرن التاسع وبداية القرن العاشر، فضلاً عن انتقال بعض أبناء إقليم شينجيانغ إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لنتعرف من خلالهم على الكثير من العادات والتقاليد الجديدة والأكلات الشعبية ومنها المنتو واليغمش وغيرهما.
لفت انتباهي في مدينة كاشغر إحدى الأغاني القديمة في إقليم شينجيانغ التي استمعنا لها من إحدى الفنانات وتوقفت كثيراً أمام تلك الأغنية التي تتطابق لحناً مع أحد كوبليهات الفنان السعودي الراحل طارق عبدالحكيم في أغنية «يا ريم وادي ثقيف»، وتحديداً الكوبليه الذي يبدأ بـ«أنت المنى والأمل.. في مهجتي لك محل»، ورغم استعانتي بالملحن القدير محمد المغيص والفنان المبدع عبدالهادي حسين، اللذين وافقاني الرأي على تطابق اللحنين إلا أنني حتى الآن لا أعلم أيهما سبق الآخر في ابتكار اللحن، ومع أنني أستبعد أن يكون مجرد توارد أفكار وأنحاز إلى أنه اقتباس جريء من أحد الجانبين في وقت مبكر سبق ثورة الإنترنت، إلا أنني لست مع المبالغة في تهويل ظاهرة الاقتباس ووصولها إلى اتهام الفنانين بالسرقة؛ لأن عمالقة الموسيقى العالميين ومنهم بتهوفن، موزارت، باخ، وتشايكوفسكي وغيرهم اقتبسوا بشكل واضح وصريح من الموروث الأوروبي، كما أنهم اقتبسوا من بعضهم البعض؛ لذا لا أرى تضخيم تلك الظاهرة بقدر ما أرى أنها تتطلب دراسة مستقلة تتعدى اللحن والموسيقى إلى العادات والتقاليد وأنواع الأكل والرقصات وطريقة انتقالها بين الأقاليم المتباعدة، مقرونة بالزمن والظروف الاجتماعية والسياسية.
وفي محطة أخرى من جولتنا في إقليم شينجيانغ تحدث بروفيسور صيني مختص في إحدى المحاضرات عن الفنون والموسيقى، وكان يتساءل مستغرباً: هل الغناء والموسيقى محرمان في الإسلام؟ مؤكداً في الوقت ذاته أن لديه مفهوماً ملتبساً حول هذا المضمون، ففي الوقت الذي يؤكد له البعض تحريم الغناء والموسيقى في الإسلام فإنه يجد في مشاركة بعض الدول العربية والإسلامية في المهرجانات الخاصة بالفنون والموسيقى ما يدحض تأكيدات هؤلاء، ولفضّ اللبس حول هذا الموضوع تم الإيضاح في الندوة بأن الموسيقى في الإسلام موضوع خلافي بين الفقهاء؛ لذا فإن كثيراً من الدول الإسلامية ومن بينها السعودية تدرّس الموسيقى للطلاب والطالبات في المدارس، أما الغناء في الإسلام فيرى الفقهاء أنه مباح بضوابط.
ومن أبرز ما يميز إقليم شينجيانغ الغني بالثروات الطبيعية إضافة إلى أهميته الاقتصادية والثقافية والجغرافية، جمال الطبيعة الساحرة التي تحتضن فيها المساحات الخضراء قمم الجبال المغطاة بالثلوج، كما تكتسي هامات الإيغوريين الشامخة بالطواقي البيضاء عندما يعملون وسط مزارعهم المزدحمة بالفواكه والزهور الفواحة التي تمنح المكان ملمحاً رومانسياً يتعانق فيه العطر والمطر ليرسما لوحة تقتبس ألوانها وفكرتها من خيالات الفنانين والشعراء والموسيقيين المبدعين في تلك المناطق. بصراحة لم أتفاجأ كثيراً بجمال الطبيعة في إقليم شينجيانغ، إذ كان ذلك متوقعاً سلفاً، لكن المفاجئ بالنسبة لي هو وجود الصحارى التي تشبه إلى حد كبير صحارى السعودية، فحينما كانت الطائرة تحلّق بنا في طريقها من مدينة كاشغر إلى مدينة إنين في محافظة إيلي فتحت النافذة للاستمتاع بمناظر الطبيعة الخلابة لأتفاجأ برؤية الصحارى الذهبية الممتدة على مساحات شاسعة، وعند البحث والتقصي وجدت أن الصين تحتضن الكثير من الصحارى ذات الطبيعة الجاذبة للكثير من السواح والزوار، ومنها صحراء تكلامكان التي تأتي في المرتبة الثانية عالمياً من حيث المساحة بعد الصحراء الكبرى، وصحراء كومتاق، وصحراء قربان تنغوت وغيرها من الصحارى الذهبية الفاتنة.