Connect with us

ثقافة وفن

محمد جابر الأنصاري يرحل مورثاً مساءلة الهزيمة ونقد الناصرية

انتقل إلى رحمة الله، اليوم (الخميس) في المنامة، المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري، عن عمر ناهز 85 عاماً،

انتقل إلى رحمة الله، اليوم (الخميس) في المنامة، المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري، عن عمر ناهز 85 عاماً، ونعاه الديوان الملكي البحريني قائلاً: (بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، ينعى الديوان الملكي الدكتور محمد جابر الأنصاري مستشار جلالة الملك للشؤون الثقافية والعلمية).

ويعدُ الأنصاري، المولود في البحرين عام 1939؛ أحد كبار المفكرين العرب، وكان مشروعهُ الفكري، نداً للمشاريع الأخرى، وقدمت عنه العديد من الأطروحات الجامعية، وألفت العديد من الدراسات، ونشرت العديد من الكتب التي تتناولُ فكرهُ وكتاباتهُ، وأقيمت العديد من الندوات الفكرية التي تناقش أطروحاتهُ، على المستوى المحلي والعربي، وقال عنهُ الدكتور غازي القصيبي إنهُ: «صدمات كهربائية للعقل العربي»، موصفاً فكرهُ بـ«الكرة الملتهبة بالأفكار».

ولم يقف الراحل عند تخصصه في السياسية، بل كتب في الأدب، والنقد الأدبي، والاجتماع، والثقافة، وكان مفكراً موسوعياً، تمثلتُ أبرز مؤلفاته، في «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية»، وكتاب «لمحات من الخليج العربي»، و«مساءلة الهزيمة»، «الفكر العربي وصراع الأضداد»، «الناصرية بمنظور نقدي»، «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام»، «العرب والسياسة: أين الخلل؟»، «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، «رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية»، «انتحار المثقفين العرب»، و«لقاء التاريخ بالعصر»،

ونال العديد من الأوسمة والتكريمات والجوائز، منها، «جائزة الدولة التقديرية»، في العام (1989)، و«الميدالية الذهبية الكبرى» للثقافة العربية من «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم»، عام (1987).

أمضى عمراً من حياته في«جامعة الخليج العربي»، وعين عضواً في مجلس الدولة عام (1969)، ورئيساً للأعلام، واعتذر عن تقلد العديد من المناصب التي عرضتها عليه الدولة، مؤثراً مواصلة مشروعه الفكري، متأملاً ودارساً، في ظل أجواء أكاديمية.

وفي العام (1989)، صدر عن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة -وكان حينها ولياً للعهد- مرسوماً بتعيين الأنصاري مستشاراً ثقافياً وعلمياً في ديوان ولي العهد -آنذاك- ليبقى الأنصاري حتى ميعاد رحيله، المستشار الثقافي والعلمي لجلالة الملك.

وامتد عطاء الفقيد لأكثر من ستة عقود، وكانت بداياته شأن بقية أبناء جيله، إذ تلقى التعليم الأولي على يد (المطوع)، في الكتاتيب، وحفظ القرآن الكريم، ما أسس لغته الفصيحة، وانتقل إلى المدرسة التحضيرية، وكانت آنذاك «بيت الشيخ دعيج»، ولم يمكث في هذه المرحلة سوى عامٍ واحد، نظراً لتمكنه من العربية، لينتقل في فترة عمرية متأخرة للدراسة في «مدرسة الهداية الخليفية»، في العام (1950)، وكان يبلغُ من العمر آنذاك (10) أعوام، إذ تأخر والدهُ في تسجيله، لكنهُ أثبت جدارتهُ وتفوقه، و أمضى أربعة أعوام، من الدراسة الابتدائية، لينتقل بعدها للدراسة الثانوية، ودرس في «مدرسة المنامة الثانوية». ولتفوقه تم ابتعاثه من حكومة البحرين إلى «الجامعة الأمريكية»، في بيروت، ونال منها شهادة البكالوريوس في الأدب (اللغة العربية وآدابها) عام (1963)، وشهادة الماجستير في الأدب (حقل الأدب الأندلسي) عام (1966)، إضافة لشهادة الدكتوراة في (الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر)، عام (1979).

وكتب في صحف محلية وخليجية وعربية، منها «القافلة» و«الميزان»، و«الأضواء»، و«أخبار الخليج»، و«الأيام»، و«الحرية»، و«الأسبوع العربي»، ومجلة «الحوادث»، و«العربي»، و«الدوحة»، و«الصياد»، و«الأنوار»، و«الأبحاث»، و«دراسات»، و«رسالة الخليج»، و«المجلة العربية للعلوم الإنسانية»، ومجلة «الكويت»، و«البيان»والحياة.

Continue Reading

ثقافة وفن

العرب والاستدارة نحو الداخل

في كل الأزمات والتحديات التي تواجه الواقع العربي، تتجه النخب السياسية والثقافية والإعلامية للخارج، للبحث عن المؤامرات

في كل الأزمات والتحديات التي تواجه الواقع العربي، تتجه النخب السياسية والثقافية والإعلامية للخارج، للبحث عن المؤامرات والمخططات الأجنبية التي صنعت تلك الأزمة أو خلقت تلك التحديات التي تواجه الواقع العربي، والخطوة الأولى في مشروع وقف الانحدار العربي هو أن نستدير ونلتفت إلى الداخل، لمعالجة المشاكل والأزمات التي تؤثر حتماً على الأداء العام، ولتلبية الطموحات والتطلعات المشروعة التي تحملها قوى الداخل.. أما سياسة الهروب من استحقاقات ومتطلبات الداخل واتهام الخارج بكل سيئاتنا ومصيباتنا وأخطائنا، فإنه لا يعالج المشاكل بل يفاقمها ويزيدها أواراً واستفحالاً.. ولقد آن الأوان بالنسبة لنا نحن في العالم العربي أن نستدير إلى داخلنا، واكتشاف العوامل والأسباب الحقيقية التي أنتجت وما زالت الواقع السيئ الذي يعيشه العرب اليوم على أكثر من صعيد ومستوى. والتوجيه القرآني يحثنا إلى سياسة الاستدارة نحو الداخل واكتشاف أخطائنا قبل اتهام الآخرين بها.. إذ يقول تبارك وتعالى [ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم].. فالخطوة الأولى التي ينبغي أن نقوم بها إزاء كل ظاهرة ومشكلة وأزمة، هي البحث والفحص الجاد عن الأسباب الذاتية التي أدت إلى هذه الظاهرة أو المشكلة والأزمة، فلا بد أن نوجه الاتهام أولاً إلى أنفسنا، قبل أن نوجهه إلى غيرنا. وهذه المنهجية تلخصها الآية القرآنية [قل هو من عند أنفسكم] فإزاء كل هزيمة، إزاء كل مرض وظاهرة سيئة، كل مصيبة على رؤوسنا، ينبغي أن نلتفت قبل كل شيء إلى نصيبنا، إلى دورنا، إلى ما كسبته أيدينا.. إن واقع العرب الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار في حياتهم يهدد وجودهم نفسه. واتهام الخارج وحده وتبرئة الذات والتعامل معها بنرجسية واستعلاء يزيد تدهورنا وضعفنا وضياعنا، ونحن هنا لا ندعو إلى جلد الذات واتهامها بكل السيئات والإخفاقات، وإنما ندعو إلى معرفة العلل والأسباب الكامنة في فضائنا السياسي والثقافي والاجتماعي، والتي أفضت بشكل أو بآخر إلى الواقع السيئ الذي نعيشه. كما أن الخارج في علاقته معنا في العالم العربي، ليس بريئاً من أزماتنا ومشاكلنا المزمنة، بل هو شريك وفاعل حقيقي للكثير من المشاكل والأزمات..

ولكن الرؤية المتزنة التي ندعو إليها، هي التي تبدأ بالاستدارة إلى الداخل، واكتشاف الواقع ومعرفة مستوى مساهمتنا في هذه المشكلة أو تلك الأزمة.. فلا يمكن أن نواجه تحديات المرحلة، وهي تحديات صعبة ومعقدة باتهام الخارج وتبرئة الذات. إن هذا النهج هو الذي أدام الكثير من عناصر وحقائق التخلف السياسي والثقافي في العالم العربي، وهو الذي برأ الكثير من النخب التي كان لها دور سيئ في تطور الأحداث التي جرت في حقب زمنية مختلفة.. فالبارئ -عز وجل- لم يخلق الإنسان خلقاً جامداً خاضعاً للقوانين الحتمية التي تتحكم به فتدبره وتصوغه بطريقة مستقرة ثابتة، لا يملك فيها لنفسه أية فرصة للتغيير وللتبديل، بل خلقه خلقاً متحركاً من مواقع الإرادة المتحركة التي تتنوع فيها الأفكار والمواقف والأفعال، مما يجعل حركة مصيره تابعة لحركة إرادته، فهو الذي يصنع تاريخه من طبيعة قراره المنطلق من موقع إرادته الحرة، وهو الذي يملك تغيير واقعه من خلال تغييره للأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تتحرك في واقعه الداخلي لتحرك الحياة من حوله.. وهكذا أراد الله للإنسان أن يملك حريته، فيتحمل مسؤوليته من موقع الحرية. ويدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه.. والإكراه الديني والسياسي، لا يصنع منجزات تاريخية، وإن صنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جراء متواليات الإكراه وامتهان كرامة الإنسان. لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية، وفي هذه اللحظة التاريخية الحساسة والمصيرية إلى الاستدارة والاهتمام بالداخل. فالقوة الحقيقية هي التي تستمد من الشعب والمجتمع، والخطر الحقيقي هو الذي ينبع من الذات. فلا مناص أمامنا اليوم حيث المؤامرات والتطورات والتحولات، إلا الالتحام والالتصاق بشعوبنا. فهي عنوان العزة والقوة، وهي سبيلنا لتعزيز أمننا ووحدتنا وهي القادرة على إجهاض كل المشروعات والمؤامرات. فلتتجه كل مبادراتنا نحو شعوبنا، ولنعد الاعتبار لكل القوى الحية والفاعلة في المجتمع العربي إنها لحظة تاريخية حاسمة، وتتطلب -بلا شك- خطوات نوعية وحكيمة.

Continue Reading

ثقافة وفن

عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً

إنني أبحثُ في الأنقاضِ عن ضوءٍ وعن شعرٍ جديدآه هل أدركتُ قبل اليوم أن الحرف في القاموس يا حبي بليد؟كيف تحيا هذه

إنني أبحثُ في الأنقاضِ عن ضوءٍ وعن شعرٍ جديد

آه هل أدركتُ قبل اليوم أن الحرف في القاموس يا حبي بليد؟

كيف تحيا هذه الكلمات؟

كيف تنمو؟

كيف تكبر؟

نحن ما زلنا نُغذيّها دموع الذكريات

واستعاراتٍ وسكر

(محمود درويش)

منذ محمد بن سعيد بن حماد (البوصيري) صاحب البردة المحمدية يغمر العالم إشراق الشعر بأسماء لها حضور ساطع. غير أن محمد المهدي المجذوب قد سلك طريقاً آخر.

وكما ينساب الماء في الجدول هامساً ورقيقاً يستهل المجذوب نصه بالصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- طالباً العفو والمغفرة، مستهلاً قصيدته بحرف هامس (الصاد)، يعقب ذلك الهمس إصغاءٌ وابتهال.

صلِّ يا رب على المدثر

وتجاوز عن ذنوبي وأعني يا إلهي بمتابٍ أكبر

فزماني ولعٌ بالمنكر

وفي يسر ينقل اللوحة، متوغلاً عمق المعاني، منتقلاً إلى حروف الشدة (الدال والجيم)

درج الناس على غير الهدى وتعادوا شهواتٍ

وتمادوا لا يبالون وقد عاشوا الردى

ولإلمام الشاعر بالمعاني الدقيقة للألفاظ، التي تكشف عن الدلالات المقصودة مفجراً كل ينابيع الكلمة وأبعادها إلى أقصى وسعها (الصوتي والدلالي والبنائي) وما يحيط كل ذلك من إيحاءات نفسية وظلال، إذ إن الكلمة لا تنفصل عن سياقها، كما أن البعد الصوتي مرتبطٌ بالإيقاع الذي بدوره يفضي إلى تخوم وآماد من الدلالات النفسية.

وكما هو معلوم لدى علماء اللغة فإن البعد الإيقاعي ينبثق من خلال التكوين الصوتي للكلمة عبر توالد الحروف وتواليها، إذ إن لكل حرف مخرجه الصوتي، وكيفما يكون تناسق أو تنافر الحروف تكتسب المفردة وقعاً خاصاً بما تخلفه من تجاوب الأنغام وما تحدثه من تآلف الحروف على نسق صوتي خاص، هامساً تارةً وبارزاً أو جهيراً في تاراتٍ أُخر. فالكلمة (يلهث) في النص القرآني (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) تشي حروفها بانقطاع التنفس واللهاث. كما أن المفردة الإنجليزية (crash) تحيلنا حروفها إلى الصدام والتصادم وهكذا، كما أن الكلمة الواحدة تتأثر بتغيير معناها وأوجه تصريفها مع تغير الدلالات.

ليس هذا فحسب، ولكن الشيء اللافت للنظر في هذا النص رهان (المجذوب) على الفكرة التي تم عليها نسج الشعر، الفكرة التي أضحت نواة كجزيرة محاطة بماء الشعر مما خلق تماسكاً مذهلاً بين المبنى والمعنى، على ارتقاء (المجذوب) لذرى مملكة الشعر في هذا النص، إلا أن النص طرح أعقد المسائل الفكرية عاقداً الصلة بين المتنافر والمتجانس في ود حميم، مدمناً المحاورة بين الأضداد في تجانس أخاذ ورشاقة سلسة، فتم تفجير مفردة الشعر والذهاب بها إلى آفاق بعيدة من رحابة الفكر، وتم تناول أعمق الهواجس وأعظم الأسئلة دونما تقرير.

أيكون الخير في الشر انطوى

والقوى خرجت من ذرةٍ هي حبلى بالعدم

أتراها تقتل الحرب وتنجو بالسلم

ويكون الضعف كالقوة حقاً وذماماً

سوف ترعاه الأمم

وتعود الأرض حباً وابتساماً

هذا الاستفهام يمثل فلسفة الحياة متكئاً على محاورة الأضداد، موزعاً الثمار، ما خفي منها وما ظهر. مقيماً ذلك الجسر بين الأضداد (صلِّ يا رب على خير البشر الذي أسرج في ليل حراء/‏‏ قمراً أزهر من بدر السماء). (يقرأ للناس على أضوائه حكمة الخلق/‏‏ وأسرار البقاء). من إله قد هدى بالقلم علّم الإنسان/‏‏ ما لم يعلم.

إن الصلة بين هذه الأضداد ليل حراء/‏‏ قمراً أزهر من بدر السماء، وبين علّم/‏‏ وما لا يعلم، الحجاب/‏‏ فتنة الحسن، ومكان الأرجل الولهى/‏‏ طيور تتهاوى في شباك، مثلما شب حريق، يذهل الجسم/‏‏ والروح تنير، استقامت/‏‏ هوت، الزهد/‏‏ غنى، بطء/‏‏ استباق، قيد/‏‏ الانطلاق، اضطراب/‏‏ اتساق، بها من بهجة/‏‏ رفت دموع، وردوا المولد بالشوق/‏‏ وعادوا بالغبار.

لإحساسه العميق بصلة القربى بينها، مضمناً ذاكرته ووجدانه من حمولات النص القرآني المشع المشرق، هاجراً الديباجة المألوفة إلى ديباجةٍ مبتكرة ومستساغة.

ورغم أن النص تناول (ثيمات) كثيرة إلا أنه يمضي في خط متصل لا يتعرج ولا يلتوي كشعاع الضوء الذي يكشف عن الجمال الذي في ثنايا الجمال والجمال الذي في ثنايا الجلال، يتم كل هذا الانسياب في النص الذي هو عبارة عن مجموعة من اللوحات بين الهمس والجهر، بين الشدة والإذلاق في سهولة ويسر.

ليلة المولد يا سر الليالي

والجمال

وربيعاً فتن الأنفس بالسحر الحلال

وزها ميدان عبدالمنعم

ذلك المحسن حياه الغمام

بجموع تلتقي في موسم

والخيام قد تبرجن وأعلنَ الهيام

والشاعر في حركته الرشيقة على دراية تامّة بمعاني الألفاظ التي وراء الالفاظ، بمعنى أن السياق الذي وردت فيه الكلمات كان كاشفاً للدلالة المقصودة عبر نبض الكلمات، فالكلمات التي وصف بها النوبة تشكل لوحة مليئة بالإيقاع الحار. يضرب النوبة ضرباً/‏‏ فتئنُّ، وترنُّ/‏‏ ثم ترفضُ هديراً أو تجنُّ/‏‏ نقزت ملء الليالي. فكأنما تمازج الحروف يعكس أصداء النوبة على اختلاف إيقاعاتها وتباين طبولها ولربما يلفت النظر تسخير (المجذوب) قدرته وطاقته كفنان في توظيف التضاد بقدرة سحرية فائقة وبحركات لا تحس، (فمكان الأرجل الولهى طيور)، فالأرجل تشي بالارتكاز على الأرض إلا أن مكانها السماء، إذ إنها طيور كما تم تبادل الصور وتحريكها ودورانها مثلما شب لهيب وعلى صخب الميدان وضجة الحركة يلتقط الشاعر تفاصيل دقيقة ببصيرة نافذة.

ومشى في حلقة الذكر فتور

لحظة يذهل فيها الجسم والروح تنير

ومع قرع الطبول وانحناءات القوم وتثنيهم أضحت الطاقية ذات القرون مادة للإحساس بؤرة للشعور إذ إنها نهضت فوق جبين واسع رققه ضوء اليقين.

فالشاعر الحق من يلتقط الإيماءة الخاطفة، ويرى أكثر من الإنسان العادي، نلاحظ في القصيدة أن الأسطر غير متساوية، والتفعيلات. ولعلنا نلحظ ما بين بعض الكلمات من تباعد، فـ (المقدم) صارت مفردة لها موقفها الوجودي بمغزاه ودلالته وهي في هذا الوضع قادرة أن تبسط علينا طريقتها في الوجود وتنقلنا من أجواء النص إلى حلقات الذكر تماماً كالفعل يتقدم..

والمقدم

يتغنى يرفع الصوت عليا

وتقدم

يقرع الطبل الحميا

ورمى الذكر وزمزم

فالمفردة (المقدم) والفعل (تقدم) تحتل كل واحدة منهما سطراً لوحدها، إشارة ذكية ولماحّة لموقع المقدم بين القوم فهو من يتقدم الذكر.

بينما في مقام المدح تورق الحروف وتثمر وتغدق القافية.

وبيمناه عصاه تتحنى

لعباً حركه المداح غنى

فالانتقال بين التنوين في (لعباً) والحاء في (حركه) هو نفسه حركة حلوه موظفاً فيها الأثر الصوتي للحرف.

في هذه القصيدة تم تناول كثير من القضايا فقد تم الربط بين الوطن والاحتفال موظفاً الحركات الصوتية والإيقاع المتباين والإيحاء وسهولة الألفاظ وجزالتها، تم تناول قضايا الحرب والسلام والوجود والعدم والإرادة والقهر الفقر والغنى والفتاة والمرأة فهي قصيدة شاملة ولعل معايشة المجذوب الكاملة للمولد جعلته ينتقل من لوحة إلى لوحة في يسر مثل الشخص الذي ينتقل من غرفة إلى أخرى داخل بيته. وكما هو معلوم فإن التكثيف يمثل روح الشعر، وربما سلب الاستطراد الشعر حيويته وأهمد روحه. وإذا كان (ادغار الن بو) قد قال بعدم وجود القصيدة الطويلة فالمجذوب في نص المولد قد دحض هذه المقولة فطول القصيدة لم يهدد وحدتها وتلاحمها، كما أن القصيدة لم تبتعد عن الوصف شأنها شأن الشعر الحديث، لكن اقترابها من الوصف كان من أسباب ترقرقها وإشراقها، وقصيدة (المولد) رغم مضي أكثر من نصف قرن على كتابتها إذ كتبت في عام 1957 فهي من قصائد الحداثة من خلال بنائها الشكلي والدلالي، وهي قصيدة سلسة وغير عصية. فهل تغنى الأغنية؟ إن فيها من الإمتاع الشيء الكثير رغم أن المجذوب سلك فيها طريقاً غير مألوف، لقد بلغ فيها (المجذوب) الإمتاع بشعر تلمسه العيون ويتذوقه الوجدان. إنها أجمل فيديو كليب.

Continue Reading

ثقافة وفن

عبدالله النعيم.. الرثاء اعترافٌ متأخر

القدرات الفردية المتميزة شديدة الندرة، فأقصى ما يُتَوَقَّع من عموم الناس أن ينفذوا ما يُحدَّد لهم من مهام، وحتى

القدرات الفردية المتميزة شديدة الندرة، فأقصى ما يُتَوَقَّع من عموم الناس أن ينفذوا ما يُحدَّد لهم من مهام، وحتى التنفيذ يأتي في الكثير من الحالات ركيكاً وناقصاً، وربما في اتجاه مغاير للهدف. أما من يقلب الوضع البائس إلى وضع مبهج كما فعل عبدالله العلي النعيم فهذا إنسانٌ استثنائي، إنه إداريٌّ فذٌّ وفريد. كان النعيم مدعوماً بشكل مطلق من الملك فهد ومن الملك سلمان حين كان أميراً للرياض، لكن هذا الدعم السخي الغامر لم يكن محجوباً عن الأمانة قبله، فالفارق حققه النعيم باستثمار الدعم السخي، بل المطلق من قيادة الوطن.

هذه الصورة البهيجة هي الصورة التي انطبعت في ذهني حين أُسنِدَتْ مسؤوليات أمانة مدينة الرياض إلى عبدالله العلي النعيم، كان الملك فهد وأمير الرياض قد جرَّبوا كفاءة النعيم الاستثنائية بشركة الغاز، فقد مرت الشركة بارتباك شديد، وتفاقمت الشكوى من كل المناطق، فأُسندت إدارتها إلى النعيم، فأنهى الارتباك بمنتهى الفاعلية والسرعة. وكانت أمانة مدينة الرياض تعاني من خلل جذري في أسلوب الأداء.

ما زلت أتذكر التغيير الجذري خلال أيام الذي طرأ على مدينة الرياض، فقد تحوَّلت أحياء الرياض إلى نشاط متدفق حيث يتواصل العمل ليلاً ونهاراً، وكان العمل مصحوباً بحماس شديد من كل العاملين، إنها أيام استنفار، فالعمل لا يفتر في أي لحظة.

إنني حين أستعيد تلك الصورة أشعر بأن أي قول لن يستطيع أن يصوِّر ذلك التغيُّر السريع الجذري الباهر وذلك الحماس المتدفق الذي يغمر الجميع.

إن بعض الأحداث لا يمكن استعادتها مهما حاول الكاتب أو المتحدث؛ لأنها تكون أكبر من أي قول، وأروع من أي وصف، وأعظم من أي تعبير.

في ذلك اليوم البهيج كانت أمانة مدينة الرياض موعودة مع قائد إداري فذ لا تستطيع اللغة مهما بلغت من الوضوح والكثافة أن تفيه حقه.

في أي قطاع من قطاعات الحياة العامة المهمة فإنه حين يشتد سوء الأوضاع، وحين تكون الرتابة ثقيلة وضاغطة، وحين يكون الكلال مهيمناً وخانقاً، وحين يشعر الناس بالاستياء الشديد والضيق البالغ، وحين يبلغ الضجر والتململ حده الأقصى؛ يتطلع الجميع إلى منقذ..

وكان عبدالله النعيم هو المنقذ في تلك الأيام، لن أنسى كيف أن الناس حين يضيقون بأكوام النفايات حول بيوتهم يعمدون إلى إشعال النيران فيها فيمتلئ الجو بالدخان، ويشعر الناس بالاختناق ولا مفر من هذا الدخان الخانق.

لذلك تبقى اللغة عاجزة تمام العجز عن تصوير الفورة المثيرة التي شهدتها مدينة الرياض، فقد كانت بمجيء عبدالله العلي النعيم موعودة بتغيير سريع وكثيف وخارق بدَّل الوضع وغيَّر الحال.

لذلك أرى أن النعيم سيبقى مغبوناً مهما قيل عنه، فليس الخبر كالمعاينة، وليست الأقوال نِدّاً للأفعال، ولكن هكذا هو قدر الرجال الأفذاذ.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .