ظنَّ في بادئ الأمر أن للهواء حسابًا خفيًّا مع الريح، ثمّ بعد ذلك انتهت به رحلة فلسفته ونبوءته «الخجولتين» والقائمتين على قراءة صفحة من «كتاب» إلى طريق سائد وأقل تعقيدًا، حينما أدرك أنّ راحة «رأسه» أهمّ، وحكمَ أخيرًا: لا بد أنها الحرب الأزلية بين الخير والشر.
لطالما كانتا تهطلان بانتظام «أسبوعي» على مهلهما غيمتان «خاضعتين» كأنهما تستسلمان لقضاء إلهي مبرم منذ الأزل، و«خاشعتين» لذكر رقيق من الكلام، مسلمتان جسديهما «الرهيف» تراتيل (أذانٍ) معافى و«جلل»، حتى أن الريح لم تكن بوسعها سوى الامتثال لهضم مرارة ليست بالحسبان. وأعني مرارة خذلان «الهواء» تلكما الغيمتين، الذي لم يستو كفاية اليوم، فيصل هو إلى نقطة الندى، ويصلان هما إلى أبهى صورة كما جرت العادة في أيّامٍ سابقات. تأتيان هكذا منسجمتين متكاملتين، يستقيم إيقاع الريح فتستقيم وقع خطواتهما، وعلى رأس عشرات المتعبدين قرب مئذنةٍ وأشجارٍ، تنزلان على مهل راقصتين «ممتزجتين». ولكن (آه منه الهوىآه!) أقصد «الهواء» الذي فضّل الاستلقاء. وهذا ما حفّز تساؤله «المقهور» بصوت مشمئز وملامح شامتة: «أيترك كلّ هذا الحمل على الريح وحدها ؟! يا لهذا الهواء البائس!».
بعد اختفاء صوت المؤذن النديّ، كانت طاقة الريح قد شارفت نهايتها عند شجرتين «يتيمتين» اختارتهما «عنية» من بين «سبع» شجرات، إحداها زعمت سيدة ما سمراء ذات عينين ناعستين كحيلتين، وفم صغير مرسوم بشفتين باسمتين «ناضجتين» في كلّ مرة تشاهدهما فيها تظنّ أنهما تتأهبان لقبلة ستأتي بعد بضع ثوانٍ. حتى توهمّ أنّ لشفتيها «هواء» نادر الوجود، أما شعرها فأسود اللون بمسحة خفيفة من الشيب. إنّها تشبه القهوة «السوداء» تمامًا. أعني تلك القهوة التي تحضّرها أنت بصنع يديك فقط. بموسيقاك المفضلة، بروحك العاشقة للفن، وبفتنتها ومرارتها «الحلوة»، هكذا تبدو صورتها وهي تبتسم!
«ربما هي أيضًا لم يمر المشهد عليها مرّ السحاب ؟!» يتساءل بل والأكثر صدقًا كان يتمنى ذلك، عندما علقت من خلفه بصوت عالي الحيوية وهي تلتقط بعض الصور بكاميرتها الصغيرة: «هذه الشجرة خصوبتها غير مشبعة على خلاف الأخرى، تُرى ماذا بينها وبين الهواء؟» ثمّ سارت مسرعة تجاهها. لم يقل شيئًا ليس لأن لا يوجد لديهما ما يقوله؛ بل صدمة أمنيته «البريئة»، وتساؤله الذي مرّ خفيفًا وعاد خائبًا: «كيف غابتا عنها ؟! كما أنهما تقطعان تمامًا منتصف الشجرتين ؟!» أي فوق رأسها مباشرة. وهي في سبات عميق! (تلك إذًا خيبةٌ ضيزى)، تحسسها داخل صدره عندما كان يقف بينهما أسيرًا لفتنة تناسقهما -وسحر جمال منظرهما- في تلك المسافة الضيقة الفاصلة ما بينهم، ذلك الحيّز الذي ينافي معناه جملةً وتفصيلاً حتى شعر بأن أحدهم يحمله عاليًا شيئًا فشيئًا بين ذراعيه، خيّل له لحظتها، أن أحدها تحمل شفاعة ذنب عظيم لا يغتفر كان قد ارتكبه ناكرًا الوقوف بين يدي الله، وأخرى رأى فيها بأنه حبيب خاضع بين يديه !
ولكن ما لفت وشد انتباهه ووجدانه معًا ومس داخل قلبه شيئًا قديمًا قد مات هو أنهم كانوا يقفون جميعًا في نفس المكان لا يتقدمون ولايتأخرون -الشجرة مقابل الشجرة- والغيمة في وجه الغيمة !
وهي، أي السيدة التي تشبه «القهوة» بعجرها وبجرها، تقف تحتهما وبينهما هائمةً في تفحصٍ شجريّ بامتياز حين ضربت بكامل كفّيها اليسرى «قلب» الشجرة ثمّ تناولت بذات الصورة نفسها «عصًا» كانت بقايا محاولات خاسرة ممن لم يصل الدم إلى قلوبهم، لحرث ساق الشجرة «أمّا هؤلاء فليس بإمكاننا عمل شيء سوى القليل جدًا من الشفقة وسيل من لعنات ريثما تصيب أحدهم بل أجزم أنها حتمًا ستنالهم جميعًا وليس الآن، بل فيما صبر وانتظار، ربما بعد أمل وعطاء لا ينقطعان، وياليتنا نتعلم كيف نتكئ على بعضنا بعضًا حتى نموت واقفين لا منحنيين، حينها.. لا شك ستصيبهم لعناتنا جميعًا». قالت كما يقولون شعراء الهجاء بسرعة وغضب شديدين، ثمّ عادت لتكمل علاقتها الحميمة جدًا في هذه المرحلة مع «ساق» الشجرة.
(جميل وشعر ما تقولين، ولكن لو كنّا بشرًا كما الشجر).. حرّكَ بها لسانه سرًا وحسنًا ما فعل ثمّ حسّنَ أيضًا من طريقة وقوفه، لقد نهش جلده الفضول، أراد أن يعرف ما تنوي فعله أو ما ستقوله هذه السيدة التي ما زال إلى الآن لم يجرؤ على سؤالها «ما اسمكِ؟!» وهذا فضول جديد لكنه في غير وقته.
رجت منه برفق تليها ابتسامة واثقة الاقتراب قليلاً حيث هي. وأشارت: «تأمل الشجرتين معًا أو كلاً منهما على حدة، بداية من الجذع… ماذا ترى؟»
– لا شيء !
تغيرت ملامح وجهها، احمرت عينها الأكثر سحرًا، كأنه لم يرمِ «كلمة» بل جذوة على سمعِها والتي تكفلت بإطفائها كلمات متسلسلة قيلت في نفس واحد:
«ألم تلاحظ أنهما متساويان في العمق والسمك والمتانة؟! أليست ساق إحداهما مستقيمًا صلبًا متماسكًا لا تشوبه شائبة، والأخرى مائلا منأوله؟! أي نهاية الجذع وأول الساق، تحديدًا من هنا انظر جيدًا لهذه المنطقة. إنها (خشب القلب)»، مشيرة عليها بشكل دائري. أمّا هو فقد صبّ كلّ تركيز «عينيه» في اتجاه آخر على محاولة «عاشقين» لرسم قلبًا أو أنه قد تكوّن حقًا قلبًا «كاملًا». ولكن رآه منكمشا كأن به غصات حنين.
مسحت بعينيها سريعًا رأسيّ «الشجرتين»، التاج والأوراق، يمينًا وشمالًا، ثمّ أكملت بهدوء وأسلوب لطيفين: «ورق هذه الشجرة غزير ومتين، على عكس أختها، زهيد وأغصانها باهتة، فلم أتخيلها إلا مطأطئة الرأس، كشابة جميلة تعرضت للاغتصاب منذ حين»، كانت هنا تشير إلى الشجرة التي بها عطب في قلبيها. ولم يقم هو بأدنى محاولة للتعقيب على «الخراب» الألم داخل منطقة «خشب القلب» قلبًا آخر يعاني!
بنباهته «الرصينة» لاحظ أن إحدى الغيمتين لم تعد مقابل الأخرى! سحب نفسه التي ظنّ لحظتها أنها تنتمي لفئة مختلفة تمامًا عمّا هي عليه، بتشاؤم خطوتين للوراء ليتأكد. بالفعل، لم يعد يرى إلا سحابًا واحدًا متراكمًا ! «يبدو أنها ستمطر، حان وقت عودتي»، وجد سببًا للمغادرة.. هكذا اعتقد. وفي لحظة هلامية ساد فيها صمت مريب قرر ترك كل شيء وهمّ بالعودة. وعند مسافة تقدّر بمئتي «متر» تداركت «رهف»، نطق اسمها سريعًا، هكذا ثلاثة حروف دفعة واحدة، وبلا أي مقدمات !
على الرغم من سرعة بديهته إلّا أنه أخذ بعض الوقت حتى يضع حدًّا لخطواته السريعة. ثمّ واصلت: «قل لي من هذه المسافة الطويلة بينكما الآن، وأنت تشاهد الشجرتين بشكل أوسع. ماذا ترى لأقل لك من تكون؟!».
– لا شيء (!)
ها هو اليوم، يزعم أنه لا يشعر بشيء، ولا يحدث له شيء، سوى أنه في كلّ مرة يتمدد فيها على سرير موته «المشتهى» ليفلت خلسة من حنين تساؤله «المنتظم» لرؤيته فقط، وهو يحك قلبه قائلًا: «ترى، عندما كنت عائدًا، كيف تحولت الشجرتان لصورة رجل يجثو على ركبتيه أمام امرأة… وحاملاً بيديه مقص!؟»
رؤية نقدية
د. عادل خميس
القصة جميلة.. تكشف عن موهبة أدبية حقيقية.
موهبة.. موهبة.. ليست مجرد ظلال موهبة.
اللغة الشعرية في النص مميّزة، وأخاذة.
وإن طغت على بنية السرد.
أعني أن القصة جنس سردي، والسرد يقوم على الحكاية وطريقة سردها، وتأتي اللغة (العليا) لتكون حلية إضافية تزيد من رونق العمل، وتعمّق المعنى أكثر (أي أن وظيفة اللغة الشعرية في النص السردي تسهم في بناء الجمالية وتسهم في فائض المعنى).
لكنها أحياناً تطغى فتؤثر على بنية النص السردية. (الحكاية تتوه أحياناً خلف مستويات التشكيل اللغوي).
النص جميل، ويأخذك إلى آفاق مختلفة للتأمل والتأويل.