يطل علينا من الدنمارك الروائي الإريتري أبوبكر حامد كهال، عقب محطة ليبيا التي تعد من أهم المحطات التي قضى فيها وقتا طويلا، وكتب فيها أعماله التي تحمل رسائل إنسانية عميقة، فأصدر «رائحة السلاح» و«بركنتيا»: أرض المرأة الحكيمة» «تيتانيكات أفريقية» واقع الهجرة غير الشرعية وتفاصيل الرحلة المأساوية للمهاجرين الباحثين عن أمل في أوروبا و«في بلاد البونت»، وتناول فيها معاناة الشعب الصومالي، وآثار الحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية التي مزقت نسيج الوطن.
وعن «تيتانيكات أفريقية»، يقول: لقد قدر لي أن أكون في المكان المناسب في ليبيا، التي يتخذها المهاجرون بلدا للعبور. اقتربت منهم كثيرا، وكان لي أكثر من تجربة فاشلة للعبور إلى أوروبا، ومن خلال تلك التجارب، وسماع قصص المهاجرين، كتبت هذه الرواية. هي محاولة لفتح نافذة على حياة هؤلاء الذين يخاطرون بحياتهم على قوارب متهالكة في سبيل حلم بعيد.
تسرد الرواية تفاصيل رحلة أبدار، الذي يبدأ مسيرته من إريتريا إلى السودان، ومن ثم إلى ليبيا، ويواجه خطر الموت من جانب عصابات تهريب البشر. ومع كل محطة، تتكشف تفاصيل جديدة عن معاناة المهاجرين، بين الأمل في الوصول إلى أوروبا والحلم بحياة أفضل، وبين الواقع المرير الذي يواجهونه على أرض الواقع، بأسلوب سردي متقن، وتتداخل الحكايات بين الواقع والأسطورة، لتقدم صورة نابضة بالحياة عن القارة الأفريقية، التي يعكس كهال من خلالها تراثها الغني وأغانيها الضاربة في جذور الوجود. لغة الرواية حوارية ثرية، مشبعة بالصور والتشبيهات، وتحمل مصداقية التنوع اللغوي واللهجات المتعددة في المنطقة.
ومنذ الصفحات الأولى، يجد القارئ نفسه أمام تساؤل وجودي مؤلم: «هل ستغدو أفريقيا مثل خشبة مجوفة تعزف فيها الريح ألحان العدم؟»، صوت الراوي شاب إريتري نعرف اسمه لاحقا في الصفحة 57 من الرواية، التي تمتد إلى 122 صفحة من الحجم المتوسط.
يسرد الكاتب في الرواية رحلة بطلها، أبدار، الذي يقاوم «سحر الهجرة» طويلا، لكنه يستيقظ ذات يوم ليجد أن جرثومة الرحيل تسربت إلى دمه؛ فيجتمع 23 شخصا؛ بينهم 3 فتيات، وينطلقون من أحد مقاهي الخرطوم على متن سيارة المهرب، بعد أن دفعوا الرشاوى لحرس الحدود. الطريق شاق وخطير، ويواجهون مطاردة من قطاع الطرق الصحراويين (الهمباتا)، الذين يعترضون طريقهم ويجردونهم من ممتلكاتهم. بعد عاصفة رملية شديدة، يضل السائق الطريق وتنفد المياه، ما يؤدي إلى خسائر في الأرواح. في هذه اللحظات القاسية، تتجلى شخصيات الرواية في لقطات إنسانية مؤثرة؛ إذ تظهر الفتاة الإريترية «ترحاس» كأم للجميع، تحاول إنقاذ «أسقدوم» الذي يصارع الموت بينما تستيقظ في داخله ذكريات الحرب الدامية.
يستمر الناجون في المسير حتى يصلوا إلى طرابلس، حيث تبدأ مرحلة جديدة من رحلتهم مع التيتانيك -وهو الاسم الذي يطلق على القوارب التي تنقل المهاجرين عبر البحر، ويتعاملون مع سماسرة الهجرة، بعضهم صادق، وآخرون محتالون يختفون بمجرد استلام الأموال، وتظهر في المشهد شخصية مالوك، الذي حلم يوما بأن تحميه أغاني أجداده من غدر البحر. هو مغنٍّ يؤمن بأن الشجن سيحمله إلى ذكريات حبيبته التي قُتلت في حرب أهلية بليبيريا. لكن، هل تكفي الأغاني لمواجهة العاصفة؟
فجأة، تقتحم قوات الأمن الليبي مقر المهاجرين، لينقلب الحلم إلى كابوس الاعتقال والترحيل. وتنتهي الرواية كما بدأت، بأقدار مفتوحة على الألم؛ فالبعض يسقط في قبضة السجون الليبية، وآخرون يصلون إلى أرض الحلم فقط ليكتشفوا أن الفردوس كان مجرد سراب.