لطالما تجاوز طموح كُتّاب و فنانين، الحدود المحلية، طمعاً في الظفر، بالاعتراف الدولي، ونيل الجوائز العالمية، ولعل بعض الطموحات، لم تثبت حضورها محلّياً، لتغدو رهاناتها على المكاسب خارج حدود الجغرافيا العربية، ضرباً من الرهانات الشكلية الخاسرة. وهنا استطلاع لرأي نخبة من الكُتاب، لسماع وجهات نظرهم في موضوع قضيتنا الأسبوعية، إذ تساءل الناقد الأكاديمي الدكتور حسين المناصرة؛ لماذا يظن البعض أن القفز على محليته يحقق له العالمية؟ ويجيب؛ لا يمكن أن تكون هناك أية عالمية لهوية أو ثقافة أو لغة أو فكر أو فرد أو جماعة قبل أن تتحقق خصوصية محلية كاملة متكاملة، ذات استعدادات مادية ومعنوية تؤهلها للوصول إلى العالمية. ويرى المناصرة أن المحلية تصنع البطولة، وتنتج الثقافة في هوية لغوية معيشية تصنيعية إنتاجية تنافسية، مستعيداً تجربة اليابان إذ لم تكن شيئاً بعيد الحرب العالمية الثانية، ثم صارت في قمة العالمية عندما اشتغلت على خصوصيتها المحلية، مؤكداً أن اللغة الإنجليزية -على سبيل المثال- غدت لغة عالمية؛ إثر انطلاقها من محلّيتها أولًا؛ لتصبح لغة وثقافة وحياة كثير من الأمم وثقافتها ومعيشتها. ولفت المناصرة إلى أنه ليس هناك أية قيمة لملايين البشر ممن لم يتحصنوا بأطرهم المحلية القوية، مشيراً إلى أن اللغة العربية لم تحظ بشيء من الهوية العالمية إلا عقب أن جاء القرآن الكريم بصفته هوية إلهية إعجازية محلية، جعلت الأمة العربية تتربع على العالمية في العصر العباسي الأول، وأضاف: من يعتقد أنّ القفز على المحلية يمكن أن يحقق العالمية هو واهم، ولا يدرك حقيقة الجدلية التاريخية المنبثقة من صراع الحضارات؛ فأي حضارة تضعف منابتها الذاتية الأصيلة تتلاشى تلقائيًا وبسرعة؛ ولا يعود بإمكانها أن تنهض إلا من خلال إعادة ترميم قدراتها المحلية في مستوياتها كافة، خصوصا في أن تكون منتجة، لا مستهلكة أو خدماتية. وعدّ المناصرة العالمية اليوم؛ في القدرة على أن تكون محلياً منتجاً حراً مؤثراً في السوق العالمي، وفي الفكر والفلسفة في العالم؛ فتنبع العالمية من الدور الاقتصادي السياسي الثقافي الإبداعي الذاتي أو المحلي. ويرى الروائي علي المقري: أنّ البيئة المحلية ربما تحتوي على تجارب إنسانية مميزة تستحق أن تُروى عبر تقدير الكاتب نفسه؛ الذي يفترض أن يكون لديه خبرة في التجارب الأدبية المختلفة، ليقرر إلى أي حد يمكن أن يستفيد من تجربة بيئته المحلية؛ لافتاً لأهمية التساؤل؛ هل ستقدم قصصه المحلية إضافة إلى التجربة الأدبية العالمية في أي مستوى ولو على المستوى اللغوي بإيقاعاته الصوتية وطريقة سرده أم لا؟ موضحاً أنه إذا قام الكاتب باختبار هذه التجارب المحلية ليس بالضرورة أن يفكر بالعالمية أو الانتشار، ويكفي أن هذا المنحى يستهويه ويحفزه على تناوله، وأضاف: أن من حق الكاتب تجاوز هذا التنميط أو المحددات الاستهلاكية عن المحلية والعالمية، ومن حقه بحسب قدرته أن يروي أو يكتب ما يريد كتابته سواء عن بيئته أو بيئات أخرى، فما الذي يمنع أن يكتب كاتب في بريدة أو تعز أو الصعيد عن مترو باريس أو قطار برلين إذا كانت الأحداث أو التجربة الأدبية تستدعي ذلك ويستطيع أن يحقق فيها ما أراد.
فيما قال الشاعر السماح عبدالله: أذكر المانشيت العريض الذي كتبه الناقد الدكتور «غالي شكري» لما فاز «نجيب محفوظ» بجائزة نوبل، (الطريق إلى العالمية يبدأ بالجمالية)، والمتأمل لحالة الفائز العربي الوحيد بجائزة نوبل، سيكتشف أن الوصول للعالمية، بوابته الحقيقية هو الإغراق في المحلية، هكذا كانت كتابات «نجيب محفوظ»، حتى أنه لم يكتب عن الصعيد في مصر، لأنه لم يزره، ولا يعرف عن عاداته وتقاليده ما يسمح له بالتعبير عنه، وكان أبطال رواياته عندما يغادرون القاهرة، فإلى الإسكندرية، التي يعرفها هو، ويقضي فيها الصيف من كل عام.
ونحن عندما نقرأ «جابرييل جارثيا ماركيز»، إنما ننبهر بعوالمه السحرية التي لا نعرفها، كذلك فعل «وول سوينكا» الذي قدم لنا الأغوار الإفريقية، و«إيزابيل الليندي» التي اهتمت بأنثوية المرأة في أمريكا الجنوبية، وغيرهم من الكتاب العالميين الذين احتفوا بعوالمهم الخاصة.
بقدر ما يكتب المبدع عما يعرفه في بيئته الخاصة، بقدر ما يراه الآخر، ويحتفي به، لأن القارئ يبحث عن العوالم التي يجهلها، فإن قفز الكاتب على بيئته، وكتب عوالم غربية، وعالج المشكلات التي يعاني منها الأوربيون، فكأنه يبيع المياه في حارة السقائين، لن يشرب أحد من بضاعته، فلديهم ما يروي ظمأهم.
وترى التشكيلية اعتدال عطيوي؛ أن المبدع ينطق عن هويّة ذاتية تكونت عبر السنين، وتراكمت عاطفياً وروحياً وثقافياً لتسهم في تعزيز حضوره الإبداعي. مشيرةً إلى أنه عندما ينسلخ المبدع من ذاته، سيصبح إبداعه مائعاً بلا طعم ولا روح، مؤكدةً أنه لن يستطيع الانسلاخ مهما حاول كونه متجذرا في الأعماق؛ فالإبداع أردنا أم لم نرد، هو هوية المبدع؛ فنجيب محفوظ قفز للعالمية من قلب المحلية، وبيكاسو، الذي كانت (غرينكا)، أصدق أعماله، مضيفةً أن القفز يصنع هالة بلا شك ولكنها وفق شروط وكالة التسويق العالمية في زمن يسوق فيه كل شيء، واستعادة تجارب بعض الشعراء العرب الذين تماهوا مع الفرانكفونية وانفصلوا طوعا عن ثقافتهم الأم، فغادرتهم الهوية إلى حد كبير فتلاشى إبداعهم وغاب عن ذاكرة الاجيال، بينما ما زال إيليا أبي ماضي وجبران حاضرين رغم رحيلهما من عقود.
فيما قال الشاعر عبدالمجيد التركي: منذ أن بدأت كتابة الشعر لم أكن أحب قراءة النصوص النثرية التي تتغرَّب عن واقعها، لأنها تبحث لها عن حاضنة من خارج بيئتها، فلا هي التي تجمَّلت بمحلِّيتها، ولا هي التي سلمت من تشوهاتها المجلوبة من محاكاة البعيد القابع في أقصى الخريطة.
وكشف أنه قرأ نصوصاً مليئة بأشجار الأرز، واللَّيْلَكْ، والزعفران، والبلوط، والصنوبر، والصفصاف، والغاردينيا، والتوليب.. وعندما يسأل الشعراء عن معرفتهم بهذه الأشجار يجدهم لا يعرفون أشكالها، فيقول لهم: لدينا المشاقر والشذاب، والشمطري، والغبيراء، والثمام، ولدينا العُتُم والسدر، والطُّنُب، والمئات من الأشجار في قرانا ومدننا، وغيرها مما يبهر الأجنبي الذي يتطلع لمعرفة أشجارنا وزهورنا، مثلما ينبهر شعراء عرب بأسماء الأشجار والزهور التي لم يشاهدوها إلا في الصور.
ويرى أن العالمية هي في المحلية، وتساءل: لماذا يريد البعض القفز إلى محلية الآخرين لتحقيق العالمية.. ولماذا لا ننطلق من محلّيتنا، ليرانا الآخر عالميين كما نراه؟
وتحفّظ على إبداع يريد أن يظهر بمظهر العارف بكل شيء، لكي يخدع القارئ ويظنه عميقاً. وأضاف التركي: أعرف شاعراً يدعي الحداثة، يعيش في قرية صغيرة، ويستدعي في نصوصه نهر المسيسبي، وشلالات نياجرا، وأسماء عصافير، وطيوراً غريبة يستوردها من قناة ناشيونال جرافيكس. وهذا ومثله ممن يقفزون على محليتهم، لا يعرفون أن ماركيز بدأ بالكتابة عن بلدته أراكاتاكا في كولومبيا، وأن كازنتزاكيس كتب عن قريته الصغيرة كريت، وأن رسول حمزاتوف كتب عن داغستان.
لافتاً إلى حاجة المبدع لبعض الوعي، والاعتزاز بقراهم، وبآبائهم، وبعجائز الأسرة القرويات المليئات بالحكمة، دون تأفف من قريته، لأنه صار يكتب عن البرجر والبتزاهت، والباشاميل، ولا يليق به أن يكتب عن خبز الشعير الذي تصنعه أمه في تنورها الطيني بيديها المليئتين بالحناء والبركة، ويرى أنهم يدورون في أماكنهم مثل جمل المعصرة، الذي يدور وهو معصوب العينين، دون أن يرى شيئاً، ليفقدوا اتزانهم وجمهورهم، وتوقف الكثير منهم عن الكتابة لأنه علق في النفق دون أن يجد الضوء. ويؤكد أن كتابه الأخير «كبرت كثيراً يا أبي» حقق نجاحاً وانتشاراً واسعاً، وكتبوا عنه عشرات الدراسات النقدية والانطباعات، لأنه احتفى بكل ما هو محلي، فوجد الناس البسطاء أنفسهم فيه، وهذا هو سر نجاح الكتاب، لافتاً إلى أنه يعيش في صنعاء منذ أربعين عاماً، إلا أن مدينته (شهارة) ما زالت تحتل نصوصه ووجدانه وكريات دمه، كونها المدينة التي ولد فيها، ولا يظن أنه سيتوقف عن الكتابة عنها، لأنه ما زال يتنفس روائحها التي تكفي لكسر «مائة عام من العزلة» واستعاد حكمة جدته التي كانت تقول: (من خرج من جلده جَيَّفْ).
عبده خال الجوائز لا تصنع من الكاتب نموذجاً إنسانياً
المصطلح صنيعة الصحافة، والعبرة بمثابرة الكاتب وتراكم تجربته، وتجربة من سبقه أو المجايلين لها، فالكتابة الإبداعية تقوم على الإيمان بما نكتب، والإيمان بأن الكتابة قادرة على التغيير.
هناك كُتّاب يكتبون أعمالًا رائعة ومتجاوزة إلا أن غيابها عن اللغات الأوروبية يكدسها على الرفوف، وهذا يخل بالسؤال.. العالمية تبدأ بالمحلية؟
أؤمن أن الكاتب (كون) بذاته وما يبدعه سوف يتحول ذات يوم إلى حكاية تُروى بأنه فعل وفعل وبهذه الصيغة يحدث انتقالا ولو كان شفويا إلى العالمية مهما كان عدد المنتقل بينهم ذلك الإبداع.
وأعتقد أن الكاتب المؤمن بما يكتب يعنيه في المقام الأول كتابة ما يجوس في عقله، ولا يبحث عن جائزة وإن جاءت مكللة لما قدّم فأهلاً وسهلاً، والباحث عن جائزة ربما ينالها إلا أن الجائزة لا تعمق فكره ولا تنصبه نموذجا إنسانيا سعى ويسعى لكتابة الإنسان سواء كان محليا أو يشمل العديد من دول العالم.
وكل منا قرأ إبداعا لكتاب كان حظهم أنهم في دول الظل، فهل سيكون الجري وراء العالمية شرطاً للإبداع؟