في الوقت الذي يترقب فيه المجتمع الدولي إعلان القائمة الجديدة لمواقع التراث العالمي، تتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة، من خلال إمارة الشارقة، بخطى واثقة في ترشيح «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية» للإدراج ضمن قائمة اليونسكو، باعتباره موقعاً استثنائياً يوثق أحد أقدم أشكال الوجود البشري المتصل في شبه الجزيرة العربية، ويعود تاريخه إلى أكثر من 210 آلاف عام.
يقع «الفاية» في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، ويقدّم من خلال مكتشفاته المتعددة أرشيفاً حياً لتاريخ الإنسان الأول، حيث توثق طبقاته الجيولوجية المتعاقبة مراحل من التطور والتكيف والبقاء في بيئات مناخية قاسية. وتمثل هذه المكتشفات قيمة إنسانية وعلمية عالمية تُسهم في إعادة بناء فهمنا لأصول الإنسان وهجراته الأولى خارج أفريقيا.
وتقود الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، بصفتها سفيرة الترشيح الدولي للموقع، حملة واسعة للتعريف العالمي بأهمية «الفاية»، حيث أكدت أن الموقع لا يمثل مجرد معلم أثري، بل يحمل في طبقات الأرض أرشيفاً متكاملاً يعمّق فهمنا لهويتنا وجذورنا، ويضيء الطريقة التي تعلم بها الإنسان فنون البقاء منذ فجر التاريخ. وأضافت أن إدراج «الفاية» في قائمة التراث العالمي يمثل خطوة نحو حماية هذا الإرث الإنساني، ويمنحه فرصة أوسع ليؤدي دوراً تثقيفياً وحضارياً للأجيال القادمة، ويكرّس موقع الإمارات كمحور فاعل في حماية التراث الإنساني العالمي.
وقد جاء ترشيح الموقع ضمن فئة «المشهد الثقافي» في عام 2024، ويخضع حالياً للتقييم من قبل لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو. ويمثّل هذا الترشيح تتويجاً لأكثر من ثلاثة عقود من البحث العلمي والتعاون الدولي، قادتها هيئة الشارقة للآثار بالشراكة مع جامعات مرموقة مثل جامعة توبنغن الألمانية وجامعة أكسفورد بروكس البريطانية، وأثمرت عن اكتشاف 18 طبقة جيولوجية تعود للعصر الحجري، توثّق كلٌ منها نشاطاً بشرياً مختلفاً في الموقع.
وتظهر الاكتشافات أن «الفاية» لم يكن ممراً عابراً للهجرات البشرية فحسب، بل كان موقعاً شهد استيطاناً بشرياً متكرراً خلال الفترات المناخية الملائمة، بفضل توفر مصادر المياه الطبيعية، والصوان لصناعة الأدوات، والمأوى في الجبال المجاورة. وقد أكّد الباحثون أن هذه العوامل مجتمعة جعلت من «الفاية» بيئة مثالية لاستقرار الإنسان في عصور ما قبل التاريخ.
وأشار مدير عام هيئة الشارقة للآثار عيسى يوسف إلى أن الموقع يتمتع بحماية قانونية وفق قانون الشارقة للتراث الثقافي رقم (4) لسنة 2020، وأن الجهود التعاونية مع خبراء دوليين مكّنت من توثيق سجل فريد للبقاء والتكيف البشري. وأضاف أن الموقع لا يحمل قيمة وطنية فقط، بل يمثل إسهاماً عالمياً يربط بين ماضٍ بعيد وحاضرٍ يسعى لفهم جذور الإنسانية.
وفي إطار دعم هذا الترشيح، وضعت دولة الإمارات خطة إدارة متكاملة للموقع للفترة بين 2024 و2030، تهدف إلى الحفاظ عليه، وتوجيه الأبحاث العلمية، وتنظيم حركة الزوار بما يتماشى مع معايير التراث العالمي، ويضمن استدامة الموقع كمورد علمي وثقافي وإنساني.
ويحظى موقع «الفاية» باهتمام خاص في الدورة الحالية من الترشيحات، نظراً لطابعه الاستثنائي وقيمته المعرفية، وسط إجماع علمي على أهميته في إعادة رسم خريطة تطور الإنسان المبكر وهجراته. وفي حال تم اعتماده من قبل اليونسكو، فسيصبح الموقع شاهداً عالمياً على الدور الذي لعبته الجزيرة العربية في سردية التاريخ الإنساني الكبرى، ويعزز مكانة دولة الإمارات كراعٍ نشط في حماية التراث الثقافي العالمي.