لا يخلو هذا الكتاب من صفتي الظرافة والعمق اللتين ذكرهما المترجم عبدالوهاب أبو زيد في مقدمة كتاب مذكرات الكاتبة كوري تايلر «في معنى أن نموت» على لسان المؤلف والصحفي الأسترالي «بنيامين لو».
هذه المذكرات التي اختار لها الشاعر والمترجم عبدالوهاب أبو زيد هذا العنوان للروائية وكاتبة السيناريو الأسترالية «كوري تايلر» نقلها إلى العربية عن الإنجليزية، وصدرت، أخيراً، في كتاب عن دار أدب للنشر والتوزيع في 205 صفحات من القطع المتوسط، ولعلّ ما يميز هذا الكتاب إضافة إلى فكرة الحوار مع الموت، أنّ اللغة التي ترجم بها الشاعر عبدالوهاب أبو زيد هذا الكتاب كانت متجانسة مع الفكرة التي انطلق منها الكتاب، فأشركت القارئ في مسحات الحزن الطاغية على هذه المذكرات، وألبست العنوان معناه، فاتسق (كما قال بذلك أكثر من قارئ لهذا العمل) العنوان الشاعري مع شاعرية السرد التي كتبت بها هذه المذكرات.
الكتاب كما يبدو للقارئ يقوم على ثلاثة فصول، لكلّ فصل عنوان، كان أولها «قدمان باردتان» و«غبار ورماد» ثمّ «نهايات وبدايات».
في هذا الكتاب انتقال (كما تقول الكاتبة) من أرض الأوهام إلى مملكة الواقع، التي أصبح معها الموت شيئاً لا يكاد يذكر، والصمت موحشاً، لكنهما (الموت والصمت) لا يمدان المحتضرين بأيّ عون كما ترى الكاتبة!
الكتاب يعرض للعمر القصير الذي لم يعد يشكّل للمصابين بأمراض السرطان قيمة، لأنّ الحياة بالنسبة لهم محدودة، وأيامها معدودة، وعليه فقد كتبت «تايلر» لأنها أرادت ألاّ تشعر أنها وحيدة في هذا العالم!
فكرة الانتحار التي قامت عليها هذه المذاكرات، كانت نتيجة اكتشافها المتأخر بأنها مريضة بالسرطان، لذلك فكرت في الانتحار، ولكنها عدلت عن هذه الفكرة بسبب وخز الضمير الأخلاقي وأنها لا تريد أن تلحق الأذى دون قصد بالآخرين إن هي أقدمت على هذا الفعل مع أنها لم تنظر إلى نفسها على أنها شخص يتمتع بقيم أخلاقية عالية ولم تحظَ بخلفيات دينية جادة تعلّق عليها هذه الأخلاق.
هذا العدول عن فكرة الانتحار كان سبباً في إبراز جوانب الحياة الأخرى التي تحيط بتايلر، وتتمسّك بالحياة من أجلها، فكرت في صدمة أسرتها، في الأذى الذي سيقع على عاتق من يخمد النيران، أو إخراج الجثة من الماء، أو التقاط قطع الدماغ من على الرصيف إن تمت هذه الفكرة بعيداً عن الطريقة، وكان نتيجة هذا التفكير وهذا الوخز، سؤالاً: ما ذنب أولادي حينما يعايرهم الناس بأمهم المنتحرة؟!
تحملت تايلر الموت ببطء نتيجة إصابتها بالسرطان، وتعاملت مع الحياة (كما تقول) في الفصل الأول بخفة، ولم تكبّد نفسها العناء، فلم تكن الكتابة كلّ أولوياتها؛ لأنّ العمل والأسرة كانا مقدمين عندها، أما الكتابة فكانت تتهيأ لها ولا تمارسها!
في الفصل الثاني أدخلتنا الكاتبة إلى عائلتها، أبيها وأمها، أخيها إليوت، وأختها سارة، تنقلاتها، سفرها، علاقات الأسرة بالمحيطين بهم، حياتها المقسّمة بين أستراليا واليابان في ثلاثة عقود.
في الفصل الثالث ركزت الكاتبة على المدرسة واكتشافها العوالم المحيطة بها، وبقاء العلاقة القريبة بأمها في ظلّ تدهور حالة أبيها المزاجية، واحتدام غضبه، وتحوّل المنزل إلى ساحة معركة، ومن ثم الانفصال!
هذا الكتاب الذي وصلت فيه الكاتبة الأسترالية «كوري تايلر» إلى حافة الكلمات، المكان الذي وصفته بأنها تتعثر فيه، وينتابها التوتر في مواجهة حتمية الموت المرعبة، لم يكن للقارئ أن يتلاقى فيه مع الكاتبة لولا براعة الترجمة التي أجاد فيها عبدالوهاب أبو زيد، إضافة إلى الهوامش التي حملها هذا الكتاب وكانت رافداً معرفياً آخر أضافه (المترجم) إلى هذا العمل الأدبي البديع.