Connect with us

ثقافة وفن

السمّاح عبدالله: أشرب فتقول لي أمي: «إن الله سقاك»

يملأ مدير بيت الشعر المصري السمّاح عبد الله، المكان الذي يتاح له بالزاد الثقافي، والإبداعي، ومن يقرأ شعره ونثره

يملأ مدير بيت الشعر المصري السمّاح عبد الله، المكان الذي يتاح له بالزاد الثقافي، والإبداعي، ومن يقرأ شعره ونثره يطمئن على مستقبل الكتابة، كونه زاخراً بالمتجدد، ويعتني بكل التفاصيل، ورمضان فرصة للحديث عن الطفولة وتبيئة شرعية الحنين.

• هل تتصفد شياطين الكتابة في رمضان؟

•• أكبر الظن أنها تنطلق، هذا إن شئت «الكتابة» بمعناها المتسع، أما إن شئت الكتابة بمعناها الإبداعي، فربما تتصفد بعض الشيء، الكتابة، بالنسبة لي أكثر من كونها هواية، هي ممارسة دائمة، وهي متنقلة بين الأشكال المتباينة، ومادامت هناك كتابة، فهناك قراءة، والقراءة بطبيعتها كريمة ومعطاءة، فالفكرة تحيلك لمقالة، والمقالة تحيلك لكتاب، والكتاب يحيلك لسفر، وفي ترحالك هذا، قد تنسى الفكرة التي ابتدأت بها، لأن ثمة أفكاراً كثيرة أخرى ستسكن دماغك من هذا الترحال العجائبي، لتبدأ من جديد مطاردة الأفكار التي تحيلك بدورها، مرة أخرى، لحلزون لانهائي، فتجلس في حجرتك الرمضانية في انتظار أذان المغرب، وأنت ناظر لكعوب الكتب في مكتبتك العامرة، مبتهلاً في هذا الشهر الكريم، أن يمنحك الله القدرة والوقت على الانتهاء من قراءة كل هذه الأسفار، أنت تعرف بطبيعة الحال أنك طماع كبير، وأنك تنتهز كرامات الشهر الفضيل فتكثر من الابتهال، وربما، في قرارة نفسك تعرف أنه لن يتاح لك الابتداء، بله الانتهاء، لأن الحلزون دوار، ولأن الأفكار كثيرة، ولأن العمر قليل، فتقبض على فكرتك الفلسفية التي خرجت بها من هذا المأزق الوجودي، كما يليق بمفكر، وتصرح لأقرانك الأقربين:

اعلموا يا أيها الأحباب، أن حياة واحدة.. لا تكفي، وأن اليوم ينبغي أن يكون 48 ساعة.

ضميري يؤنبني

• متى بدأت الصيام؟

•• بدأته متأخراً بعض الشيء، كنت في صباي أعطش كثيراً، ويبدو أن رمضان وقتها كان يأتي في الصيف، فكنت أعمل نفسي صائماً أمام أبوي وإخوتي، وأدخل الحمام بحجة الوضوء للصلاة، وأشرب، ومادام الصيام قد فسد، فلماذا يقتصر فساده على الماء فقط، هكذا كنت أقتنص الخيار والطماطم وأقضم خلسة، كانت الأمور تمر بسلام، فاستسهلت الحالة التي لم تخل من الافتضاح في بعض الأوقات، فأدعي النسيان، فتقول لي أمي: «إن الله سقاك»، كانت ثمة أيام أصومها بالفعل، عندما كان ضميري يؤنبني، فأنوي الصيام، وأصوم بالفعل، وكنت أنسى بالفعل وأشرب، فأعرف أن الله أطعمني وسقاني، لا أتذكر أنني بدأت الصيام الحقيقي بالفعل إلا وأنا كبير نسبياً، ربما في العشرين من عمري، لكن الغريب في الأمر أنني لم أعد أنسى أثناء صيامي على الإطلاق، لا أدري ما الذي حصل لذواكرنا فجعلنا نتذكر دوما أننا صائمون.

قباب المقابر

• ما الذكريات الأثيرة من رمضان؟

•• أكثر هذه الذكريات في القرية، كنا أحياناً نترك المدينة (سوهاج) ونتجه للقرية (العسيرات)، ورمضان في القرى أكثر جمالاً من رمضان في المدن، تشعر وكأن رمضان ينبغي أن يكون قروياً، أو ينبغي علينا أن نسكن القرى في رمضان، إذ كيف يمكنك أن تكون رمضانياً حقيقياً بدون المصطبة والطرمبة وقباب المقابر؟، يكثر القرويون من زيارة القبور في رمضان، يجلسون إلى أهلهم السابقين، ويتحدثون معهم في الأمور كلها، وربما يستشيرونهم في المشكلات، ولا تندهش إذا قلت لك إن أهلهم السابقين كانوا يشيرون عليهم بالكلام المفيد، ونحن الصبية، كنا نتسور سور المقابر، ونمسك في أيادينا سيوفاً من الخشب، ونتبارز، لم نكن نخشى الظلام، فالفوانيس في أيدينا، والشموع في جيوبنا، إن انتهت شمعة الفانوس، ثبتنا شمعة جديدة، وكان أقرباؤنا الأكبر سناً منا يضطرون لحملنا على أكتافهم بالقوة كي نعود للديار، فالسهر في رمضان يمتد لما بعد السحور، لم نكن نريد السحور، وهم كانوا يريدوننا أن نتسحر، لم يعلموا أن حروبنا بالسيوف الخشبية أكثر افتتاناً من الأكل، يا لها من سهرات بعيدة، ويا له من رمضان قروي فريد، ويا لنا من حمقى، إذ إننا لم نتشبث بطفولتنا كما ينبغي، فصحونا، فإذا نحن كبار، وإذا نحن نؤنب أبناءنا لأنهم يفضلون اللعب على السحور.

القهوة.. نعيم الدنيا

• هل تعد برنامجاً رمضانياً للشهر الكريم؟

•• لا، ليس ثمة برنامج خاص، لكن المواقيت تختلف، كل شيء في رمضان يخضع لمواقيت الإفطار والسحور، الامتناع عن التدخين في النهار يربك قدرتك على التركيز، فتؤجل ميقات كتابة مقالك الأسبوعي لليل، وفي الليل تنشغل بأشياء لا ينبغي عليك أن تنشغل بها، فيمر الليل ولا تكتب، ويكلمك رئيس التحرير، أين المقالة؟ وكأنك حنفية وكأن الكتابة مياه، كل هذا مقدور عليه، أما القهوة، فهي الحنين الأكبر، أنا معتاد في الأيام العادية أن أفطر صباحاً، ثم أصنع لي فنجاناً من القهوة، أصنعه على مهل، على السبرتاية، وأستنشق روائحها، للقهوة رائحة أجمل من كل روائح الدنيا، ما أن أصبها في الفنجان، حتى أدخل في نعيم الدنيا، القهوة، كما تعرف، هي نعيم الدنيا، أرشفها ببطء وتلذذ، بعدها أكون مهيأ تماماً لكل شيء، في رمضان الأمر مختلف بعض الشيء، أفعل كل ما ذكرته لك، لكن بعد المغرب، البرنامج كما هو، لكن المواقيت تختلف، المواقيت دائماً هي التي تحكمنا.

سحور الشوارع

• أين تفضّل قضاء شهر الصيام؟

•• نهاراً في البيت، ومساء في مقاهٍ وسط البلد ومقاهي سيدنا الحسين، القاهرة في رمضان تحلو أكثر في المقاهي، وأنا ابن المقاهي، وربيب المسامرات الساهرة، أحياناً كثيرة أتسحر في هذه الجلسات، أو على عربات الفول الجوالة في السيدة زينب أو ميدان رمسيس، مرة سهرنا ومعي الشاعران «فتحي سعيد»، و«محمد أبو دومة»، وقررنا أن نتسحر في أحد المطاعم، كان المطعم مزدحماً جداً، لدرجة أنهم أوقفونا في طابور طويل، وكانوا يدخلون واحداً منا كلما قام واحد من الجالسين، لم يأتِ علينا الدور، وفوجئنا ونحن في الطابور بالمؤذن يؤذن لصلاة الفجر.

أجمل سحور يمكنك أن تتسحره إن كنت في القاهرة، هو سحور الشوارع، أما أجمل إفطار، فهو إفطار البيت.

اصنع قهوتي

• كم رمضان صمته خارج الوطن؟

•• لم يتح لي السفر خارج الوطن غير مرتين فقط؛ مرة للمملكة العربية السعودية، مشاركاً في فعاليات مهرجان الباحة، ومرة للعراق مشاركاً في فعاليات مهرجان المربد، والسفرتان كانتا خارج حدود رمضان، لم أصم على الإطلاق خارج الوطن، وأريد أن أعترف لك بشيء، لا أتمنى أن أصوم خارج الوطن.

• هل تدخل المطبخ، وما الذي تجيده من طبخات؟

•• أنا رجل ديمقراطي جداً، وأؤمن بالمشاركة في الأعمال المنزلية، إذ من غير المنطقي على الإطلاق أن يكون الحمل كله على الزوجة وحدها، لا بد من المشاركة، لا في المطبخ فقط، وإنما في الأعمال المنزلية كلها، وقد قسمت العمل بموضوعية تامة في هذا الشأن، الزوجة تطبخ الأكل، وأنا آكله، الزوجة تهيئ الصالون وتنظفه، وأنا أجلس عليه وألخبطه، الزوجة تغسل ثيابي وتكويها، وأنا ألبسها وأوسخها، الزوجة تنفض التراب من على المكتب، وأنا أجلس عليه لأكتب، الشيء الوحيد الذي لا أسمح لها بالمشاركة فيه نهائياً، هو صنع القهوة، هذا أمر خاص بي وحدي.

• من تدعو لمائدة الإفطار؟

•• إخوتي وأخواتي، وبعض أفراد العائلة الأقربين، رمضان يحب الصحبة، وطعم الأكل مع الأهل يختلف تماماً، ومذاقه يصبح أحلى، والضحكة أصفى.

قلم حبر وورق أبيض

• ما هي الوجبات المفضلة؟

•• البامية على الطريقة الصعيدية، نسميها (البراني)، الغالب على الظن أنها أكلة العظماء، أنا أعرف ثلاثة من الأصدقاء عزمتهم على البامية البراني، فأصبحوا من العظماء.

• كيف تقضي يوم الصيام؟

•• نهاراً بين الكتب، قارئاً، أقرأ على المكتب، وأستغرق في القراءة، أحياناً كثيرة تأخذني القراءة فلا أنتبه إلا على ابني وهو يناديني لأن الإفطار أزف، وليلاً على المكتب أيضاً، ولكن لأكتب، أنا أكتب بالقلم الحبر على الورق الأبيض غير المسطر، لم أتعود بعد على الكتابة على الكيبورد، الجرائد التي أكتب فيها تلزمني بالكتابة الكمبيوترية، فأنزل السبت لصاحب السيبر الذي تحت البيت بالمقالة، فيكتبها، ويرسلها لي على البريد الإلكتروني، فأصححها، وأضع الهمزات والفاصلات، فصاحب السيبر لا يعترف بهذه الأشياء، أحياناً كثيرة تأخذني الكتابة فلا أنتبه إلا على ابني وهو يناديني لأن السحور أزف.

أفتقد أبوي

• من تفتقد في رمضان؟

•• أفتقد أبوي، كانا زينتي وبهجتي وفرحي الخاص، رحمهما الله.

• ما برنامجك التلفزيوني المفضّل؟

•• للأسف، أنا لست كائناً تلفزيونياً، أحياناً أستمع إلى نشرات الأخبار، وبعض الماتشات الكروية، وبما أنني أهلاوي، فقد كنت أحرص على متابعة مبارياته، ولما أصبح دائم الانتصار على الزمالك، أصبحت لا أتفرج على ماتشاته، فالنتيجة معروفة، وأنت تعرف بالتأكيد أن الإنسان خلق أهلوياً، وأهله يزملكونه أو يترسنونه.

• كم ساعة تقرأ، وما أبرز الكتب المفضّلة؟

•• حياتي كلها قراءة، وبعضها كتابة، لذلك لا أستطيع أن أحدد لك عدد الساعات، يمكنك أن تقول إنني أقرأ طوال الوقت، أما أبرز الكتب المفضلة، فكثير من نثر العصر العباسي، وكثير من الكتب المؤرخة لمصر في العصر المملوكي، وكثير من روايات يوسا وماركيز وساراماجو والليندي ومحفوظ والكوني، وكثير من طه حسين والمازني وزكي مبارك، وكثير من أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، أنا صديق كل هؤلاء، وصديق غيرهم.

مندرة العائلة

• عادة رمضانية تتمنى عودتها؟

•• سهرات المنادر في صعيد مصر، كل بيت كان له مندرة، يلتف فيها الرجال، ويرتبون مقرئاً للقرآن الكريم يأتي راكباً حمارته، ويفطر مع رجال البيت، ويصلي معهم العشاء والتراويح، بعدها مباشرة يبتدئ التلاوة، وتأتي أفواج السميعة من القرى لتسهر في مندرة عائلة فلان الذي يستضيف الشيخ «محمود صديق المنشاوي» والمنشاة جوار قريتنا، وعائلة المنشاوي كلهم يقرأون القرآن، الأب «صديق المنشاوي» وأبناؤه الثلاثة «أحمد» و«محمد» و«محمود»، السهرة تمتد للسحور، والتلاوة تمتد للسماء، والسعادة تمتد لعام كامل.

• دعاء رمضاني لا تمل من تكراره؟

•• اللهم ارزقني في رمضان الذهن والتنبيه، وباعدني فيه عن السفاهة والتمويه، واجعل لي نصيباً من كل خير تنزل فيه، بجودك يا كريم.

• كاتب تحب تقرأ له؟

•• كثيرون جدا، أهمهم: «طه حسين».

• قارئ تؤثر سماع تلاوته؟

•• الشيخ محمد رفعت.

• هل تصوم عن مواقع التواصل الاجتماعي في رمضان؟

•• لقد نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في أن تكون رقماً صعباً في حياتنا، فهي وسيلة نافعة لمن أراد الانتفاع، وهي تافهة لمن أراد التفاهة ومضيعة الوقت، حتى في رمضان، لا غنى عنها.

«آلو.. أهلا.. تمام»

• تطبيق في هاتفك تعيش فيه وقتاً أكثر من جيرانه على شاشة الهاتف؟

•• أنا كلاسيكي بعض الشيء في هذا الأمر، وعلاقتي بالهاتف هي العلاقة الطبيعية بالهواتف، آلو.. أهلاً.. تمام.. اتفقنا.. لا لن أفعل واخبط رأسك في الحيط.. سعدت بسماع صوتك، أما أن يتحول الهاتف إلى تلفزيون وكمبيوتر ومدونة وصور ملونة وواتس، فهذا ما لا أتعاطاه نهائياً.

• عادة رمضانية تود الإقلاع عنها؟

•• التفكير الكثير في القهوة والسجائر أثناء النهار.

• خلق رمضاني تود لو أنه يستمر طيلة الـ ١١ شهراً الباقية؟

•• فكرة التكافل الاجتماعي، وهي فكرة تظهر بقوة خلال هذا الشهر، فتجد موائد الرحمن ممتدة، وتجد من يوزع على الناس التمر والمشروبات، وتجد من يمنح العابرين والمسافرين وجبات جاهزة، ليت ذلك يكون سمتنا العام طوال الوقت.

قصيدة لأمي

• ما الطبق الرمضاني الذي أعدته والدتك وتود أن تذوقه بذات الطعم؟

•• كل ما كانت تعده أمي له مذاق خاص، حتى الشاي، في أغسطس عام 1983 عندما كنت مجنداًُ بالقوات المسلحة، كتبت قصيدة لأمي نشرتها في جريدة الأخبار، هذا نصها:

أقولُ لكِ الحقَّ

كل نساء المدينة يعجزن يصنعن لي كوبَ شايٍّ كما تصنعين

فشوفي إذن للمصيبةِ حلاً

أنا – بعد – عطشان للشاي

والليلُ رتّبَ لي ظلماتٍ تدور على مهلٍ

تمنع الضوء أن يستوي ويُطِلا

ولا أستطيع الرجوعَ إليكِ ولا أستطيع إلى هدأة القلبِ قولاً

فقد كبّلتني البنادقُ والخوذة الضيقةْ

هنا

النساء يفضلن يصنعه باردًا وخفيفًا وحلوًا

يعاندنني

وأنا مثلما تعلمين عنيدٌ وأركبُ رأسي

فشوفي إذن للمصيبةِ حلاً.

القلب يعشق كل جميل

• ماذا تردد عادة بينك وبين نفسك (بيت شعر، أغنية، مثل)؟

•• إنها السيدة التي تركت الأرض لتمشي على السحاب، «أم كلثوم»، وإنهما السيدان اللذان هبطا من السحاب ليمشيا على الأرض «رياض السنباطي»، و«بيرم التونسي»:

القلب يعشق كل جميل وياما شفت جمال يا عين

واللي صدق في الحب قليل وإن دام يدوم يوم ولا يومين

واللي هويته اليوم دايم وصاله دوم

لا يعاتب اللي يتوب ولا في طبعه اللوم

واحد مافيش غيره ملا الوجود نوره

دعاني لبيته لحد باب بيته

واما تجلى لي بالدمع ناجيته.

Continue Reading

ثقافة وفن

مطلق الذيابي «سمير الوادي».. قبيلة من الحناجر والمواهب

من يتأمل سيرة مطلق الذيابي، الشهير بـ(سمير الوادي)، لا يقرأ تاريخ رجل فنيّ فحسب، بل يستعرض نشيداً من ذهبٍ خالص،

من يتأمل سيرة مطلق الذيابي، الشهير بـ(سمير الوادي)، لا يقرأ تاريخ رجل فنيّ فحسب، بل يستعرض نشيداً من ذهبٍ خالص، نُقشت حروفه بأوتار من شعور، وصيغت جمله بصوتٍ ينتمي إلى الزمن النقيّ، ذلك الزمن الذي كانت فيه الموهبة وحدها كافية لصنع الخلود.

لا تأتي فرادة هذا الرجل من موهبة مفردة يمكن الإمساك بها أو تقييدها في تصنيف، بل من طاقةٍ إبداعية مشبعة بالثقافة والذائقة والصدق، تنبض في كل اتجاه. فهو لا يُختصر في صفة، ولا يُؤطر في مجال، لأنه حالة تجاوزت مفردات المهنة لتلامس جوهر الفن. الشاعر المرهف، المذيع الجهوري، الملحن الشفيف، المطرب العذب، والكاتب الناقد.. كلها وجوه لرجل واحد، لكن كل وجه فيها كان يبدو وكأنه فنّ مستقلّ بحد ذاته.

حين أطلّ مطلق الذيابي، على الأثير، بدا وكأنّ الإذاعة تكتشف صوتها الحقيقي. خامته الصوتية لم تكن استعراضاً للطبقات، بل معبراً لحكايةٍ أكبر من الصوت ذاته. وحين غنّى، بدا كمن ينسج لحناً من ذاكرة البادية، ومن لهفة العاشق، ومن جمال الموروث الذي قرأه بوعي الشاعر وأدّاه بروح الفنان.

في مسرح التأثير، لا يطال المجد أولئك الذين يكتفون بأن يكونوا مكرّرين لصدى، أو ظلًّا لشهرة، بل أولئك الذين يخلقون حضورهم من مادة ذاتهم، وينحتون أثرهم بأسلوب لا يتقنه سواهم. ومطلق الذيابي، أو (سمير الوادي) كما اختار أن يُعرف في الساحة الفنية، لم يكن مجرد اسم عابر في دفاتر الغناء أو دفاتر الإذاعة أو دفاتر الشعر، بل كان حالة نادرة يتعذر اختزالها في عنوان واحد.

كان التأثير عنده لا يُصطنع، ولا يُستجدى، بل ينبثق من فرادة الموهبة واتساع المدارك. لم يأتِ التألق من احتراف الغناء وحده، ولا من براعة الكتابة فقط، ولا من تميزه الإذاعي، بل من هذه الفسيفساء التي تكوّنت في داخله؛ إذ اجتمع الأديب والموسيقي والمطرب والمذيع في جسد رجلٍ واحد، لكنه ظلّ يُغني وكأنه قبيلة من الحناجر، ويكتب وكأن الحرف لم يُخلق إلا ليستجيب له، ويتحدث كأن صوته هو المدى.

ولد في عمّان، لكنه حمل صوته إلى مكة المكرمة، ومنها إلى أثير المملكة كلها، ومن ثم إلى ذاكرة الخليج.

تأثر بمحمد عبدالوهاب، لكنه لم يكن صدى له، بل طوّر حسه الموسيقي بمنطق الباحث عن هوية، لا بمنطق المقلد لأثر. حين سُئل عبدالوهاب عن صوته قال: «أحب أن ألحّن له… صوته فيه حرارة ونبرة جديدة»، وهي شهادة كافية لنعرف كم كان مطلق استثناءً في زمنٍ لم يكن التميز فيه ترفًا، بل معركة وجود.

ولم يكن حضوره الإعلامي أقل بريقاً من حضوره الفني، ففي إذاعة جدة التي كانت آنذاك مصنعاً للأصوات والخطاب، كان صوت الذيابي أشبه بماءٍ يتدفق عبر الأثير. رخامة صوته لم تكن مجرد خامة، بل كانت أداة للإقناع، وشاعريته لم تكن زينة لغوية، بل مدخلاً للنفاذ إلى الوجدان.

أما أثره اليوم، فإنه لا يُقاس بعدد الأغاني المتداولة، بل بعمق الاسم في الذاكرة الثقافية. في زمن كثرت فيه الأصوات وتباينت فيه المقامات، يظل اسم “سمير الوادي” يُذكر بهيبة الرائد، وبدفء المبتكر، وبدقّة الفنان الذي لم يترك في عمله مكانًا للصدفة.

أخبار ذات صلة

Continue Reading

ثقافة وفن

«تخيّل».. بقيت حية 40 عاماً تحت ركام عبدالمجيد !

في مساحةٍ ما بين الشجن والتأمل، تقف الأغاني الخالدة مثل «تخيّل» للفنان عبدالمجيد عبدالله، كدليل حيّ على أن بعض

في مساحةٍ ما بين الشجن والتأمل، تقف الأغاني الخالدة مثل «تخيّل» للفنان عبدالمجيد عبدالله، كدليل حيّ على أن بعض الأعمال تُخلق لتبقى، لا تقاس بحجم انتشارها اللحظي، بل بمدى قدرتها على الاستمرار في ملامسة الإنسان، بعد مرور الزمن وتبدل الأذواق.

«تخيّل»، كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، ولحن الموسيقار سراج عمر، ليست أغنية عابرة، بل تجربة شعورية متكاملة. قصيدة مغلّفة بالهدوء الداخلي، والمساءات الطويلة، والمراجعة الذاتية الصامتة. لحنها لا يتوسل الإثارة، ولا يفرض حضوره بقوة الآلات، بل يتسلل برهافة، كمن يختبر أثر الكلمة حين تُقال بصوتٍ خفيض. وهذا، بحد ذاته، سر من أسرار بقائها.

حين غناها عبدالمجيد عبدالله في بداياته، بعد عودته من القاهرة وعمله مع سامي إحسان، في ألبوم «سيد أهلي» 1984م، لم تكن «تخيّل» هي الأغنية الأشهر، ولا بطاقة دخوله إلى جمهور عريض، كانت خياراً شعرياً موسيقياً ناضجاً يشي بوعي فني مبكر، وارتباط عاطفي بالنصوص العميقة، وهي من الأعمال التي لم تُسلّط عليها الأضواء حينها كما سُلّطت على أعماله الأخرى، مثل «سيد أهلي»، و«علمتني»، و«انتظروني»، وغيرها.

ومع ذلك، فإن الزمن وحده كفيل بإعادة ترتيب الأهمية. والدليل هو ما نشهده اليوم من عودة «تخيّل» إلى التداول بكثافة في أوساط جيل لم يعش لحظة ولادتها. لم تعد الأغنية محصورة في الذاكرة القديمة، بل تحولت إلى عمل حي، يُكتشف من جديد بفضول صادق، كما لو أن المستمعين يتذوقونها للمرة الأولى، بعيداً عن أي مؤثرات إعلامية أو ترويجية.

هذا الشكل من العودة، بعيداً عن الطفرة الفايروسية التي تصنعها أحياناً وسائل التواصل، يعكس قيمة فنية لا ترتبط بالمناسبة بل بالمحتوى. فـ«تخيّل» تُطرح اليوم وكأنها صُنعت لهذا الجيل، بصياغتها النفسية ولغتها الرصينة وأداء عبدالمجيد الذي لم يكن يبالغ، بل كان يستسلم للمفردة ويمنحها مساحتها للتعبير.

أخبار ذات صلة

Continue Reading

ثقافة وفن

السينما العربية تنافس في «كان» بـ 3 أفلام

كشف مهرجان كان السينمائي الدولي تفاصيل دورته الـ78، في مؤتمر صحفي عُقد صباح اليوم (الخميس) في باريس، قائمة الأفلام

كشف مهرجان كان السينمائي الدولي تفاصيل دورته الـ78، في مؤتمر صحفي عُقد صباح اليوم (الخميس) في باريس، قائمة الأفلام المشاركة في المهرجان، وذلك بحضور مديره العام تييري فريمو ورئيسة المهرجان إيريس كنوبلوخ.

ويشهد مهرجان كان الذي ينطلق في الفترة من 13 إلى 24 مايو القادم، اختلافاً بعودة أسماء ونجوم عالمية بارزة في المسابقة الرسمية، ومن بينهم ويس أندرسون، ريتشارد لينكليتر، آري أستر، جوليا دوكورناو، وكيلي ريتشاردت، حيث يتنافسون بأعمالهم الجديدة على جائزة السعفة الذهبية.

وتشارك السينما العربية في الأقسام الرسمية بـ3 أفلام، وهي: The Eagles of the Republic أو «نسر الجمهورية» للمخرج السويدي من أصل مصري طارق صالح، وتشارك مصر بفيلم «عائشة لا تعرف الطيران» للمخرج المصري مراد مصطفى في قسم «نظرة ما»، وفي نفس القسم تشارك فلسطين بفيلم «حدث ذات مرة في غزة» للمخرجين الفلسطينيين طرزان وعراب نصار.

واختارت إدارة المهرجان فيلم «Leave One Day» للمخرجة الفرنسية أميلي بونان، في افتتاح الدورة الـ78.

وكشف المدير العام لمهرجان كان السينمائي تييري فريمو، عن تلقي هذا العام عددًا قياسيًا من طلبات المشاركة بلغ 2,909 أفلام ضمن عملية الاختيار، وهو رقم يعكس الزخم الكبير الذي تحظى به هذه الدورة، ومن المتوقع إضافة أفلام أخرى في الأيام القادمة ضمن مختلف أقسام المهرجان.

وتضم قائمة الأفلام المختارة مخرجين بارزين بينهم الأمريكي ويس أندرسون بفيلم «The Phoenician Scheme»، وريتشارد لينكليتر بفيلم «Nouvelle Vague»، ويواكيم ترير بفيلم «Sentimental Value»، والإيراني جعفر بناهي بفيلم «In Simple Accident»، والإسبانية كارلا سيمون بفيلم «Romeria»، والأمريكية كيلي رايشارد بفيلم «The Mastermind».

أخبار ذات صلة

كما يمثل المخرج السويدي من أصل مصري طارق صالح السينما العربية بفيلم «The Eagles of the Republic»، ويشارك الفرنسي دومينيك مول بفيلم «Dossier 137»، والبرازيلي كليبر مندونسا فيليو بفيلم «The Secret Agent»، وتشمل القائمة فيلم «Fuori» من إيطاليا لماريو مارتوني، و«Two Prosecutors» من أوكرانيا للمخرج سيرجي لوزنيتسا، و«Sirat» للمخرج الإسباني أوليفر لاكس بالشراكة مع المغرب وفرنسا، و«La Petite Dernière» للمخرجة الفرنسية الجزائرية حفصة حرزي، و«The History of Sound» للجنوب أفريقي أوليفر هيرمانوس.

وتشارك بلجيكا بفيلم «Young Mothers»، ويشارك الأمريكي آري آستر بفيلم «Eddington»، إلى جانب اليابانية تشيي هاياكاوا بفيلم «Renoir»، والفرنسية جولي دوكورنو بفيلم «Alpha»، بالإضافة إلى فيلم «Leave One Day» لأميلي بونان.

بينما شهد قسم «نظرة ما» عدداً من الأفلام، من بينهم فيلم «The Mysterious Gaze of the Flamingo» من تشيلي للمخرج دييجو سيبيديس، و«My Father’s Shadow» للبريطاني النيجيري أكينولا ديفيز جونيور، و«Urchin» للبريطاني هاريس ديكنسون، ويشهد هذا القسم أولى تجارب الإخراج للنجمة الأميركية سكارليت جوهانسون في فيلم «Eleanor the Great».

ويشارك أيضًا فيلم «Once Upon A Time in Gaza» من إخراج طرزان وعراب نصار من فلسطين، وفيلم «Aisha Can’t Fly Away» للمخرج المصري مراد مصطفى، وفيلم «Meteors» للمخرج الفرنسي هوبرت شارويل، و«Pillion» للبريطاني هاري لايتون.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .