ثقافة وفن

هذه الأحساء التي أعرف!

لقد رأيت الأحساء بنظرة مختلفة، نظرة العائد الذي لم يعرف ماضيه، نظرة استغراب تحاول مجاملة الحاضر. لم أعتد على الأحساء

لقد رأيت الأحساء بنظرة مختلفة، نظرة العائد الذي لم يعرف ماضيه، نظرة استغراب تحاول مجاملة الحاضر. لم أعتد على الأحساء بطرقات كبيرة وجسور وأنفاق، لم أعتدها سطحية تتباهى بمطاعمها ومنتجعاتها الفارهة ورأسمالية الترفيه.

أما الآن، وبعد ستة أشهر من تلك النظرة، رأيت ما أعاد لي الحنين واسترجاع الماضي ومعرفة رائحة عبق الأحساء الرزينة المرحة، المتزنة المتفردة والحسناء الهرِمة.

بعد ستة أشهر، عدت أحسائياً وعرفت كيف يجب أن ترى الأحساء. خرجت من تلك الطرقات الكبيرة الواسعة الطويلة، نحو القرى وأواسط المزارع وأزقة الأحياء القديمة. بدأت ألتقط الصور، لا لأتذكر ما رأيت، بل لأن ما رأيت يذكرني بكل شيء. الطرق الترابية الضيقة بين المزارع المسورة بالسعف، الأحياء العتيقة والأطفال يلعبون في شارع يرونه فسيحاً وأراه لا يسع طاولة مطعم فاره. رأيت الفارس وهو يروض جواده ثم يمتطيه بحزم وابتسامة لكاميرتي. رأيت الفلاح وهو يشير إليَّ أن أعبر فلا وقت لديه لأن يعطي اهتماماً لعدستي الفرِحة. كان يجمع مخلفات نخيله ويريد أن يشعل بها أجمل مصنع عطر في العالم. عطر الطبيعة حقاً هو رائحة (الطبينة). أردت إغلاق النافذة وأضع بعضاً من (سوفاچ ديوغ)، ولكن قال لي قلبي مهلاً يا فقيد الذكرى. توقفت على الشارع الموازي وانتظرت الرائحة، تعطرت بها وتعطرت عدستي وتذكرت كل شيء. كل يوم كنت أذهب في هذا الوقت، قبيل المغيب بسويعات، إلى فضاء لمزرعة عمي، اللوز والليمون والترنج والكنار والتوت. كل الضحكات كانت هنا، وسط هذه الرائحة، وسط هذه البقعة!

ابتسمت لصاحب (القاري) وهو ينهر حماره ويغمز لي. ابتسمت للطفل خلفه يريد أن يثبت نفسه، فيرفس الحمار وهو يجري. ابتسمت وفهمت ثم تنفست الصعداء، لقد عدت يا أحساء!

في أواسط هذه البقع، لا ترى الهاتف كثيراً، ولا العدسات ولا سرعة التحميل أو سعة التخزين. لا تعرف ما يدور بين الملكة وحفيدها وزوجته التي (مو من مواخيذهم). في هذه البقع من هذه الأرض؛ تعرف عن رجال ونساء وأبطال ممن كان لهم الفضل في تنمية المجتمع الزراعي والثقافي والاجتماعي. تكتشف فجأة وأنت في أواسط هذه البقع؛ أنك بجوار نادٍ أدبي أو رياضي أو فني، تستوقفك رسمة على جدار مزرعة، تتأملها ثم تكتشف بأنه نادٍ للرسم.

هل تصدقون لو قلت بأنني وخلال كتابة هذه السطور دخل علي في المقهى الصغير، شاب ظننته مجنون، فوراً قال: أنا مكسور.

خشيت كثيراً على نفسي، لم أتمكن من تحديد ردة فعل مناسبة، بعد استدراج، تنفس وبدا بأنه حقاً مكسور، قلبه أطهر من (المناديل المعمقة في شنطة (لوي فيتوو)، عقله أبسط من عملية تحويل في ( STC Pay)، لا يقرأ ولا يكتب. يعمل في مطعم صغير، مات والداه وهو صغير، وتقطعت به سبل التعليم. حكى عن قصة فشله في الزواج وطموحه بالانتقال إلى الدمام (الدمام وليس أمستردام). نصحته بما أعرف وحاورته، وكأنه أخي الأصغر، انسكبت بساطة وعفوية ومحبة أخوية، تغيّر فجأة وكأنني نلت ثقته التامة، فاعتدل وأصبح وقوراً ومهذباً وليناً، اعتذر مراراً وشكر تكراراً، وودعني بلطف.

لقد عدت إلى الأحساء أخيراً، بهذا الموقف أكون قد استوطنتها تماماً كما حدث مع أجدادي حين جاءوا قبل قرابة 300 عام. لقد عدت بكامل الوعي الذي يجب أن يكون عليه عقلي لأحب الأحساء أكثر.

قد لا يهم كثيراً إن ذكرت بأنني قد عدت للأحساء بعد أن تركتها قبل قرابة 20 عاماً. سكنت غرباً وأخيراً عدت شرقاً. سكنت (الظهران) حتى ساق الله لي العودة إلى الأحساء بتكليف من الجهة التي أعمل بها. لم أفهم بأني عائد. أردت رؤية ما يمكنني مقارنته بجدة والرياض والخبر. أردت الأزياء والأضواء والسيارات الفارهة ومطاعم (فاين داينينق). حاولت مقارنة المجمع هنا بذاك الذي لا ينتهي في العاصمة. أردت البحث عن ألذ مطعم سوشي وأفضل كاربونارا وأجمل تعليب لمقهى قهوة مختصة. بحثت عما يمكنني تصويره بعدسة هاتفي. الآن فهمت لماذا لا يهتم الأطفال هنا بالتقنية. إنها تقتل متعتهم في الأحساء، بينما نحن نشتريها في المدن المكتظة بواجهات المجمعات وشاهقات الأبراج!

Trending

Exit mobile version