يذهب الشاعر هاشم شفيق إلى أن الشعر مرتبط بالشارع، وأن شعر اليوم لا يحتمل سكنى شاعره في البرج العاجي، ولا التنسُّك والانحياز للصومعة بل كتابة اليومي التفصيلي الشيئي، وعليه أن يجد نفسه مع الناس، ليشعر أن مصائبه مصائبهم، وأفراحهم أفراحه.
برز شفيق (شاعرا) مبكراً تعلّق بالكلاسيكيات، ثم افتتن بالشعر الحديث، (التفعيلة) في سن العشرين؛ استدعي للخدمة في الجيش العراقي، وكان الشعر مساحة الترفيه، وأنهى خدمته العسكرية، وداخله يفور بالقصيدة، فكانت التجربة اللافتة للانتباه.. وهنا نص حوارنا معه:
الشعر العراقي شعر عالمي، لو يقف ندّاً في وجه الكثير من تجارب العالم
• يبدو أن العلاقة بالشعر بدأت في سنّ مبكرة، عبر خليط من تهويمات وحلم وما يشبه السحر البدائي، ما الذي مسّك وشعرت به في سن الرابعة عشرة؟
•• لا أعرف كيف يتسلل الشعر إلى الكائن الإنساني، يمكن تشبيه العملية باليانصيب، لعبة تدور لتختار شخصاً، ليقف فيما بعد السهم أو العلامة الدائرة كلعبة اليانصيب عليه، تختاره دون غيره، من بين إخوته، أو من بين أبناء محلته، هو بالذات وليس أحداً سواه؛ لكون المؤشر الخيالي هو الذي يحدد ويعرف ماهية هذا الكائن الذي يخبئ شيئاً ما بين جوانحه، يخبئ نوعاً من تفصيل الحياة والكون والأشياء المحيطة به، فتراه هو من سيقول ويحسن القول في هذا الميدان، هو الأجدر دون غيره، هو القادر على قول الكلَم واجتراح معانيه.
هكذا تبدأ الخطوة الأولى بتمتمات وتراتيل وأناشيد، تصوغها في خلوتك لتقول لوعتك الداخلية وسرك الدفين في أعماقك، ولا تعرف ما هو هذا الشيء الذي يرسف في الأعماق، إلى أن تتبينه في النهاية، أو يقول لك أحدهم إن ما تقوله هو الشعر، هو ذلك السر الغامض والمخلوط بالطلاسم والإشارات والأحلام البدئية.
• ما أول كتاب وقع في يدك، وما تأثيره عليك؟
•• أما أول كتاب وقع في يدي فكان ديواناً صغيراً من شعر المتنبي، شبيهاً بمختارات من شعره، لحظتها أعجبت به، رغم صعوبة مفرادته اللغوية في تلك الفترة، بالنسبة لفتى في بداية مراهقته، رحت في تلك الآونة أحفظ بعضاً من أبياته المهمة، والقريبة إلى فهمي، التي تمس ذائقتي وخيالي، فكنت أحلّق في أجواء أبي الطيب وأردد في نفسي: أني لقادر على قول ما يشبهه من جمل ومقطعات وصور شعرية.
• ماذا عن الأقطاب العرفانية في فضاء عامر بالتصوّف والمراقد الدينية؟
•• أجل لقد ترك المتصوفة إرثاً كبيراً في النثر الشعري المشرق روحياً، مثل كتاب (المواقف) لعبد الجبار النفري، الذي رفد خيالنا وشحنه بالرؤى والتأملات، وكذلك كتاب (الطواسين) للحلاج أيضاً أبحرنا في سطوره الموحية والتشكيلية، وهو كتاب مهم ومؤثر وذو رؤية فنية عالية، في صنع التشريق الوجداني وتدريب الخيال على التأمل، وكذلك كتاب (منطق الطير) لفريد الدين العطار، والكتب اللاهوتية الأخرى، ثمة مستشرقون حققوا كتباً في هذا المجال، أبرزهم المستشرق (ماسينيون) الذي حقق ديوان الحلاج، وأعجبت كذلك بما قاله المتصوف الكبير (الجُنَيد) من تصريفات وإشراقات رؤيوية بخصوص الحياة والكون والخالق، ينضاف إلى هؤلاء (عبد القادر الجيلاني) الذي له (تحفة النورية، في تأمل الخليقة ومدارات الأكوان).
• هل يمكن اعتبار أحمد الصافي النجفي ومحسن الكاظمي، والرصافي، والزهاوي، من آبائك المؤسسين؟
•• أنتقي من بين هؤلاء أحمد الصافي النجفي، لقد قرأت أغلب مقطعاته الشعرية، وهي يمكن تسميتها بالسونيتات النجفية، وهي مقطوعات نغمية تعتمد المعنى والرنة الموسيقية، لقد أحببت في سنّي المبكرة ما وقع في يدي من إصدارات لأحمد الصافي النجفي، وحين فرغت منه التفت إلى الأعاظم من الشعراء من أمثال المتنبي، امرئ القيس، البحتري، وأبي تمام، وأبي العتاهية، ودعبل الخزاعي، وابن الرومي، وزهير بن أبي سلمى، والعباس بن الأحنف، وغيرهم من فطاحل الشعراء، وبالأخص النوابغ من شعراء المعلقات.
• ماذا عن تأثير رموز بحجم السياب ونازك الملائكة؟
•• لم تترك نازك الملائكة أي أثر عليّ، فهي شاعرة أقل رفعة فنية من السياب والبياتي، ربما جملتها النقدية كانت أكثر تأثيراً، فالذي تركه البياتي عليّ كان كبيراً، وكذلك السياب وعلى نحو أقل من البياتي، البياتي كان المُلهم والبوصلة الفنية الأكثر تنوّعاً، السياب ترك لي قوة المعنى وبقاؤه المحفور في الأزل، السياب رائد في مجال المعنى الكبير، بينما البياتي رائد في مجال تعدد مصادره الجمالية، وحسه الإنساني العالي في بعض فتراته الزمنية، وانحيازه صوب الثورات والتحولات الدرامية في الحياة الإنسانية.
• متى كانت النقلة لجبران وخليل مطران، وما شعورك حينها؟
•• في الحقيقة قرأت مطران وجبران، وكان تأثير جبران بكتابه المثير(النبي) خفيفاً عليّ، قرأت كذلك للمعالفة وكان تأثيرهم كتأثير جبران وخليل مطران، ولكنني في الحقيقة أحببت كل ما كتبه الياس أبي شبكة، وهو شاعر مؤثر ونادر بين هؤلاء الشعراء الذين نتحدث عنهم.
• لماذا وأنت ربيب الكلاسيكية انتقلت إلى الشعر الحديث؟
•• أنا تطوري الشعري كان يمضي سريعاً، وهذا الأمر عادي لفتى مثلي حينذاك، وهذا أمر بدهي، يحدث لأي شاعر آخر غيري، حين يكون في أو محطات حياته الشعرية، لم أمكث طويلاً في المكان الكلاسيكي، كنت أحرق المراحل الفنية من مرحلة لأقفز إلى مرحلة أخرى، حتى صرت في قلب عالم القصيدة الحديثة الموزونة، أو ما يسمى قصيدة التفعيلة، وأنا لم أزل فتى في مطالع حياتي الشعرية، فنشرت القصائد تلو القصائد في الصحف والمجلات العراقية حتى بات وظهر ديواني الأول (قصائد أليفة) عن وزارة الثقافة العراقية عام 1978 في بغداد ليحدث نقلة واضحة في مسار تجربتي الشعرية، وهي لم تزل في البدايات.
• ما أثر انفتاحك على التجارب تدريجياً؟
•• لقد قرأت التجربة الستينية العراقية، ومن ثَمّ العربية بإمعان، مررت بها لكي أتفهم ما يكتب من جاء قبلي، وفي تساوق تام كنت أقرأ لشعراء العالم، كنت مفتوناً بالتجارب العالمية، لقد قرأت شعراء عالميين لا يحصون، قرأتهم في تراجم، ثم حين أتيت الى لندن وأقمت فيها، وبعد مضي أعوام قليلة صرت أقرأهم بلغتهم الأم، لقد أحببت الكثير منهم وترجمت للكثير منهم.
وحين توغلت تماماً في هذه العوالم الشعرية، وجدت الشعر العراقي شعراً عالمياً، لا بل ويقف ندّاً في وجه الكثير من تجارب العالم، وكذلك بعض من الشعر العربي في وجه من وجوهه، وبالأخص في تجاربه المتقدمة والجديدة والمثيرة وذات النزعة الخيالية والتجريبية.
• إلى أين أبحر بك مركب رامبو؟
•• الشاعر الفرنسي المتمرّد (جان آرثر رامبو) من أهم شعراء العالم، لقد غيّر رامبو الشعر الفرنسي كله، ومن ثم انعكس هذا بشكل واضح على الشعر العالمي ومن ضمنه الشعر العربي.
إن حياة رامبو المتقلبة باكراً وهبتني شرارة الانطلاق، ليس في وسع أحد أن يقلد رامبو لا في حياته المتعددة المنافذ والسلوك والحيثيات، ولا في شعره الذي بالتأكيد الآن قد تخطاه الزمن نحو عوالم أكثر حداثةً وأكثر تقدماً وأكثر جدةً، فرامبو كشاعر يمنحك الشرارة، أو يمنحك الزناد لتقدحه، أنا حين قرأت حياته وبعضاً من شعره وأنا في أوائل خطواتي الشعرية، منحني مباشرة حس المغامرة وتخطي الصعاب والقيام بالنفاذ حول العوالم، فتركت حينها وظيفتي في وزارة الثقافة وسافرت إلى باريس، لأعيش حياتي البوهيمية، متشرداً، جائعاً غريباً، ولكن من ناحية ثانية، كان دائماً لدي أصدقاء فهم كانوا العون لي في غالب محطاتي الحياتية وما أكثرهم.
• ما أول إصدار شعري لك، وكيف تلقاه النقاد؟
•• كان ديواني الأول بعنوان (قصائد أليفة) وهو من وضعني على السكة الصحيحة، وهو من وسم تجربتي بالألفة، حسب من تناوله من النقاد، لقد أصدرته وسافرت، ولم أعلم أنه قد ترك أثراً طيباً في الساحة الثقافية، إلا بعد مرور عقود من السنوات، حيث كنت منقطعاً عن العراق، وعلى خلاف -حينذاك- مع منظومة حكمه السياسي والثقافي، حيث كان المنفى من نصيبي ونصيب العديد من الشعراء والفنانين والكتاب العراقيين من أمثالي.
• ما دور المجلات الأدبية في إنصاف تجربة هاشم شفيق؟
•• كنت مواظباً منذ مطالع حياتي الشعرية والأدبية والثقافية على النشر في المجلات العربية، فقصيدتي الثانية نشرتها في مجلة (الآداب) اللبنانية عن طريق البريد العادي وأنا في العشرين من العمر، ثم توالى نشري، بدءاً من مجلة (مواقف) اللبنانية لأدونيس، ومن ثم مجلة (الكرمل) لمحمود درويش، ومجلات كثيرة كانت تصدر في بيروت ودمشق، أما بخصوص إصدار ملف خاص أو عدد مكرس لتجربتي الشعرية، فهذا لم يحدث حتى الآن، فأنا من جهتي لست مهتماً لذلك، وحالتي الشعرية الآن قد تجاوزت مثل هكذا أمر، إن حدث ذلك أو لم يحدث.
• لمن تقرأ من الشعراء السعوديين والعرب، وما الأسماء اللافتة؟
•• قرأت وما أزال أقرأ للسعوديين محمد حرز، أحمد الملا، علي الدميني، محمد الدميني، أحمد قران الزهراني، وبالتأكيد هناك شعراء جدد لم أستطع الوصول إليهم، وأقرأ لجميع الشعراء المتميزين والنادرين من العالم العربي.