لم ألمس تفاؤلاً كبيراً، ولا تفاعلاً إيجابياً، ولا ترحاباً واسعاً بيوم الشعر، من شعراء ونقاد، يقايسون بين حال الشعر العربي وبين واقع الأمة العربية، ويوازنون بين وضع الإنسان الاجتماعي والاقتصادي وبين الذائقة المتعبة باليومي والاستهلاكي، فيم لم يخل الفضاء العروبي من فعاليات شعرية وثقافية وأماسٍ إلا أن نشيد الإنسانية الأول بدا لنا متشائلاً في يوم عرسه العالمي.
ويؤكد الناقد الأكاديمي الدكتور أيمن بكر أن من حق كل الناس أن يظنوا في أنفسهم القدرة على الشعر. فيما سمحت وسائل التواصل بإضفاء قيمة زائدة وزائفة على كثير من الكتابات النيئة التي تلصق نفسها بالشعر والقصة والرواية، برغم أنه يصعب إدخالها في دائرة الأدب بالأساس. ما يعزز أهمية دور النقد. وأضاف؛ الناقد الأدبي في الثقافات العربية يعاني الأمرَّين بسبب ظاهرة أدب مواقع التواصل، وبسبب غزارة المنشور شعرا وسردا. ويرى بكر أن المؤسسات الجامعية المختصة بكل ما لها من إمكانات يجب أن تسهم في الحراك النقدي بصورة منظمة، على الأقل لتغطية الأدب الإقليمي المحيط بكل جامعة، إذ إن النقد المبدع هو الحل الوحيد لإجراء عملية فرز (أدبي/ جمالي) منظمة تفصل الإبداع الحقيقي عن هذا السيل من الكتابات التي تدّعي الشعر أو تطمح لأن تقترفه. لافتاً إلى أن النقد المعمق هو السبيل الوحيد لصنع جدل حقيقي في وعي الكتاب حول تجاربهم، وهو ما سيساعدهم على مراجعة ما يكتبون والتأني في عملية النشر. وأوضح الناقد العريق الصلة بالشعر أن هذا الكلام لا يريد التعميم وتصوير المشهد الشعري العربي بصورة قاتمة، كون هناك أجيال من الشعراء الحقيقيين على طول الثقافات العربية وعرضها، إلا أن حضور هذه الأجيال في المشهد مشوش بسبب فوضى النشر وأدب مواقع التواصل المنزوع الأدب، وعدّه التشوش الذي يحبط الكثير من الشعراء المجددين المبدعين.
فيما عدّ الشاعر المغربي حسن نجمي الشعر؛ نشيد الإنسانية الأول؛ ويرى أن الشعر بخير، وأن الشِّعر ليس بخير! ويذهب إلى تقييم الشعر كتابةً وممارسة وأفقاً ليس بمستوى واحد عند المعنيين به، في الوطن العربي والعالم، وتساءل؛ من أي موقع وزاوية ننظر ونتحدث؟ ويجيب؛ هناك من يراه في أزمة خانقة بسبب زحف فنون عدة حوله واستحواذها على حصة كبيرة من جمهور الشعر، وهناك من يراه في موقع الريادة والصدارة وأنا منهم، وتحفظ نجمي على من يضع الفنون في مضمار منافسة على السبق، كون الجمال يتكامل، إلا أن الشِّعر يبقى لغة العشق، واليومي، من الفقد إلى الفرح، مؤكداً أنه لم ولن ينتهي زمنه، بحكم أنه سبق الكتابة والفنون، ويرى أن التفضيل والتنازع من الإشهار الإعلامي، والمخاصمات التي لا تدرك عمق الوشائج التي تربط بين مختلف التجليّات.
فيما قال الناقد يوسفة رزوقة؛ زمن الشعر انتهى؛ كرهتُ صناعة لي: الشعر، ما الشعر؟: ذريعة عاطل عن زرع لغم في مدينة «إن أو أخواتها».. ما الشعر؟ فن الانصراف عن الحياة وتركها، من ثم، للحمقى وهم، مع أنهم حمقى، تحبهم البلاد: أئمة أو مرسلين من السماء وحاملي قدر البلاد، وأضاف؛ الشعر؟ لا يجدي.. البلاد تؤجل التلويح بالسيف.. تحب سياسة الإرجاء وهي تحبهم، مع أنها مطعونة في القلب من خلف، وليس لناسها الميؤوس من أحلامهم إلا الرضى بالدُّونِ: ناس كلهم دونٌ.
ولم يخف أنه كره الشعر ليس لأنه شعر. بل كره الناس ليس لأنهم ناس.. كرهتهما لأنهما فقط ليسا كما اشتهت الطبيعة، وهي في وحم، معا.. لا شعر، لا ناس ولا رأس تفكر في بلاد كالتي كانت هنا وتبعثرت من سوف يجمعها، هنا والآن؟ – لا أحد.
وزاد ؛ كرهت الشعر.. لم أكره سواه الشعر! ما الشعر؟.
هزلت! وليس هنا مجال لائق لهجاء من عاثوا خرابا في مدينة إن أو أخواتها. الحَطّاب يعمل فأسه في رأس من لم يبك بعد..- كون الأنا في صيغة الجمع مجرد كذبة لا أكثر.. الشعراء آخر دفعة منهم نجت من حيث لا تدري بمعجزة وغادرت المجاز وأهله.. أما البقية، في فضاء افتراضي مخيف، فهي في الرمق الأخير من الجحيم ولا عزاء لها، هنا والآن، إلا ذلك الأخْدُودُ في أَصْحابه – ولذي نواس، الجمرة الفصل -ويرى أن على الأنا الأعلى يفرمل، شاخص العينين، سرعته ويقعي خلف ميكانيزمه ويجيء في قطع الغيار يَبُثُّها إحساسه ويلومها لوما شديدا: ما الذي سيقوله الشعر؟.. تصحرت الرؤى وتعفن العقل.
هنا الشعراء في تيه ولا عشاق، إن وجدوا، لشيء اسمه الشعر، ويعيد؛ كرهت الشعر ديوانا لمن لا يؤمنون به أصلا.. كرهت الشعر ما عادت له صلة بمن وصلوا إلى عصر كهذا العصر معطوبين إحساسا ومعرفة وأسلوبا حياتيا.. كرهت الشعر أحمله ويحملني فقط ليقولني كم أنت لست بشاعر أصلا.. كرهت الشعر منظورا إليه بوصفه شعرا وليس بوصفه شيئا مصيريا
كرهت الشعر في وطن بلا جمهور شعر يعشق الشعر الذي لا روح فيه.. كرهت شعرا لا يليق بعصره شكلا ومضمونا.. كرهت الشعر في نقاده لم يوجدوا بعد.. كرهت الشعر بين سياسة وسياسة كلتاهما حبر على ورق.. كرهت الشعر كرها لا مثيل له، كرهت الشعر أنت أنا كلانا شاعر من حيث لا يدري و / أو يدري.. كرهت الشعر تسويفا وسفسطة.. كرهت الشعر بل وكرهت قائله الذي لم يحترمه كدولة عظمى.. كرهت الشعر لم أكرهه في يوم من الأيام.. ما هذا الضباب؟ كرهته متنفسا لا بد منه.. كرهته كرهي لما يجري.. كرهت تورطي فيه.. كرهت ضياع وقتي في محبته.. نعم وكرهته متغيرا لي غير ذي زرع.. كرهت قصيدة لم تجعل امرأة تعيش حياتها شعرا.. كرهت قصيدة عصماء لم يقصد بها شيء.. كرهت قصيدة منذورة للطائر الوَهْمِيّ لم يوجد ليقرأ نفسه فيها.. كرهت الغول والعنقاء لا عنقاء لا غول.. كرهت تورطي في كره هذا العالم الموبوء.. ويضيف؛ لست بشاعر ما لم أخن صفتي وأجلس دونها صنما فأكره منتهى صنميتي فيها.. زمن الشّعر انتهى. ليس غريبا أن نرى الشّعر غريبا ساقطا من قمّة فيه إلى سفح الهنا والآن حيث الدّم يجري والكراهيّة بين الإخوة الأعداء أعلى يداً. وزاد؛ مات الشّعر.: ما جدواه في صحرائنا؟
النّخلة؟ – ماتت والهوى؟ – مات هو الآخر والإنسان؟ – أيضا. لذا فليرحل الشّعر إلى حيث أراد فهو إن مات هنا من حجر يسقط من سقف تداعى للسّقوط فله في غير هذا البيت أهل سيقولون له أهلا و.. سهلا.
وأبدى الشاعر دخيل الخليفة تفاؤله كون الشعر بخير، والشعر العربي حاضر بقوة ويضاهي ويتفوق على الشاعر العالمي بحكم ما أضفاه الرموز، أدونيس، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، ومحمد بنيس، وقاسم حداد، ومحمد الثبيتي على القصيدة من روح تجديدية غير منبتة عن جذورها. وأضاف الخليفة «الشعر بخير ما دام هناك شعراء، متفردون في خارطتنا العربية، ويقينا أن الشعر العربي هو الأكثر قدرة على التعبير عن الإنسان وهمومه، وهو الأكثر تعبيرا عن كيمياء الذات، إلا أن الكثرة لا تعني شيئا أمام الكيف أو النوع، على مستوى نصوص الشاعر أو عدد الشعراء». ويرى أن كل شاعر يلاحق الجديد هو رافد مهم للشعر العربي، كون هذا الفن يعيش ويبقى ما دام هناك من يتجاوز ما سبق ويجدد على صعيد اللغة والأسلوب والتفرد، وبرأيي أن المهم دوما هو وجود متلقٍ يناصر الجديد ولا يعاديه ليبقى الشعر بخير وليعيش تجربة تصاعدية.
الشاعر الشهري: اكتمال اللاوعي
كم أهرب منك أيها الشعر، وكم أحاول كتابتك بطرق أخرى، حتى لا أقع تحت طائلة العتب! تعاتبني دائما حين ألجأ، إلى نظمك في جمل وعبارات، تفتقر إلى الروح، وتقدم إلى الناس بوصفها شعرا. يحدث الأمر في كل أشكالك: البيتي، والتفعيلي، والحر، وقصيدة النثر. نحاول نظمك بخبراتنا وحذلقاتنا، ولكنك عصي وعزيز، وتتأبى على الخروج، ما لم تكتمل في لا وعينا، وتأخذ شكلك النهائي. نظم تلو نظم، وغنائيات مغلقة على شعرائها، ونصوص تتباهى بضجيج منبري، لا قصائد تجمع عليها القلوب. أحن عليك وعلي، من هذا النظم، ومن الضخ المتواصل للصور والاستعارات، بلا بؤر شعرية تلم شعث المعاني. كم أهرب منك، وأتهرب من المناسبات، التي تظن أنها تحتفي بك، بينما هي تمعن في جلدك، لتتداوى من آثار سياطها بقية العام! أهرب منك ومنها؛ حتى لا أصنف كساديّ، يتلذذ بتعذيب أجمل الكائنات.