صلابة المُنتج، وحقيقة الإنجاز يشكلان، حتمًا، أقصر وأنجع الطرق نحو إقناع الآخرين بوجاهة المشاريع الفكرية. هكذا كان خطاب الأمانة العامَّة لجائزة الملك فيصل ومعهد العالم العربي في باريس؛ إذ وضعت هاتان المؤسستان الوازنتان، بين أيدينا، مائة كتاب وكتاب: واحدًا وأربعين كتابًا في اللغة العربية، وستين كتابًا في اللغة الفرنسية. كتبَ هذه النصوص متخصصون و(مجتهدون) كانت غايتهم الكبرى منح القارئَيْن العربي والفرنسي مفاتيح قلاع مجموعة من الكتّاب والمفكرين الذين كتبوا وأنتجوا نصوصًا ودراسات جادَّة عن الثقافتين العربية والفرنسية خلال القرنيين الماضيين؛ من المستشرقين والمستعربين والمعاصرين، في مجالات متعددة شملت: الدين، والفلسفة، والسياسة، والاقتصاد، والآداب والفنون. ولا بد من القول إن هذه النصوص ليست سواءً في كلتا اللغتين، فمنها الوازن، ومنها ما هو دون ذلك.
يكتسي مشروع (مائة كتاب وكتاب) قيمة معرفية مركزية من زاوية انطلاقًا من أنه تتجلى به (عبرَ مخرَجاته وخطابِه) أجمل وأعمق معاني المثاقفة. المثاقفة (بمَعناها الثقيل) الذي يحيل على التواصل (البَيْنثقافِيِّ) القائم على المُعارفة التي تكون غايتها الكبرى إعمال سلوك الاحترام المتبادَل بين الشعوب والمجتمعات الإنسانية. المثاقفة التي تجاوزت -على إثر استقرارها المعرفي بفضل مفكرين كبار عملوا على هذا الاستقرار من حيث التعريف والجهاز المفاهيمي- ممارسات النسبية الثقافية، والتعددية الثقافية، والتنوع الثقافي. المثاقفة التي (باعتبارها نظريَّةً مكتملة الأدوات) تحيل -كما تقول مارتين عبدالله برتسيي- على: «وضع، وعلى منهج، وعلى نوع دقيق من التحليل»؛ والتي تروم في غايتها الكبرى تشييد علاقة معَ (الآخر) لا تقوم على الإقصاء أو التَّرصُّد أو التصفية، بل على الرغبة في الانهمام في تشييد المشتركات الإنسانية.
يتفرَّد المشروع عن غيره بتسليطه الضوء على مجموعة ليست بالقليلة من الكُتَّاب والمستشرقين (أكثر من نصف الكتّاب) الذين سيكون من المتعذَّر -أو فلنقل من الصعب جدًّا- التعرُّف عليهم لولا ما تحقَّق عبر هذا المشروع من الصعود بهم ووضعهم في الأفق كي يتسنى للباحثين والمتلَقِّين بشكل عام تداول منتجاتهم المعرفيَّة، ومِن ثم تدارس أطروحاتهم الفكريَّة، بخاصَّة أُولئك المسكوت عنهم من الذين كتبوا، ودرسوا، وحلَّلوا، وترجموا ولم يَتسَنَّ لنا معرفتهم، والذين من الممكن أن تمنحنا أطروحاتهم خيطًا إِرشاديًّا جديدًا نحو الولوج إلى ظاهرة الاستشراق والخطابات المتعالِقَة معه.
والمنتَج، بمجمله، محرض كبير على تصادم معرفي مَرِن (جديد) بين الانتقاد والاستشراق. (مصطلح) التصادم المعرفي المرن -الذي، كما هو معروف، يحيل، فيزيائيًّا، على تصادم بين جسمين أو مادتين لا يترتب عليه ضياع وتلاشي الطاقة بشكل كلي- ما هو مُغرٍ في هذا المصطلح ومحرِّض على استعماله وطرحه للتداول والنقاش في مجال آخر هو الاحتفاظ بالمكون رغم وقوع فعل التصادم، وقد يكون هذا السلوك هو الأهم في ممارسة الانتقاد الذي يقوم على قيم المعرفة الحقَّة.
مركزية مقترح التصادم المعرفي المرن تكمُن، هنا، في حضور الآخر وعدم تلاشيه، رغم فعل التصادم (الانتقاد). ولكي تتحقق غايات هذا التصادم المعرفي المرن في السياق الذي نتحدث عنه -دراسات الاستشراق- تظهر الحاجة، بالضرورة، إلى الاستعانة بالأفكار (أو المقاربات) التي تُمكِّنه من تحقيق غاياته المعرفية. واحدة من الأفكار الكبرى التي قد تكون ملائمة هي ما طرحه إدغار موران في كتابه: «إلى أين يسير العالم؟» والمتمثلة في إعادة التفكير بمعادلة الزمن التقليدية التبسيطية الخطيَّة التي سادت في الماضي: الماضي – الحاضر – المستقبل، والتي يُطرحُ (الماضي) من خلالها على أنه معلوم يقينًا، وأن (الحاضر) معلوم، وأن أساس مجتمعاتنا ثابت، وأن كل هذا يُمكِّننا من معرفة ملامح مستقبلنا بوضوح. يرى موران أن التعاطي مع الزمن وفق هذا التصور أفضَى، عبر الزمن، إلى وقوع التباس شديد في معرفة ملامح المستقبل وفي الوقت نفسه إلى «تشييد مستقبل خيالي انطلاقًا من حاضر مجرَّد». ولتجاوز هذا المأزق، يحرضنا على تبنِّي معادلة خطية جديدة للزمن -غير تلك التبسيطية- تفاعلية تبادلية بين الماضي والحاضر، غايتها كما يقول «تشييد الماضي انطلاقًا من الحاضر، واختيار العناصر التي تُسهم في إنتاج وصناعة الحاضر». استعمال فكرة تشييد الماضي من جديد عبر اختيار العناصر التي تُسهم في صناعة الحاضر، وما يصاحب هذه الفكرة من مفاهيم، ومفاهيم مجاورة، قادرة -في تصوري إن أحسنَّا استعمالها- على أن تأخذنا إلى تصادم معرفي مرن بنَّاء ومثمر بين الانتقاد (بكل آلياته)، وبين مجموعة كبيرة من النصوص في الفكر والتاريخ والفلسفة. النصوص التي بين أيدينا (باللغتين العربية والفرنسية) التي كان موضوعها الدراسات التي كتبها المستشرقون الغربيون منذ القرن التاسع عشر حول الشرق الأدنى، أو تلك التي كتبها كُتاب (عرب) حول الجانب الآخر من البحر المتوسط ملائمة لهذا النوع من التصادم، بل إنها، بتصوري، فرصة معرفية تاريخية للتفكير من جديد في (الظاهرة الاستشراقية) بكل ما تحيل عليه: ابتداءً بالتعريف الذي تحوَّل مع الزمن من الحالة التعريفية إلى الحالة الوصفية، مرورًا بدوافعه الدينية والسياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية، وانتهاءً بمآلاته. ولكي يتحقق هذا التصادم المعرفي المرن الذي من المفترض أن يُفضي إلى حقائق (جديدة).
التصادم المعرفي المرن يرفض «الشك المتقاعس»
لا بد من القول إن التصادم المعرفي المرن يرفض رفضًا كليًّا فكرة «الشك المتقاعس» المسبق الذي يقارب -على سبيل المثال في هذا السياق- الاستشراق على أنه موطن من مواطن الريبة والمؤامرة: يجب عليه التعاطي مع هذه الظاهرة بعيدًا، كما يُعلِّمنا بول ريكور، عن: «التأرجح الدرامي بين الغلو الدوغمائي والتطرف الريبي».
التصادم المعرفي المرن بين الانتقاد والاستشراق قد يشكل أحد السبل (الضرورية) نحو الوصول إلى الذي ما فَتِئ موران يُحرضنا على الوصول إليه وهو ممارسة «السياسة الحضارية» التي يشكل موضوعها المركزي والأهم «معالجة بربرية العلاقات الإنسانية».
التصادم المعرفي المرن بين الانتقاد والاستشراق، بوسعه أيضًا، وعبر إعمال قيمة «التحقق المعرفي»، أن يجيب على ما طرحته ليوسيت فالنسي Lucette Valensi في تصديرها لمعجم الاستشراق (الضخم) بقولها و(تقريرها): إن الاستشراق قد مات. هل مات الاستشراق حقًّا؟ وماذا عن وجاهة وملاءمة ما تطرحه فالنسي من أن الاستشراق لم يمت بسبب ما تعرَّض له من تنديد وإدانة منذ ستين عامًا أو بسبب منعطف إدوارد سعيد، وإنما لأنه تعرض لحالة تذويب في مختلف التخصصات في العلوم الإنسانية؟ وإذا كان الاستشراق قد مات حقًّا: أين تقف هذه الدراسات (الجديدة) لظاهرة الاستشراق تجاه قيم المعرفة؟ وبخاصة كيف (تماسفَ) هذا النوع من الدراسات (الاستشراقية) الجديدة مع «سيمائيات الأهواء» في ظاهرة الاستشراق عبر تاريخه؟
يمكن كذلك القول إن التصادم المعرفي المرن بين الانتقاد والاستشراق من المفترض أن يتعامل مع هذه النصوص باعتبارها (خطابًا) يستدعي، لفهم ظروف إنتاجه وتأويله، مفاهيم مركزية متعالقة جبريًّا مع ظاهرة الاستشراق وسلوكياته مثل: الأحكام القيمية، أخلاقيات التسمية والتعيين، التموضع الخطابي وعلاقته بالأيديولوجيا. كل هذه المفاهيم المنتمية إلى حقل (تحليل الخطاب) تشكل لحظة معرفية سانحة لاستعمالها في ما يمكن تسميته بـ«دراسة أخلاقيات (إتيقيا) خطاب الاستشراق». خطاب الاستشراق باعتباره ممارسة لغوية لا تحيل على خطاب غايته نقل المعرفة والمعلومات والأخبار فحسب، وإنما باعتباره خطابًا يروم إحداث تأثير على المتلقي والرغبة في توجيهه في اتجاه محدد. كل هذا انطلاقًا من أن الممارسة الخطابية هي قبل كل شيء ممارسة اجتماعية متشابكة مع الاختيارات النحوية التي هي، حتمًا، كما يرى برنارد قارده، اختيارات أيديولوجية.