تُنصب كُل عامٍ خيمةٌ من جِلدٍ أحمرَ في سُوق عكَاظ، ليجلسَ النَّابغة، ويحكِّم بين الشُّعراء؛ أيُّهم أجادَ! وأيُّهم أساءَ! معلِّلا اختيارَه في تحديدِ أجملِ قصِيدة، وأجودِ بيتٍ، اللذَين تناقلَهما الجمهُور الحاضِر؛ باعتبارِهما أفضَل ما قالَته العرَب.
الفصلُ بينَ الشُّعراء، وتفضيلُ قولٍ على قولٍ، مهمَّة مارسَها النَّابغة، ومَن جاءَ بعدَه من النُّقاد، حيثُ فاضلُوا بينَ المعَاني، واعتمدُوه الأساسَ في إصدارِ الأحكَام؛ لتقارُب المستوياتِ والأساليبِ اللغويَّة.
أدَّى الانبهارُ بالقُرآن، إلى التركيزِ على الأساليبِ اللغويَّة؛ فحصاً، وتحليلاً، وتبويباً، فنشأَت علُوم الّلغة، ومن ضِمنها علمُ البلاغةِ بأقسامِه الثَّلاثة: البيانُ، والبديعُ، والمعَاني؛ ما دفعَ النُّقاد إلى الاستغراقِ فيه، حتَّى باتَت البلاغةُ جوهرَ النَّقد.
مزجَت البلاغةُ بينَ الّلغة، والصُّوت، والنَّحو، والصَّرف، والعرُوض، والقَافية، فغدَت مادَّة دراسيَّة، تُحلَّل فيها الآياتُ، والأشعارُ، وتُبيَّن عبرَها مواطنُ الجمَال، وبعضُ المعَاني، والأخبَار، حتَّى باتَت الشُّروح والدُّروس والتَّعليقات؛ السِّمة الغالبةَ على النَّقد الكلاسِيكي، ما قبلَ الحدَاثي.
كثرةُ الشُّروحات والتَّعليقات أفضَت إلى طرحِ أسئلةٍ حولَ الكَاتب، ومصادرِ إبداعِه، والمؤثراتِ على أسلُوبه؛ لتأتيَ الإجابةُ بإدخالِ التَّحليلات النفسيَّة، والاجتماعيَّة، والتاريخيَّة، إلى صَميم الدِّراسات النقديَّة.
لم يعُد النَّاقد الحديثُ مُطالباً بتعليمِ البلاغةِ والّلغة، أو المفاضلَة بينَ القصائِد والأبيَات، إذ هدفُه أضحَى اكتشافَ السِّياقات المؤدِّية إلى الإبدَاع، وليسَ التَّركيز على جماليَّات الإبدَاع، فحدثَ تغييرٌ في وظيفتِه.
أهملَت الحداثةُ النَّاقد، وألغَت أُستاذيَّته، وباتَ دورُه يتمثَّل في التَّعريف بالمبدِع، وتأثيراتِ مُجتمعه، وظُروف عصرِه، عدَا حالاتٍ قليلةٍ؛ احتاجَت شُروحاً لُغوية وبلاغيَّة، ظلَّ عبرَها يمارسُ دورَه التَّعليمي، الذي أخذَ بالتَّلاشِي.
من المسائلِ التي أفرزَتها الحدَاثة؛ مسألةُ التأثُّر والتَّأثير، سواءً بينَ المجايلِين، أو اللاحقِين والسابقِين، إذ نظرَت إلى النُّصوص، باعتبارِها شبكةَ علاقاتٍ، ذاتِ جُذور مُشتركَة، فأيُّ نصٍّ لا بدَّ له من صلاتٍ معَ نُصوص أُخرى، قرأَها المبدعُ وتأثَّر بها، وهوَ ما يعنِي وجُود مبدعٍ سابِق، يمارسُ على الكَاتب نوعاً من الهيمنَة.
أُبُوُّة السَّابق، والاعترافُ بفضلِه في وِلادة النَّص الجدِيد، فكرةٌ أقرَّتها ما بعدَ الحدَاثة، ووضعَت لها مُصطلح «المؤلِّف المزدوج»؛ لتشيرَ إلى أنَّ المبدعَ لا يكتبُ منفرداً، إذ الثَّقافة تشاركُه، وتعملُ على توجيهِه، فتمَّ تقليصُ الاهتمامِ بحياتِه، وتأثيراتِ مجتمعِه، وظُروف تاريخِه.
الثقافةُ ليسَت شخصاً، وليسَت طريقةً وأُسلوباً، وليسَت مما يُمكن أن يُحد ويُحصر، إذ في داخلِها يعيشُ جميعُ الكُّتاب، ولمعرفةِ أساليبِهم، وتوجُّهاتهم، وأفكَارهم؛ ثمَّة حاجةٌ إلى عددٍ مُماثل من القرَّاء، وهُنا وُضِع مُصطلح «القِراءة المفتُوحة»؛ ليشيرَ إلى لا نهائيَّة القِراءات، واعتبارِها صحيحةً، ولها قِيمة؛ حيثُ يحقُّ لكلِّ قارئٍ ممارسةُ القِراءة، بحسَب ثقافتِه، وخبرتِه، وتكوينِه.
التركيزُ على القَارئ، أدَّى إلى جعلِه محورَ العمليَّة النَّقدية، لكنْ بسببِ كثرةِ القرَّاء، واختلافِ مستوياتِهم؛ اختلفَت مقارباتُهم، ما أنتجَ قراءَات؛ بعضُها متناقِض، وبعضُها بعيدٌ عن الصِّحة؛ ليسَ بينَه وبينَ النصِّ المقروءِ أيُّ صِلة.
مُشكِلتان تُعاني منهما ما بعدَ الحدَاثة؛ الأُولى «فوضويَّة القِراءات»، وعدمُ توجيهِها، والثَّانية «زيادتُها المفرِطة»، إذ الجميعُ باتَ قادراً على تقديمِ قراءَة، مهما بدَت غريبَة، أو بعيدَة، أو لا علاقةَ لها بالموضُوع، ما يعنِي اختلالَ دورِ النَّاقد، واختزالِه من حالةِ «التَّخصُّصية»، إلى أحدِ أنواعِ القرَّاء.
هدفُ النَّاقد ما قبلَ الحدَاثي؛ تمثَّل في تعليمِ وتثقيفِ الدارسِين وأبناءِ الّلغة، بينَما هدفُ النَّاقد الحدَاثي؛ تمثَّل في إلقاءِ الضَّوء على مصادِر الإبدَاع، وكيفيَّة تشكيلِ المبدِع، أمَّا النَّاقد ما بعدَ الحدَاثي، فبوصلتُه ما عادَت تُشير إلى وجهةٍ محدَّدة؛ إذ تشظَّت، وتعارضَت، وكثُرت كثرةً مفرِطة، وباتَ من الضَّروري إعادةُ توجيهِها؛ لتخدُم الكَاتب، والنَّص، والعمليَّة الإبداعيَّة.