صدر عن دار للنشر والتوزيع كتاب (مواقف عابرة من ذاكرة دبلوماسي)؛ لمؤلفه الأستاذ سليمان بن علي البدير، الدبلوماسي السعودي والوزير المفوض بوزارة الخارجية سابقاً. يقع الكتاب في 162 صفحة من القطع المتوسط، ومصنف ضمن التراجم الذاتية، ويحتوي الكتاب على 38 قصة مختلفة ومواقف متباينة في تفاصيلها وأحداثها وشخوصها وفتراتها الزمنية، منها ما هو ملهم، ومنها ما تستمد منه درساً، أو يضيف لك معلومة، أو يكسبك فائدة، كما أن منها الطريف، ومنها ما يعكس تباين الشعوب في ثقافاتها وعاداتها، ومنها المحرج، أو المقلق، أو المؤلم، فجلها تعكس خبرات المؤلف الواسعة، وتجاربه المتعددة، وثقافاته الواسعة؛ التي كانت نتاج حرصه على التعلم والمعرفة مبكراً؛ إضافة إلى أن عمله الدبلوماسي حتم عليه التنقل بين مختلف قارات العالم ودولها، خدمة للدين والوطن وولاة الأمر -حفظهم الله- الأمر الذي أكسبه مخالطة العديد من الشعوب، وأضاف له فهم عاداتهم وطرق تفكيرهم ونظرتهم للآخرين، كل هذه الحصيلة من العلم والمعرفة والخبرات والتجارب امتزجت في شخصية المؤلف، وانعكست على أسلوبه الأنيق في سرد القصص، بداية من اختياره الدقيق للعناوين، التي تدل على المحتوى بشكل مشوق، وكتابته المتوازنة للقصص والمواقف، فهي ليست بالطويلة المملة، ولا بالمختزلة المخلة، كما أنه صاغ كتابه بسلاسة، وانتقى مفرداته وجمله باحترافية الكاتب؛ وببراعة المؤلف، فما أن تبدأ قصة أو موقفاً حتى تجد نفسك غارقاً في تفاصيلها دون أن تشعر، وما أن تبدأ قراءة شيء من الكتاب إلا دفعك لقراءة ما يليه، وهنا تكمن براعة التشويق، التي وفق فيها الكاتب بشكل كبير، كما أن القارئ المتفحص للكتاب، يستطيع أن يخرج من كل قصة أو موقف بالعديد من الفوائد، سواء في التجارب، أو المعلومات، أو الدروس، أو الخبرات، أو حتى الإلهام لا سيما للشباب الطموح.. بدأ المؤلف هذه القصص بـ(قرويون في مصر) التي يسرد فيها الكثير من تفاصيل أولى رحلاته إلى خارج المملكة؛ عندما كان صبياً يافعاً في المرحلة المتوسطة، لم يكن حينها ممتلكاً للخبرات الكافية، والمعارف اللازمة، ولم يكن مرافقوه في الرحلة يختلفون عنه في ذلك، حتى من يكبره في السن؛ إذ كانت أولى رحلاتهم جميعاً لخارج المملكة، بل كانت أول تجربة لهم في ركوب الطائرة؛ الأمر الذي انعكس على مادة هذه القصة، حيث لا تخلو من الطرافة واللطافة، وفي ذات الوقت تجد الإلهام في ذات القصة؛ فهذا الصبي اليافع الذي سافر من موطنه العلا قروياً، عاد إليها اليوم وزيراً مفوضاً سابقاً بعد تقاعده، متشرفاً بخدمة وطنه في الكثير من السفارات والمهام التي أسندت إليه في أبرز المحافل الدولية، ومثل ذلك الإلهام لمسته في قصة الحج مشياً، هذه القصة التي تجسدت فيها معاناة هذا الشاب، وإحساسه بالتعب والجوع والعطش؛ ولكنه استفاد من هذه التجربة، وما وجد فيها من نصب وتعب في جسده، انعكس عزيمة وإصراراً وتحدياً على شخصيته، فخرج من هذه التجربة القاسية أكثر قوة، واستفاد منها الصبر والتحمل والاعتماد على النفس؛ وهذه المكتسبات النفسية تنامت في داخلة وتراكمت مع مرور السنين، وامتزجت مع تسلحه بالعلم، وبحثه عن المعرفة، وما اكتسب من تجارب وخبرات، وهذا ما تجسد في عدة مواقف أخرى في الكتاب كانت تتطلب ضبط النفس والتحمل والتخارج من عنق الزجاجة، كما ورد في قصة حادثة الدراجة وتجمهر الهنود، أو في التحكم بالمشاعر والسيطرة على الانفعالات كما في قصة الجنية كاترين أو في قصة مسلحين في مقهى، ومنها ما يتطلب الحنكة وسرعة البديهة وحسن التصرف، كما حدث في قصة ناصح الرؤساء وقصة خطبة جمعة في الأرجنتين؛ وهذا نتاج دراسته وممارسته للدبلوماسية واستفادته من كبار الدبلوماسيين الذين عمل معهم، فالحياة كانت معلماً للمؤلف، تلمس ذلك -على سبيل المثال- في قصة أول درس في الإتكيت، فهو لم يقل درساً واكتفى، بل ذكر أنه أول درس كناية أنه تعلم بعد ذلك العديد من الدروس، ومثل ذلك في قصة معلم قدوة، وهكذا بقية القصص والمواقف مترابطة فيما بينها، متراكمة في فوائدها ومكتسباتها، حتى يمضي بك الكتاب سريعاً، متنقلاً بك بين مختلف الأزمنة والأماكن والثقافات، فهو يقدم لك مزيجاً من الخبرات والتجارب والمعارف والمعايشة بقصص ومواقف حقيقية خاضها بنفسه، تاركاً لك كامل الحرية في قطف ما تريد من ثمار فوائدها وتذوق ما تشاء من شهد أسلوبها.