اختلف أدباء ومثقفون حول معارض الكتب بشكل عام، والمؤلفين بشكل خاص، إذ رأى أدباء أنّ المؤلفين في هذه المعارض أصبحوا أكثر من القراء، وأنّ الزائرين لهذه المعارض إما مصورون أو متفرجون، وأنّ القراء والمقتنين باتوا قلّة!
التأليف.. حكاية سهلة
الكاتب علي القاسمي أكد ابتداء أنّ حكاية التأليف أصبحت أسهل من أي وقت مضى، ولهذا المنعطف – كما يقول – مسارات متعرجة، إذ تقابل هذه السهولة ضعفاً في الافتتان بالفعل القرائي حتى وإن نما تفاؤل هنا وحماس هناك. ورأى أننا نحتاج لوقفة في هذه المساحة للمقارنة والمقاربة بين نشاط التأليف الذي لا يهدأ ونشاط القراءة الفاعل الذي يُلمس أثره ويُعرف المنغمسون به والمهتمون فيه.
واستغرب القاسمي أننا ما زلنا نسأل: هل نقرأ؟ مع أنّ الواجب أن نكون قد قفزنا إلى بحر السؤال الكبير: ماذا نقرأ؟
تأليف وفقر قرائي
لدينا شغف بالتأليف وعرض أي شيء في مواجهة فقر قرائي أو لنقل قراءة مؤقتة تسندها العاطفة والجو العام المحيط والذي يشجع حتى من لم يسمع بالقراءة أو يفتتن بها أن يخوض تجربة قصيرة من واقع أقرب حبر وأسهل نص وأكثر العناوين خداعاً بصرياً وجذباً، أما عن الفرجة وعلو كعبها على الاقتناء والقراءة، فلا بد أن ندرك أن معارض الكتاب تجمّع بشري هائل لمن يتعسر جمعهم في وقت واحد، ويعدّ هذا التجمع البشري فرصة ذهبية للتواصل والحديث المباشر والمشاهدة والتعرّف عن قرب على الوجوه والعقول، وهذا التصور يدخل في باب الفرجة، ومن بعد هذا الباب يكون الحَكَمُ هو الوقت المتاح الفائض عن الصورة السابقة وكذلك ما يفرضه سوق البيع من أسعار عادلة تمهدّ للاقتناء أو أن تكون مبالغاً فيها ليبقى خيار الفرجة / المشاهدة هو الصامد والأكثر مناسبةً للتفاعل مع واقع كهذا، لم أغفل زاوية القراءة هنا.
القاسمي رفض أن يكون كل اقتناء هو مقدمة صريحة للقراءة، فكم من مقتنين يتوقف دورهم عند مربع الاقتناء ولا يتجاوز هوسهم ذلك، لأن فتنة التسوق لا بد أن تطغى وإن غلف السوق / الميدان بمسمى «معرض الكتاب»، وبالتالي فإنّ زائري معارض الكتاب يتعطشون أكثر للهدايا واللقاءات والصور الطازجة العاجلة وتوثيق اللحظات إلكترونياً من حب الاقتناء ومتعة القراءة.
القارئ المصوّر
الناقد الدكتور عبدالله العقيبي ينظر للموضوع من زاوية أبعد، إذ يرى أنّ المدونة النقدية الغربية متمثلة في ياوسوإيزر وإيكو وغيرهم، قد أفرزت لنا قارئاً ضمنياً، وقارئاً مثالياً، وقارئاً نموذجياً، وقارئاً معاصراً، وقارئاً مفكّراً، وقارئاً مثقّفاً، وقارئاً مؤرخاً، وقارئاً متعمقاً، وقارئاً متحوّلاً ومتطوراً، فيما الراهن الثقافي والأدبي العربي التعيس أفرز لنا ظاهرة القارئ المُصَوِّر!
هذا القارئ المُصَوِّر – كنا يقول العقيبي – ينشط وتدب فيه الحماسة بشكل غريب أثناء معارض الكتاب، وإذا كان دور القارئ ضمن نظرية التلقي يبدأ قبل قراءة النص، عبر ما يعرف عند ياوس بأفق التوقع، ثم يدلف إلى النص محملاً بعدته المعرفية ويكون المعنى الجمالي الخاص به؛ أي بين النص وبين توقعاته الجمالية، مكوناً المسافة الجمالية عند ياوس، فإن القارئ المصور ذكي جداً ولا يخطر في ذهن أحد، يمكنه الاكتفاء بصورة غلاف الكتاب فقط، وملاحقة الكاتب من ندوة إلى ندوة، وإذا كان ميسوراً سيكلّف نفسه شراء الكتاب من أجل توقيع الكاتب، لا من أجل تكوين المعنى ولا أي هرطقات نقدية.
خدمات هذا القارئ المُصَوِّر تكون ذات قيمة كبيرة لدى الكاتب المُصَوَّر، فهي تعطيه قطناً إضافياً لحشو فراغاته النفسية لا فراغات النص، وتملأ عليه واقعه بضوء الفلاشات، لا ضوء الجمال المعرفي المضاف، فهذا القارئ لا يستحق حتى منزلة القارئ المغلق الذي تحدث عنها إيكو، فالقارئ المغلق هو شكل من أشكال الدخول السلبي إلى النص، يتحقق فيه حد أدنى من تكوين جدلية المرسل والمستقبل التي تتكئ عليها نظرية التلقي، أما القارئ الذي نتحدث عنه فهو قارئ غلافي إن صحت العبارة، لم ولن يدخل إلى تضاعيف النص الأدبي، ويمكن دراسته في مجال التسويق لا في الحقل النقدي.
قارئ نصب عين الكاتب
الطامة الكبرى في ظل تكاثر هذا النوع من القرّاء تحولهم إلى قارئ ضمني، أي قارئ يضعه الكاتب نصب عينيه أثناء عملية الكتابة، فيضع له مجموعة من التوجيهات الداخلية، تجعل تلقي القارئ للنص ممكناً، فتخيل معي حجم الكارثة التي سيفرضها تكاثر هذا النوع من القرّاء المحملين بأحدث أجهزة التصوير، وليس لديهم عدة معرفية ولا كفاية نقدية، فقط مجرد فلاشات وسيلفيات وشعور مسرحة، بعدها لن نستغرب ما يحدث من تدنٍ لجودة الناتج الأدبي؛ لأنه سيكون أحد إفرازات ومصائب هذا القارئ المُصَوِّر، فقل لي من يقرأ نصك أقول لك من أنت!
معارض الكتب محفزة على القراءة
الروائي والقاص طاهر الزهراني ذهب إلى أبعد من مؤلف وقارئ، وزائر يشتري أو يذهب للفرجة، إذ رأى أنّ من حق أي إنسان أن يكتب، فالكتابة حقّ لكل شخص في العالم لديه قدرة عليها، من حقه أن يكتب ويخطئ وليس من حق أحد أن يصادر هذا الخيار؛ لأنّ الكتابة ليست حكراً على أناس دون آخرين. وأضاف الزهراني: إذا كانت مشكلتنا في الكتابة الرداءة فالزمن كفيل بغربلة النتاج، وسيبقى العمل الجيد، أما الأعمال الضعيفة فستزول.
الزهراني تساءل في خضّم هذا الجدل حول القارئ والمتفرج: ما المانع أن يكون في معرض الكتاب زائر متفرّج لا زائر مقتنياً؟ فالمعارض اليوم صارت كرنفالاً ثقافياً للجميع، كل أفراد العائلة يحضرون للمعرض وكلّ إنسان يجد بغيته، فالأب يجدها في محاضرة، والشباب والفتيات يجدونها في اقتناء كتاب، والأطفال يذهبون إلى قسم الأطفال، والناس الذين لا علاقة لهم بالقراءة والكتابة يحضرون لمجرد النظر في الكتب. ليس هناك أجمل من النظر في الكتب، وليس هناك محرّض للقراءة وحبّ الكتاب مثل مطالعة مناظر الكتب ودور النشر.