لم يكن رحيل الشاعر العراقي مظفر النواب (88 عاما) اليوم في إمارة الشارقة إلا إحدى المفارقات التي لازمت حياة وممات صاحب (بكائية على صدر الوطن) ليغدو كما قال المتنبي (عشية أحفى الناس بي مَن جفوتُهُ، وأهدى الطريقين التي أتجنبُ).
ويتعذّر على مريدي شعر الشاعر العربي الراحل مظفّر النواب، وصف تجربته، أو أخذها في إطار مثالي، في ظل ما نادى به من القِيم والمُثل التي لم ينجح في تطبيقها عملياً؛ وبرغم ثوريته الطاغية حد هجاء ساسة وزعماء، لم يتمكن طيلة عقد كامل من مؤازرة الثوار السوريين، بحكم ظروف موضوعية، وذاتية، وإن بلغ نبض الكلمات العاطفية في قصائده الآفاق، ورددت جماهير عريضة هجائيته (القُدس عروس عروبتكم) التي خذلته الحصافة في تجاوز (سوقية) ألفاظها، ظناً منه أن تفريغ الشحنات يكفي لتحرير أوطان، والارتقاء بوعي إنسان.
ولعل إيمان الشاعر بمبادئ ونظريات دون فهم واقعي لمعطيات سياسية وحزبية وبراغماتية، أو أخذ في الاعتبار للعلاقات الإنسانية السويّة، ورّطت النواب بحديّته ليخرج من المخاض بالقبض على الريح، واستشعر (أبو عادل) ما جنته عليه الثورة ليقول في ختام الرحلة (مرة أخرى على شباكنا تبكي.. ولا شيء سوى الريح.. وحبات من الثلج على القلب.. وحزن مثل أسوق العراق.. مرة أخرى أمد القلب.. بالقرب من النهر زقاق.. مرة أخرى تُحنّي نصف أقدام الكوابيس
بقلبي..أضيء الشمع وحدي، وأوافيهم على بعد وما عدنا رفاق) وأيقن إثر رحيل العمر بأنه خسر الوطن، (وقنعتُ يكون نصيبي في الدنيا كنصيبِ الطيرِ، ولكنْ سبحانكَ حتى الطيرُ لها أوطانْ).
أثقلت كاهل مظفر النواب أعوام قاربت 90 عاماً، كان طيلة ثمانية عقود ينتظر البشارات؛ التي لم تتحقق، ويتطلع من نوافذ قطار الليل، لمرابع تصالحت مع الحياة، وآمنت بالكدح في سبيل لقمة العيش، وكفرت بالشعارات، وتسلّت بالمسامرات، والخيام تفوح برائحة القهوة المطيّبة بالهيل (مرينا بيكم حمد ؛ واحنا بقطار الليل ؛ واسمعنا دگ اگهوه ؛ وشمينا ريحة هيل) رائعة ياس خضر، العابرة حدود وقيود الزمان والمكان.
ولد مظفر النواب في بغداد عام 1934 م، لعائلة (أرستقراطية) تقدر الفن والشعر والموسيقى، وينتمي بأصوله القديمة إلى عائلة النواب التي ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم، ورحل أحد أجداده إلى الهند وغدا حاكمًا لإحدى الولايات فيها. وقاوم احتلال بريطانيا للهند فنفوه، فاختار العراق، عاش في الكرخ، ولقي من أسرته تدليلاً فوق العادة، وكانت والدته في كل سفر أو رحلة تودعه بالنحيب وتستقبله بالبكاء، ما انعكس على انتحابه.
امتلك النواب ذائقة شعرية أصيلة، عززها بإتمام دراسته في جامعة بغداد، والتحق بالحزب الشيوعي العراقي وهو لا يزال في الكلية، وتخرج مطلع الخمسينات، وعمل معلماً ثم فُصل لأسباب سياسية عام 1955 وظل عاطلًا عن العمل لمدة ثلاثة أعوام، وتم تعيينه لاحقاً مفتشاً في وزارة التربية والتعليم، وعام 1963 اضطر لمغادرة العراق إلى إيران المجاورة (الأهواز بالتحديد وعن طريق البصرة)، وإثر اشتداد المنافسة بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام الحاكم، فاعتقلته المخابرات الإيرانية ؛ وهو في طريقه إلى روسيا، وأعادوه قسراً إلى الحكومة العراقية.
أصدرت محكمة عراقية عليه حكماً بالإعدام، بسبب إحدى قصائده، وخفف الحكم في ما بعد إلى السجن المؤبد، وهرب من السجن بحفر نفق وتوارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفيًا فيها ثم سافر إلى جنوب العراق وسكن (الأهوار)، وعاش مع الفلاحين والبسطاء عاماً، ثم انضم إلى فصيل شيوعي سعى إلى قلب نظام الحكم، وفي عام 1969 صدر بيان العفو عن المعارضين فرجع إلى سلك التعليم، مدرساً في إحدى المدارس. ثم غادر بغداد إلى بيروت في البداية، وبعدها انتقل إلى دمشق، وظل يسافر بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر بهِ المقام أخيرًا في دمشق ثم بيروت، وتعرض لمحاولة اغتيال في اليونان في العام 1981.
لم تخل لغته الشعرية من القسوة في التعبير، وتوظيف الألفاظ النابية من حين لآخر. ونجح في تضمين الشعبي في الفصيح، وقدم قصائد غنائية، وقبل سبعة أعوام قرر الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق ترشيح الشاعر مظفّـر النوّاب لنيل جائزة نوبل للآداب، تقديراً لتجربته الإبداعية ومواقفه الوطنية.
وعدّه الناقد ريسان الخزعلي مثقفاً موهوباً، ذا تجربة كبيرة، لتوافر تجربته على مقوّمات الإبداع، لينجح في تأسيس حداثة للشعر الشعبي العراقي، وأن يصل إلى جمهور عريض بشهرة إبداعية ستستمر طويلاً، مؤكداً أن للنواب شهرة تضاهي شهرة البياتي والجواهري، مشيراً إلى تميزه عنهما بكونه رائد مدرسة في الشعر الشعبي.
من جانبه، يؤكد الشاعر عبدالمحسن يوسف أن صوت مظفر النواب المسكون بالحزن والدموع والشجن العراقي ذي النبرة الخاصة يمنح قصائده المؤثثة بالغضب والشتائم والسخط على واقع عربي رث بعدا آخر، في نصوصه المكتوبة بالفصحى كنت ألحظ أنه يبدأ نصه بشاعرية خالصة، شاعرية ذات حساسية فريدة، وصور مغايرة للسائد والمتفق عليه، لكنه حين يتذكر أنه «مناضل»، تقوده قناعاته لأن يستخدم لغة أخرى تلك القريبة من نبض الشارع، حيث السخرية الطاغية والسباب الوافر والمباشرة التي تدفع بالنص لأن يكون نصا تحريضيا والشعر إلى شعار.. ومع هذا كله كان إلقاؤه المميز كفيلا بأن ينقذ النص من السقوط في العادي إذ يطير به بعيدا ليبقى راسخا في الوجدان والزمن معاً.
صحيح أنني أحببت قصائده المكتوبة بالفصحى ذات مرحلة من العمر والتلقي، بيد أني اكتشفت في ما بعد أن قصائده المكتوبة بالمحكية أجمل بكثير من تلك الفصيحة التي طارت في الآفاق ونالت حظوة وذيوعا… شعره المكتوب باللهجة العراقية المليئة بالعذوبة شعر آسر دون ريب، شعر أكثر جمالا لأنه أكثر إنسانية لهذا يسكنك عميقا، ويأخذك بعيدا إلى حيث ضفاف الجمال الذي لا يفنى، الجمال الذي يبقى فاتنا وصامدا وحيا رغم تحولات الحياة ورغم أنف الزمن…
صحيح أن شعره الفصيح رغم ما فيه من مباشرة وسباب ولعنات أسهم عميقا في إيقاظ الوعي الجمعي ذات مرحلة من مراحل التردي العربي، لكن شعره المحكي الذي أشعل الوجدان طويلا وعميقا ظل نابضا ومتوهجا حتى وقتنا هذا، وظل عصيا على الذبول والترمد لأنه ارتبط بالإنسان، عذاباته، ومكابداته، وقضايا الوجود الإنساني الكبرى وأسئلة ذلك الوجود، وتوقه العريض لكل ما يبهج القلب ويشعل الروح، ويقارع الفناء والموت وكل أسباب الانطفاء في هذه الحياة…
شعره المحكي المبثوث في فضاء الغناء العراقي مثلا حكاية أخرى تستحق الإشارة إليها والإشادة بها، شعره هذا دليل ناصع على أن من يكتب للإنسان بحبر قلبه وجمر روحه يبقى خالدا نصا وشخصا رغم مرور الكثير من الوقت تحت جسر الزمن.