ينتهي الحديثُ في وقتٍ تظنّ أنك ستكون ثرثاراً تحكي كل ما تشعر به، لتكتشفَ أن الكلام أكبرُ الحماقات وأقدمها، وأن الصمت هو حديث الأرواح عندما تلتقي أخيراً.
كلّ شيء كان مثالياً، الحقول التي أخذ أغلبها بالاستسلام لغزل شمس ربيعية، رائحة الحشائش وهي تتخلّى عن آخر أنفاس باردة، شاهقة روحها بحضرة عاشقَين جمعهما طريق ضيّق بين الحقول؛ فراشاتٌ بيضاء ترقصُ فرحاً لقدوم الربيع، وأشجارالصنوبر التي جمع ظلالها خطّ، قررَ أن نستريح تحتها بصحبة أغنية يحبّها كلانا.
صوتُ الجيتار في تلك الأغنية كان يعزف أنغامه على خصلات شعري المسترسل الباحث عن مداعبةٍ طال انتظارها، أكفّنا المتعانقة منذ أول الطريق تُجاري نغماته؛ كان يتحسسُ كفي دون النظر إليّ، وأتحسس عروق يده النافرة، أهدهدُ انفعالات الدم المذعور.
الصمت.. الصمت في كل مكانٍ برفقة النسمات العليلة، تحت ظل أشجار الصنوبر يذكّرني بلوحة فان كوخ التي لطالما أحببتها.
للمرة الأولى والوحيدة لم أكن أفكّر في ما بعد، كنت أعيش اللحظات الساحرة بكل تفاصيلها فقط، ويا لَه من هواء عليل كيف يجبر الأفكار على التمهّل وعدم مباغتة قلبي.
عيناه الغارقتان في البحث عن سببٍ مقنع لإنهاء هذا الاحتضار اللذيذ، يغلقهما وهو يتحسس وجهي المحدد الملامح بأصابعه التي قررتْ أن تحتفظ بشيء من الذكرى لنفسها، لم تترك عظْمةً صغيرة في وجهي دون أن تنحتها بدقة، وكأنها تريد حفظها عن ظهر قلب.
أصابعه العمياء كم كانت رقيقة ومهذبة؛ كل ما تمنّيته في تلك اللحظة أن تكونَ أطول تفاصيل عمري.
بعد لحظات بدأ المطرُ يتساقط، عندها أسرع هو بالركض على غير وجهة محددة، توارت ابتسامتي وانتابني خوف مفاجئ عندما حاولتُ اللحاق به ولم أستطع الوقوف على قدميّ، ومع ازدياد شعوري بالخوف رحتُ أصرخ باسْمِه وأبكي عجزي عن الوقوف وثقل قدميّ. سمعت صوت أمي تناديني من بعيد، ثم بدأ الصوت يقترب شيئًا فشيئاً حتى صارت أمامي تماماً، نظرت إليها بصمت ووجهي مبللٌ بالماء، قالت: ألم أطلب منكِ أن تُغيّري مكان سريركِ قبل أن تخلدي للنوم؛ السقف يسرّب الماء عندما يسقط المطر بغزارة في الخارج! كيف سنجففُ كل هذه الأغطية المبللة الآن؟!