أبدى عدد من النقاد والأدباء، تحفظهم على مساومة الكُتّاب بغرض الكتابة عن منتجهم الإبداعي، وفيما استبعد البعض عرض خدمات نقدية وعرضية للكتب بمقابل مالي أو خدمي؛ برر بعضهم الأخذ مقابل العمل، ولم يستبعد البعض قيام سوق سوداء، تدار في الخفاء، لخدمة شعراء، وسُراد بكتابات مدفوعة الثمن، وإن اتفق الجميع أن آلية الكتابة للاسترزاق منافية للأخلاق الثقافية، وهنا ما وصلنا من ردود المثقفين حول تساؤلنا؛ فيرى الناقد محمد الحرز أن الكتابة مهنة مثلها مثل بقية المهن، موضحاً أن مرحلة اعتبار الكتابة مجرد رغبة ذاتية أو هواية تتعلق بهذا الفن أو ذاك تم تجاوزها على الإطلاق، لافتاً إلى أن الحياة البشرية دخلت مرحلة التعقيد بمجرد ما طالتها ماكينة الحداثة إذا جاز لنا التعبير، وحضرت المتطلبات الكبرى كالمؤسسات التي لا غنى عنها في تسيير أمور الناس، وهي مؤسسات ترتبط بالدولة وآلية الكتابة جزء من عملها الرسمي، وأضاف الحرز أن الكتابة مهما كانت وظيفتها إبداعية شخصية أو رسمية وثائقية عامة، لا تنفك ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعضها ببعض، وأكبر دليل أن الفعاليات الثقافية والأدبية التي تحتاجها كل دولة وكل مجتمع لا تنهض أو تتحقق على أرض الواقع إلا باتفاق بين المبدع أو المثقف وبين الجهات الرسمية، وعدّ من بنود الاتفاق (ضمان الحق المالي للعمل الذي يقوم به هذا المبدع أو المثقف). ويرى الحرز أن هذه هي الصورة الطبيعة التي يمكن من خلالها وضع السؤال موضع السياق الذي يمكن الإجابة عبره، فإذا كان الأمر يجري بهذه الطريقة على مستوى المؤسسات، فلماذا لا يجري على مستوى الأفراد، فحين يطلب مني شخص الكتابة عنه وهو يستحق حسب تقييمي وهو مقرب مني فلِمَ لا أكتب! وحتى دون مقابل. وقال «لا أظن حسب اطلاعي وجود شخص موهوب حقيقي يطلب من الآخرين الكتابة عنه، لكن على الآخرين المبادرة للكتابة عنه».
وعدّت الروائية هناء حجازي مثل هذه القضية مثيرة للذهول، ولم تتبرم من وصفها بالانحطاط ، وترى أن الناقد من حقه أن يطلب من الجهة التي ستنشر نقده مقابلاً، أما من صاحب العمل فهذا يُفقد النقد كل معناه، وتؤكد أن النقد مثل القضاء، فلا نتخيل أن يطلب القاضي مالاً من شخص كي يحكم له. وأضافت لو حدث هذا، أو أنه يحدث فهو قمة الفساد والعبث في الثقافة. فيما ذهبت الأكاديمية العراقية الدكتورة رائدة العامري، أن قضية الكتابة بمقابل مالي تتعلق بالجانب الأخلاقي. وقالت: لا أعتقد أن أي ناقد، لا أنا ولا سواي ممن يعتبرون النقد رسالة، يستطيعون أو يسمحون لأنفسهم بمثل هذا الطلب، فلا يطلبون مالاً ليكتبوا، ولا يستجيبون لطلب شخص كي يكتبوا عن عمله، ولا يعرضون مبلغاً لشخص يكتب عنهم؛ كونه يتعارض تماماً مع جوهر عملية النقد وجانبها الفني والجمالي. واستبعدت التعارف عليها في أوساطنا الثقافية، إلا بصورة محدودة، وترى أن الناقد كأي كاتب آخر، يعطي من وقته ومن جهده ومن قراءاته، فإذا كوفئ عن موضوع نشره في منبر إعلامي أو ثقافي، فهذا ليس عيباً ولا يمس رسالته النقدية، بل بالعكس تكون للكتابة قيمة وتقدير إنساني وإيجابي، وتؤكد أن ما ورد في التساؤل مرفوض ليس في مجال الكتابة النقدية فحسب، بل وفي الشعر وفي السرد، إذ لا يصح أن يستجيب كاتب ليقرض مثلاً أو يمتدح زميلاً لقاء مال، فهذا سيذهب بهيبته وبرأيه وبوجوده الأدبي وتاريخه كله، بل ليس هذا من أخلاقيات الكتابة مطلقاً. فالنص يحيا بذاته ولا شيء آخر يغنيه أو يرفده؛ كونه يملك أدوات لإنتاجه من جديد بفعل قراءات متنوعة.
ويرى الناقد جبريل سبعي أن مسألة الكتابة بمقابل مادي، سواء تعلق الأمر بكتابتك عن الآخرين، أو بكتابتهم عنك، لا شك أنها مسألة خلافية، أي قد تكون محل قبول لدى البعض، ومحل رفض لدى البعض أيضاً، الأمر الذي يضع القول في المسألة موضع الرأي، وليس موضع الحقائق التي لا يختلف عليها اثنان، وعدّ الكتابة النقدية عن الغير في الأصل إبداعية، يمارس الناقد من خلالها صدقاً مع الذات، لتمتزج رؤاه، وأدواته، وأساليبه (التحليلية، والتركيبية) مع المادة المقروءة، ولتنتج -من ثم- قراءة جديدة؛ تضاف إلى قراءات أخرى، تتسم هي أيضاً بالصدق ذاته، والتجرد -ذاته- وأفترض أن تكون الكتابة النقدية متجردة -تماماً- من المحسوبيات، والارتزاق، لأنها حين تسقط في أوحال العلاقات، والمصالح المادية؛ فإنها تنحدر إلى قاع من المجاملات، والتلفيقات، والمدائح المجانية، والتغاضي عن القصور، والقفز على الحقائق، وتزويرها على نحو يوهم بعكس الواقع في كثير من الأحيان، مشيراً إلى سقوط الشاعر العربي المدّاح في مأزق التكسب بالشعر، (قديماً) وقُبِل منه ذلك على اعتبار أن شعره إنما هو مرتع الحقائق الوجدانية، وأن أعذبه أكذبه، وتساءل هل سنقبل -اليوم- سقوط الناقد المدّاح في مأزق التكسب بالنقد، على اعتبار أن نقده إنما هو رؤى ذاتية، وأن أعمقه ما كان ضرباً على الطبل، أو جمعاً للدراهم من بين أرجل الراقصات، والمصفقين؟!.
ويرى الشاعر محيي الدين جرمة أنه ليس في صالح وسمعة الناقد الأدبي، الخروج عن اللياقة، والمتعارف عليه من سمات التعاطي بنزاهة ومنهجية في أحوال مقارباته للنص الأدبي، الأجناسي أياً كان، مؤكداً أن ذائقته حيال ما بين يديه من كتابة، وجدارة النص المكتوب، هو ما يفترض أن يهز الناقد للتفاعل معه، ويستفزه لإنتاج رؤيات موازية، وفق رؤيته النقدية، وزاوية خياراته في النظر إلى النص الإبداعي المراد تشريحه ومقاربته، أو الكتابة عنه. وقال جرمة: شخصياً لم أسمع عن ظاهرة كهذه وأستبعد أن توجد، إلا من باب الافتراض، غير أن وسائط التواصل العديدة، واللهث وراء الكسب، على افتراض أنها ربما تحدث، من شأنها أن تحيل إلى أعراض مزمنة من هذا القبيل. ويرى أنه لا يسقط أديب أو ناقد سوي على هذا النحو أو ذاك في بورصة «السوق»، ولا يحق للناقد مطلقاً فعل ذلك، عدا تلقيه في أحايين مكافأة مقابل إنتاج فكري لقاء المادة المنشورة أو الدراسة، في هذا الملحق الثقافي، أو تلك الدورية الأدبية، التي تدفع لكتابها، وهذا حق مشروع. ويرفض إدراج الأدب في «السوق السوداء» وعده معيباً، وارتكاساً أخلاقياً. وأضاف: لا أتصور أن يطلب مني أحدهم أجراً للكتابة عن عملي، وربما لا يعرف مسبقاً ردة فعلي، وأقلها استهجان فعل كهذا، أو التحفظ على سفاهة. وزاد: في لحظة ما ربما يتعرض للصفع، وهذا غير مستبعد إن هو ألحّ في ذلك. ويرى أنه لا يوجد أي مسوغ أخلاقي من أي نوع، وتحت أي ظرف كان، ولو أكلت تراباً، لا يمكن أن ألجأ ككاتب للكتابة عن كاتب وآخذ أجر ذلك. واستبعد حدوث هذا مطلقاً، ولو من قبيل الاحتمال، أو افتراض وجود كائنات لزجة في مؤخرة المصلحة. وأضاف: أسعد كثيراً عندما تأتيني مكافآت مستحقة من صحف ومجلات وملاحق ثقافية لقاء نتاجاتي المكتوبة وجهدي الذهني والمعرفي؛ كونها وسام عرق خالص، أعتز به، ودون ذلك «خرط القتاد» كما يقال.