ثقافة وفن

مثقفون: لا للحروب

عدّ مثقفون عرب عودة الصراع الأممي بين روسيا من جهة والناتو من جهة مقابلة مدعاة للتوتر، والقلق المبرر، بحكم ما يترتب

عدّ مثقفون عرب عودة الصراع الأممي بين روسيا من جهة والناتو من جهة مقابلة مدعاة للتوتر، والقلق المبرر، بحكم ما يترتب عليه من تأزيم، ومغامرات غير محسوبة، تدفع أثمانها شعوب عُزّل لا يد لهم فيما تفرزه النزوات السياسية. وتطلّعوا إلى وقف الحرب باعتبار المثقف صوت الضمير الإنساني المهدد دوماً بالتهجير والدمار والنيل من آدميته. ويذهب الكاتب السعودي يعقوب إسحاق إلى أن المثقفين المنتمين للثقافة الواعية يرفضون الحروب ويتحفظون على نتائجها، ويخشون أن تكون نواة لتعدد الصراعات وإذكاء روح التطرف والإرهاب في بؤر ساخنة ومُسخّنة لا تكاد تهدأ في ناحية إلا واشتدت في ناحية أخرى. ويرى المفكر السياسي الدكتور عبدالمنعم سعيد، أن المناشدة بوقف الحروب لها بُعد فلسفي، علاقته وطيدة بفكرة الوجود، لافتاً إلى أنه منذ بداية القرن التاسع عشر والعالم يمر بفترات مراجعات، في ظل تنامي قُوى صاعدة، ومنافستها لدول قائمة، وطموحها لتغيير الواقع، مشيراً إلى ما طرأ على العالم إثر الحروب النابليونية، إذ صعدت دول، وتراجعت أخرى، موضحاً أنه بنهاية الحرب الباردة تصاعد نجم القطب الأمريكي الواحد، مقابل انهيار روسي، فبرزت مصطلحات حرية السوق، وانتقال القِيم، وتسويق الفلسفة الليبرالية الأمريكية. مؤكداً أن هناك تحدياً جزءاً منه عسكري، وآخر اقتصادي، فالصين وروسيا تتطلعان للحد من قوة أمريكا المصابة بالوهن. وعدّ التوجهات الأمريكية لفرض النموذج الديمقراطي طفولةً ليبرالية، مبدياً رفضه لمنطق الحرب كونها تُخلّ بعطاء وقدرات الإنسان، وترفع الأسعار، وتزيد التضخم، وتثير العداوات وتوقف النمو وتعطل الإصلاح وتغري بالتطرف.

فيما استعاد المفكر الكويتي الدكتور محمد الرميحي توصيفاً للرئيس الفرنسي الراحل (جاك شيراك) عدّ فيه القرن التاسع عشر قرن صراع القوميات، والقرن العشرين قرن صراع الأيديولوجيات، والقرن الحادي والعشرين قرن صراع الثقافات، مشيراً إلى أن النظام الشمولي يقوم على قرار الفرد الواحد، مؤكداً أن الحلم بالتوسع الروسي في الدول التي كانت جزءا منه، موظّفاً دعوى الأقليات الروسية، وعده منطقاً خارج العصر، كونه سيفتح باب تطلعات دول للهيمنة على دول بذرائع الهويات المشتركة، وعبّر عن أسفه لتجاهل قيادات ودول الاتعاظ بالتاريخ وما حدث ويحدث ليتفادى تكرار الأخطاء، وعده صراعاً ثقافياً له بُعد سياسي. فيما يرى الكاتب القطري الدكتور عبدالحميد إسماعيل الأنصاري، أنه لا توجد رؤية ثقافية واحدة لدى المثقف العربي، عضوياً أو نخبوياً أو شعبوياً، فالراصد للفضاء الثقافي العربي يجد رؤى ثقافية تختلف باختلاف المشارب السياسية والأيديولوجية للمثقفين العرب، إضافة إلى أنها مرتبطة غالباً بتوجهات السلطة السياسية التي يعيش المثقف في كنفها. ويذهب إلى أن عودة الصراع الأممي كشفت عمق التجذر الأيديولوجي في عقلية المثقف العربي، فالناقمون على أمريكا وحلفائها الغربيين وجدوها مناسبة لإنعاش الذاكرة العربية بما سموه (جرائم أمريكا)، ونشطوا في نشر قوائم للفظائع الأمريكية في المنطقة بدءاً بدعمها المطلق للجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مروراً بغزوها للعراق، وصولاً إلى حروبها في أفغانستان، ومن هذا المنطلق نتفهم البيان الذي أصدره عدد من مثقفي مصر يدين سياسات الحصار والعقوبات الغربية ضد روسيا، ويقول إنها تعيد إلى أذهان العالم أجواء وصراعات ما قبل الحرب الثانية، وتهدم كل أسس الاتفاقيات والمنظمات وسياسات وقيم الحريات الاقتصادية التي اتفق العالم عليها عام1944.

وقال الأنصاري؛ عوضاً عن نقد الغزو الروسي يستطرد البيان ليتهم النظام الرأسمالي بإشعال نيران الحروب مخرجاً لأزماته الدورية. وأضاف هناك قطاع من المثقفين العرب انتهزوها فرصة لكشف ما سموه (الوجه العنصري البغيض) للغرب، في اختلاف طريقة استقبالهم للاجئين الأوكرانيين ذي الأعين الزرق عن طريقة استقبالهم للاجئين العرب، ولفت إلى ذهاب قطاع ثقافي عربي عريض للتعاطف مع مأساة الشعب الأوكراني واستنكر الغزو الروسي ودعا إلى الحل السلمي ورفض المنطق الأعوج الذي يبرر لروسيا غزوها بحجة أن أمريكا والغرب فعلوا وفعلوا، فما ذنب الشعب الأوكراني إذا أجرمت أمريكا وأجرم الغرب بنا ؟! وأكد أن على المثقف الحقيقي أن يستنكر الظلم أبداً، عنده وعند غيره، ويدافع عنه مهما كانت المبررات، وإلا فلن يكون مثقفا حقيقياً ولا يستحق صفة (مثقف).

وتساءل الناقد أحمد بوقري هل اختفى الصراع الأممي بعد الحرب العالمية الثانية لكي نتحدث عن عودته مجدداً؟. ويجيب: إن القراءة التاريخية الثقافية تثبت لنا أن الصراعات الأممية المتنقلة وإن كانت صغيرة ومحدودة طيلة عقود إلا أنه لم تنطفئ جذوتها، فمازال تحت الرماد سعير إرادات كبرى قابلة للانفجار في أي لحظة. وقال ليس من بدٍ إلا أن يتمسك المثقف بمبدأ السلام ويقف في صف المعتدى عليه، متمنياً أن لايكون السعير المشتعل حالياً في أوكرانيا مقدمة لصراع أممي أوسع. وعزا روح التأجيج إلى أطروحة صراع الحضارات التي قدمها المفكر الأمريكي هنتجتون في تسعينيات القرن الماضي التي لم تكن تخلو من الروح التأجيجية وإن جاءت في قالب ثقافي وفكري، بل كانت تطفح بعقلية الصراع المسلح والمواجهة الدموية المفعمة بروحية تدمير الآخر.. ومركزية الأنا الحضارية. ويرى البوقري أن الآلة العقلية الجهنمية للصراع المسلح بين الدول غالباً ما تفقد اتزانها وتنزلق نحو صراع أحقاد تاريخية وقومية تتوسل في بداياتها الحروب الاقتصادية والتقنية لكي تصل في نهاياتها إلى تدمير الحضارة البشرية، ما يُحتّم على المثقف العالمي أن يكون على الحياد ويكرس قِيَم السلام والمنافسة الحضارية الإنسانية ويدفع بمقاومة الحرب إلى أقصى مدياتها شعبياً وثقافياً.

ويذهب الكاتب السوري شاهر أحمد نصر إلى أن عودة الصراع العالمي استمرار للخبل السياسي، واستعاد مقولة منسوبة لعشتار «الحرب على هذه الأرض مخالفة لمشيئتي»، لافتاً إلى أن رموز الحضارات القديمة قبل الميلاد بآلاف الأعوام نبذت الحروب، وتساءل كيف نفسر عودة النزاعات، والحروب في الألفية الثالثة من الميلاد؟ هل هي حروب تغذيها المصالح الاقتصادية؟ أم ثمة أسباب أخرى تقف وراء إعلانها؟ ويجيب؛ ثمة مفكرون يرون أن التقدم العلمي الذي تشهده الصين، ونموها الاقتصادي، وتفوق نموها الاقتصادي على الغرب، وقيام تحالفات دولية جديدة، جعل مركز الحضارة العالمية ينتقل في دورته الحالية من الغرب إلى الشرق، وينجم عن ذلك بروز أقطاب جديدة كالصين، وروسيا، والبريكس ما يخلق حالة على المستوى العالمي تتناقض مع حالة القطب الواحد، وهيمنة الغرب على الساحة الدولية، ما يتطلب بناء العالم على أسس جديدة تعترف بتعددية الأقطاب، ولا سيما أنّ «عالم يالطا» -الذي وضع أسسه كلّ من تشرشل، وروزفلت، وستالين إثر انتصارهم في الحرب العالمية الثانية- تضعضع عقب تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو في أواخر القرن العشرين.. وأن الوقت قد حان لبناء العلاقات الدولية وفق أسس جديدة يدعونها «عالم يالطا2». وأضاف هناك من يصور نضج أطراف لتغيير قواعد توازن الرعب. وفي الطرف المقابل تجد من يرى أنّ الفرصة مناسبة لزرع الأفخاخ وتصفية الحسابات لإضعاف الخصم.. ويتجاهل الطرفان حقيقة أنّ العالم أصبح متداخلاً، ولا سيّما اقتصادياً، وأنّ أي حضارة غربية، أو شرقية لا يمكن أن تتطور بمعزل عن الحضارات الأخرى، فالاقتصاد الصيني العملاق، على سبيل المثال، متداخل مع الاقتصاد الأمريكي بمئات مليات الدولارات، والاقتصاد الغربي سيتضرر إن فقد سوقه في الشرق، ويرى أن الأخطاء والخلل الكبير الذي نجم عن حروب الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في العقود القريبة الماضية في يوغسلافيا، وأفغانستان، والعراق، وغيرها، لا تبرر الاقتداء بها.. كون العالم في حاجة إلى التنوع والتعددية، القطبية، إلا أن التعددية لا تُعتمد بإعلان الحروب، بل بمزيد من التعاون، والنمو والتطور الاقتصادي، والتقدم العلمي والثقافي والحضاري، كون الحروب معبرة عن حالة الفشل السياسي. ويرى مؤسس مركز الجواهري للثقافة والتوثيق رواء الجصاني أن الصراع لم يتوقف أصلا، إلا أنه تباين في موجاته، يخفت حينا ويتفاقم حينا آخر.. تنحسر تأثيراته على المثقف الموضوعي، أو تتسع، بحسب شدة تلكم الموجات، أو تراوحها ضمن مديات زمنية، وتباينها بحسب الجغرافيا، ومستويات الإدراك، والبيئات الاجتماعية.. وتطورات الحال الاجتماعية والاقتصادية، والفكرية، وتغير وسائل الإنتاج، وما إلى ذلك من تشابكات. ويرجّح الجصاني ديمومة الصراع الإنساني، الطبقي وغيره، منذ الخليقة، وإلى اليوم: فلسفة ومفاهيم، أفراداً ودولاً، تضحياتٍ وعطاءاتٍ، سامية، ودونية.. ويؤثر إحسان التفاعل والمقارعة بالقول والرأي، بالريشة والقلم، وبالفم النابض بالرصانة والتواضع، وكل ذلك يستند إلى مستوى الوعي المعرفي للمثقف العضوي.

Trending

Exit mobile version