ثقافة وفن

مثقفون بوجهين

تعتري بعض المثقفين حالة ضغينة تجاه بعضهم، وربما يتعامل المثقف مع رفيق دربه، وزميل مهنته، بوجهين وأكثر، ولا يتورّع

تعتري بعض المثقفين حالة ضغينة تجاه بعضهم، وربما يتعامل المثقف مع رفيق دربه، وزميل مهنته، بوجهين وأكثر، ولا يتورّع عن الطعن في الظهر، والتشفي، دون فهم للأسباب، أو تفهم مبررات، ولعل مثل هذه الظواهر تحتاج لتشخيص نفسيواجتماعي لرصد الدوافع، واستقصاء مهيجات العِداء، ونتساءل هنا: هل سببها ضغائن شخصية، أم حسد أو غيرة عمياء، أم أسباب ذاتية متعلقة بالكتابة؟ والشهرة؟ وكيف يمكن تفادي العداء؟

ويرى الناقد الدكتور أحمد سماحة أن طعن المثقف للمثقف، في الظهر، أمر معتاد وحدث ويحدث في أحيان كثيرة، إذ شهدت الساحات الثقافية الكثير من طعنات المثقفين لبعضهم البعض، وقال: مَنْ يقرأ كتاب «المثقفون» لـ«بول جونسون» يمكنله أن يدرك ذلك، مشيراً إلى أن المتابع للحركة الثقافية العربية بعمق يستطيع أن يتأكد من هذا الأمر ومن وقائع عدة حدثت، ولا أريد أن أذكر أسماء. ففي مصر كان بعض الكتاب يقدمون للسلطات تقارير في أقرانهم ربما مغرضة؛ لإزاحتهم عن دائرة الضوء، مضيفاً: حدث ذلك مع نجيب محفوظ وغيره، وعد ذلك من الغيرة، أو رد فعل على دخوله دائرة الضوء بدلا منه، أو التقرب من أصحاب الأمر، واستبعد ذلك من سياق المعارك الأدبية، التي شهدتها الأوساط الثقافية، وهي لا حصر لها، وأدت إلى خصومات وصراعات أحياناً لكنها في العلن وعلى المكشوف. وأوضح سماحة أن تفادي هذا الأمر صعب للغاية، وإن أمكن تحقيقه عبر تدخل الجهات الثقافية، وإعلاء شأن مبدأ احترام وجهات النظر وتفهم الفرق بين الخلاف والصراع، مضيفاً بأن تلك الخصومات والصراعات لم تكن حكراً على ساحاتنا الثقافية العربية، كوننا شاهدنا وقرأنا الكثير عن هذا الموضوع خارج ساحاتنا العربية.

فيما لم يستثن الأكاديمي الدكتور عبدالرحمن البارقي، المثقف «واقعاً» في هذا الأمر ولا غيره؛ كون المحرك الحقيقي لمواقفه وسلوكه يبدو مشدوداً إلى العاطفة والمصلحة الذاتية، والثقافة السائدة. ويرى أن هناك مثقفاً «مثالياً» غالباً، ليس له تمثيل واقعي، ونتوقع دائماً منه النزاهة المطلقة، والعدل والعقلانية وما إلى ذلك. إلا أن هذا النوع من المثقفين المثاليين موجود في أذهاننا وليس على الأرض إلى حد كبير، إذا صحت هذه المقدمة. وتساءل: متى يلجأ المثقف إلى الطعن في الظهر؟ يبدو لي أنه يسلك هذا السلوك كلما شعر أن «مصلحته» الشخصية مستهدفة أو في خطر، في حين لا يستطيع المواجهة، أو أنه يحاول تمثيل دور الرقيّ والوداعة! ويحرص على أن يلبس طعناته لبوساً ثقافياً أو لبوس مصلحة عامة وما شاكل ذلك. وعدّ الأمر المزعج حقاً هو تقديره غير السويّ لذلك الاستهداف، ذلك أنّ بعضهم غيور جداً من نجاح مثقف آخر غيره، ويعدّ نجاح الآخرين استهدافاً له، أو اعتداء على استحقاقه! ومنهم من يحترف الوشايات بأيّ مثقف ينجح في مجال من المجالات ويغلّف وشاياته بالحرص على الصالح العام، وإذا التقى ذلك الناجح هش له وبشّ وهنأه على نجاحاته، وإذا نجح في زحزحة المطعون عن موقعه في مؤسسة أو جهة واحتل مكانه فشل واستبان عجزه! وأضاف البارقي: هذا مثال لصنف موجود واقعًا لسان حاله «عض قلبي ولا تعض رغيفي»، والمشكلة أن رغيفه هذا يتمدد ليشمل كل نجاح لغيره. وقال: «هناك شواهد عدة في الواقع تنبئ عن وجود هذه الفئة غير السوية من المثقفين، ما يجعلنا نعيد السؤال مراراً عن كنه المثقف والثقافة، وهل هي قيم أو معلومات؟ وهل لها علاقة بالسواء الأخلاقي القيمي؟ هل هي اغتذاء ينعكس على السلوك ليخلق منه سلوكاً سوياً أو أنها فن تسويقي للذات للوصول إلى تحقيق مصلحة معينة؟

فيما يرى الناقد الدكتور عبدالرحمن حسن المحسني أن النفاق الثقافي ظاهرة مؤلمة، إلا أنها رغم ألمها فربما كانت قدراً مهماً لحياة الإبداع الذي يقوم على التوجسات، لكنها على المستوى الاجتماعي تعد انسحاباً ثقافياً عن المواجهة الشجاعة، ما يكشف عن حالات مرض ثقافية، وأضاف قائلاً: يؤسفني أن هذه الظاهرة تقل في الثقافات الأخرى التي تهتم أكثر لذاتها وقدراتها، مقارنة بالثقافات العربية والإسلامية التي تعلم الدليل الشرعي الذي يجرم الغيبة والخوض فيها، متجاوزة شرف الخصومة والاختلاف.

طعنات لصاحب فضل

فيما وجه الشاعر عبدالعزيز أبو لسه، سهام نقده للمواقف السلبية من مثقفين، وقال: إذا اتفقنا على توصيف محدد للمثقف وهو المشتغل بشأن ثقافي ما، والكائن الثقافي التنويري النائي بنفسه عن حوارات سلبية من شأنها الذهاب بالمشهد الثقافي إلى مآلات لا تتفق مع ما يجب أن يكون عليه هذا الوسط المثالي افتراضا، وآثر ألا يسمي شخوصاً أو يحدد فترة زمنية احتراماً لغيابهم النهائي عن عالمنا، إلا أن مثقفاً كبيراً سرق عملا كاملاً جهزه شاعر في ظرف تاريخي معين ونسبه إلى نفسه، وحدثت أيضاً واقعة في العشرين عاماً الأخيرة أن استغل أحدهم قلة إمكانات إحدى المبدعات وانعدام علاقاتها بالوسط الثقافي و«لطش» جهدها الأول والأخير ما جعلها تتوارى عن كل شيء، وعدها طعنات في الوجه وفي الظهر. وأضاف: السؤال لماذا يحدث هذا؟ ويجيب: ربما حالة من الحسد وانعدام الضمير والضعف أمام المثقف الحقيقي المتأمل خيراً في شخصيات سقطت معرفياً وأخلاقياً. ويرى أبو لسه أنه لا يمكن أن نتفادى وقوع مثل ذلك إلا بفرض عقوبات موجعة معنوية ومادية بالتشهير والغرامات، ولا يجب أن تسقط مثل هذه الجرائم بالتقادم. وزاد: ولكي لا أكون متشائماً، أتصور حالياً أنه من الصعب حدوث مثل هاتين الحالتين لوجود تنظيمات تحفظ الحقوق ولارتفاع سقف الحريات والانفتاح الجميل الذي نعيشه، لتبقى بعض الطعنات التي تظهر على شكل تنكر لصاحب فضل أو الانقلاب عليه لأسباب ربما لها علاقة بالتركيبة الشخصية والنفسية والاجتماعية.

Trending

Exit mobile version