في الساعة الواحدة واثنتين وأربعين دقيقة من صباح يوم الثلاثاء من شعبان 1443، وقبيل وفاته بساعات كانت آخر رسالة تصلني من المرحوم الأستاذ علي الغوينم في تواصل يومي وشبه يومي لا ينقطع منذ أن تشرّفت بمعرفته في لقاء لا أدري أين لكنه بالتأكيد ضمن لقاءات رؤساء جمعيات الثقافة والفنون بالمملكة قبل ما يزيد على العشرين سنة، ومن يومها تواصلنا لا ينقطع، فكان يجمعنا الهم والاهتمام، وربما جمعنا عمل في أكثر من مكان كان آخرها مهرجان نخبة النخبة في حفر الباطن، وقبله احتفال منطقة القصيم باليوم الوطني..
(متى تجي) آخر كلمة أرسلها لي قبل وفاته بساعات وكنا على موعد بعد عودته من بغداد، تعودت لسنوات أن أزور الأحساء وأزوره كل سنة، كما كان هو يأتي إلى بريدة ويطلب أن يزور قبة رشيد في كل مرة ليقول نص محمد العثيم المسرحي (قبة رشيد) نص عظيم، في كل مرة يأتي يتحدث عن العقيلات وكيف أبدع إبراهيم المسلم في وصف رحلته معهم ويلومني في تقصيري تجاه عمل ضخم عن العقيلات ويردد أنا حساوي لو كنت قصيمياً لكتبت أو استكتبت ألومك أنت وإبراهيم السمحان الذي كتب نصوصاً شعرية عنهم قمة في الجمال هو قادر وأنت قادر دعونا نرى عملاً روائياً أو مسرحياً ينطلق من أبناء القصيم، كان هاجسه الفن الواعي المنطلق من جذورنا وثقافتنا المحلية بدءاً من الحي والحارة واستجلاب الحكايات الشعبية وإعادة رسم هويتنا ويذكر لي كمثال تأثير ابن بريدة عبدالرحمن الوابلي في رصده الجميل لحقبة الثمانينات والتسعينات الهجرية وتحويلها إلى عمل رائع يمثل الوطن بخصوصيتنا، وحين يتحدث عن رموز الثقافة في القصيم يتحدث حديث المتخصص الواعي القارئ المستقصي المستنهض لإعادة المجرى للماء الراكد. هكذا كان تساقينا في كل مرة يجيء إلينا.
وفي الأحساء وقبل أن نزور أي شيء نذهب إلى الجمعية والتي بقيت به شامخة تأخذ من وقته وتفكيره وهمه الكثير.. كان يرسل ويفتخر في كل الأعمال المختلفة العظيمة اليومية التي تكون في الجمعية.. قبل أن نذهب إلى أماكن حفظتها وتفاصيلها ودهاليزها نصلي في مسجد الملا التراثي، فمطعم الكوت وزمان لول والقيصرية ونجتمع بالحساوية كلهم صغيراً وكبيراً يطبعون قبلة على رأس هذا الطويل الشامخ بعد أن ينحني لهم كما كان ينحني لهم دوماً ليرتقوا ويرتفعوا ويتميزوا لتكون الثقافة والفنون في الأحساء سمة مميزة يعرفها الجميع في الملتقيات سواء على مستوى الوطن أو في المحافل الوطنية والعربية.
ذهب علي الغوينم وهو لم يكمل بعد حديث الحارة ونبض أهلها الذي شرع في كتابته من سنوات قليلة.
ذهب علي وذهبت الروح الجميلة والشخصية المتحركة المحرضة على الإبداع.. ذهب ذلك الجميل الذي لن ألتقيه ثانية في هذه الدنيا التي فجعتنا فيه..
(متى تجي؟)
سآتي إلى الأحساء سأزور كل الأماكن التي كنا نأتيها سوية، سأطرق باب بيتك سأسأل عبدالرحمن سأذكر له محاسنك وحللك، وسأحدثه عما يعرف ولا يعرف.
سآتي وحين لا أجدك سأجدك في كل الأماكن مخبوءاً بابتسامتك الجميلة، بحديثك العذب الرائع، برؤيتك المختلفة، بشخصيتك الرزينة، بوجودك الشامخ الكبير.. سأجدك تتخايل وتتراءى أبيضَ ناصعاً كحلم. سأظل أدعو لك بالرحمة والغفران وأن يجمعنا الله جميعاً في مستقر رحمته.
إن المصاب لجلل والفقد موجع، وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا أبا عبدالرحمن لمحزونون.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).