ترشح عن كل موسم لمعارض الكُتب أنباء عن حالات وظواهر تثير قلق بعض أرباب النشر وصُنّاع المحتوى، ومما يتناقله بعض المراقبين لمناسبات (خير جليس) توجّه بعض المؤلفين لشراء كامل نسخ مؤلفاتهم، ليدخل حلبة المنافسة على (الأكثر مبيعاً) فيما عبّر ناشرون عن أسفهم لمنافسة كتب الطيش والنزق لمطبوعات قائمة على الجودة والرزانة؛ ما دفع بعض الناشرين لاتخاذ قرار بترك المهنة، في ظل موجة التسليع المهددة لإنسانية الإنسان ولثقافته.
وهنا طرح لظاهرة لجوء بعض المؤلفين لشراء كامل نسخ كتابه المطبوع ليقال «نفدت النسخ»، فيرى القاص عمر طاهر زيلع، أن سبب ذلك؛ خلل داخلي يُغطى بطريقة مكشوفة، لافتاً إلى أن الناشر هو المستفيد، فيما عدّه الروائي علي المقري، سلوكاً دعائياً قائماً على الوهم؛ وهم الكتابة، ووهم النشر والانتشار. ويرى المقري أنه ربما يحقق لهؤلاء الكُتّاب عزاءً نفسياً، وفي هذا المستوى أظن أن من حقهم القيام بذلك وسط هذا الضجيج الذي لا يقيس حجمه أو شكله، وقال «نحن مع كُتّاب يعيشون في الوهم وبالوهم، ويكفي أنهم يعرفون ذلك». فيما ذهب الروائي زهران القاسمي إلى أنه نوع من التسويق البائس، ويؤكد الكاتب محمد صلاح الحربي أن الكتب كانت تجذب القارئ الجيد بجودتها الفكرية أو الأدبية، وبأسماء مبدعيها، وكان القارئ الجيد يسافر بعيداً من أجل كتاب، فيما غدت الكتب اليوم كما لو أنها تتوسل لقراءتها، تقول إني في المعرض الفلاني وفي الركن رقم كذا، وتغري بتوقيع خاص، ويجتمع حولها أصدقاء المؤلف وتلتقط الصور، وينتهي الأمر بهذا النوع من الاستعراض، ومن دون أن أعمم، بدءاً من التأليف ونهاية بالتوقيع، فلا تسأل عن فعل قراءة جادة توجد في مثل هذه الأجواء، ولفت الحربي إلى أنه في ظل تزايد الشكلية والتمظهر خصوصاً في معارض الكتب فلا بد أن توجد سلبيات وتصرفات لا تمت بصلة لجودة تأليف ولا جودة تفاعل، ومن ذلك شراء مؤلف نسخ كتابه ليقال إنه جيد وعليه إقبال، ما أدى لنفاده، ما يُضعف الثقة.
فيما قال الشاعر عبدالمجيد التركي: «الكتابة.. شرف لا يستحقه الأدعياء»، وأضاف: سمعت أحاديث قبل أعوام أن روائياً أرسل عدة أشخاص إلى دار النشر التي طبعت روايته، وكانت مشاركة بمعرض كتاب، لشراء كل النسخ، ولم أصدق أن مثل هذا يحدث، إذ كيف يقوم مؤلف بهذا الفعل الشنيع بحق نفسه وبحق روايته، وبحق قرائه.. ولو كان مؤلفاً أصيلاً لما خطرت على باله هذه الفكرة التي تجرده من حقيقته وأصالته، ناهيك عن أنه يخدع نفسه بوهم كونه كاتباً.
وتساءل: كيف يشتري كتبه بمال كثير ليوهم الناس أن كل النسخ نفدت؟ ويجيب: بينما هو يوهم نفسه أنه يروِّج للكتاب، فهو في حقيقة الأمر يخفي الكتاب عن القراء، لأنه يعرف أن مستواه في الكتابة مخجل، وهذا يجعله يتوارى من القراء، ويهرب من النقاد، لأن هذا الكاتب يعرف قدره جيداً، لذلك يقوم بهذه المغالطات التي تثقل كاهله وتؤلمه، وحين يسأله أحد عن كتابه يرد عليه بابتسامة مزيفة: لقد نفدت كل النسخ، لافتاً إلى أنه أصدر أربعة كتب، ويفرح حين تبقى كتبه بعد انتهاء معرض الكتاب، ولو صادفها معروضة يشتريها ليخرجها من رفوف الناشر ويوزعها مجاناً على الأدباء والنقاد، وليس لكي أقول إنها نفدت، فأنا أكتب ليقرأني الناس وليس لأشتري كل نسخ كتابي لأقول إنها نفدت، فمثل هذا الفعل لا يأتي إلا من كاتب دعيٍّ ومزيف، وغير سويّ، ولا يستحق أن يلتفت إليه أحد.
فيما يرى الناشر وفيق وهبي، أن بعض المؤلفين ينتشي بصدور (الطبعة الثانية) من كتابه، ما يدفعه لشراء نسخ من كتبه في المعارض؛ كونه غير واثق من كتابه. وقال القاص يحيى العلكمي: أظن هذا من النادر جداً، وربما يفعله الدخلاء على الكتابة والتأليف.
مجد حيدر: الأكثر مبيعاً هو الأكثر تفاهةً وتسطيحاً
عبّر الناشر مجد حيدر حيدر عن ضيقه ذرعاً بعالم النشر، وقال: سأتخلى عن هذه المهنة التي غرقت في خضمّ محيط من سلبيات لا قرار له، ولم يتردد في وصف بعض (الأكثر مبيعاً) بأنه ربما يكون الأكثر تفاهةً وتسطيحاً وتتفيهاً للعقل وللحياة؛ محذّراً من كتب تخدّر الوعي وتسطّح الرؤى، وتحيل الإنسان إلى أنماط وتشيؤ، وعزا الظواهر السلبية إلى غياب احترام الذات من المؤلف ومن الناشر ومن الفضاء العام الذي طغت عليه (السوشال ميديا) واجتاحه التسليع، فغدا سمة عصر يحتاج إلى استعادة قيمته وقيَمه البشرية، وأضاف: «أخشى تكريس الشاذ، لإماتة الخصوصيات الثقافية».