في الوقت الذي يتشبث بعضُ المثقفين، بقناعات وأفكار سابقة، يعمد آخرون إلى ارتداء وخلع الأقنعة، بحسب ظروف الزمان والمكان والإنسان، وبين اتهام متبادل بالخيانة، وبين مرونة تبيح وتتيح أن يلبس المثقف لكل حزة لبوسها طرحت «عكاظ» محور تبدّل مواقف المثقفين، وتغيّر مبادئهم، واستطلعت آراء تقرأ المشهد العربي، بموضوعية، إذ يتفهم القاص محمد المنصور الشقحا أنه في زمن التحولات الزمانية والمكانية يخلد المثقف (الأديب المبدع) لنفسه، ويعمل على مشروعه الخاص وفق حلم يلاحقه في كل مكان، ويتسارر معه في خلوته، وفي مجلسه ومقهاه، وحيداً كان أو في وجود الأصدقاء. ويرى أنه يمكن مواصلة المشوار ولو تم غلق طريق، كونه ستنفتح طرق وعبرها يستمر في حلمه، وإن أنهكته ظروف وصروف الزمان والمكان سيؤثر العزلة كي لا يتبدل الموقف، ويؤكد أنه متصالح مع الكل ويعرفه الجميع، وإذا شعر أن هناك شيئاً غير طبيعي زرع ابتسامة صغيرة على وجهه وانسحب.
وترى الناقدة الدكتورة مستورة العرابي أنه نادرًا ما يتخلى المثقف الحقيقي عن مبادئه المرتبطة بالهوية والدين والوطن والأخلاق، كونه دونها لا يكون إنساناً، ناهيك عن أن يكون إنساناً مثقفاً. وذهبت إلى أنه في الوقت ذاته ربما يتخلى عن بعض المواقف والأفكار والرؤى التي تبناها في زمن مضى، وظروف محددة وتبين له إثر ذلك ضعفها أو هشاشتها أو خطأها. وتوضح العرابي أنه لا ضير حينها في ذلك، فالمثقفون والمفكرون يمرون ببعض التحولات الفكرية والعلمية؛ نتيجة للمراجعات التي يقومون بها بمرور الزمن، واكتساب تجاربهم الحياتية ثراء ونضجاً. وعدّت من يغير مبادئه من المثقفين لأي سبب من الأسباب عُرضةً لفقدان الاحترام، إذ قلّ أن يحترم وقلّ أن تكون له شخصية وهوية واضحة، وربما ازدرى نفسه قبل أن يزدريه الآخرون، ويغدو إمعة، وتبعاً مهما تظاهر بغير ذلك. وأضافت: ولا يمكن للمكاسب -التي تنبني على تغيير مبادئه – أن تعوضه عما يفقده من مكانة واحترام وتقدير في مجتمعه. مشيرةً إلى أن الإنسان كائن متطور يرتقي دوماً بازدياد معارفه وثراء خبراته، وتتشكل بها أفكاره ورؤاه ومواقفه تجاه نفسه والناس والحياة باستمرار، إلا أنه يظل ملتزماً بمبادئه الأساسية، ويبقى دوماً وفيّاً لها محافظاً عليها.
فيما يذهب الكاتب عبدالواحد اليحيائي إلى تحرير المصطلح أولاً، فمن المثقف؟ وما المبدأ؟
ويُجيب: إن الشائع في تعريف المثقف أنه هو الآخذ من كل فن بطرف، إلا أن هذا التعريف قديم، كوننا اليوم في زمن التخصصات و(أطراف التخصصات)، وتبعاً لذلك فهناك المثقف إدارياً والمثقف أديباً، والمثقف اقتصادياً، والمثقف سياسياً والمثقف اجتماعياً، وغيرهم، وعدّ المبدأ الاعتقاد الصادق (الإيمان) بقيمة فكرة أو إنسان أو شيء. والسؤال هنا: هل يمكن أن يتخلى المثقف عما آمن به من مبادئ؟ الجواب: نعم، ذلك ممكن ولأسباب عدة، منها أن يكتشف المثقف أن المبدأ الذي آمن به بداية كان غير صحيح، أو صحيح ولكنه محتاج لبعض التعديل، أو صحيح لكن الزمان والمكان لا يلائمانه، فتغيير مبدئه هنا بسبب تطور إلى الأفضل، وإن تطور عرف واكتشف وفهم ما لم يكن يعرف مسبقاً. ويرى اليحيائي أن تخلي المثقف عن مبدأ ما لأنه استبدله بآخر أفضل منه عمل إيجابي. ويؤكد أن السلبية تتمثل في تخلّي المثقف عن مبدأ صحيح ليتبنى آخر خاطئاً، أو أقل صحة، علماً بأن معايير الصحة والخطأ للمبادئ تتفاوت بين مثقف وآخر، وإن آمنا بالثوابث والمتغيرات الخاصة بكل مجتمع إنساني. وبالتالي فحين نرى مثقفاً يغير مبادئه كما يغير ملابسه فلا يجب أن نتسرع بإطلاق الأحكام عليه كون إطلاق الحكم قبل التثبت وصاية لا تليق بمثقف واعٍ، بل عليه أن يفهم سبب تغيير الآخر مبدأه، ثم اتجاه التغيير بعد ذلك مع محاولة فهم بيئة التغيير ومسوغاته.
وترى التشكيلية اعتدال عطيوي أن بعضاً من المثقفين يتغيرون وأحياناً إلى النقيض تماماً، حد أن تغدو تحولاته نكتة سوداء في تاريخه، خصوصاً إذا دخل تحت عباءة الأيدولوجيات المختلفة (سياسية حزبية أو دينية)، وتبنى شعارات غير واقعية، تحت ذريعة المصلحة أو الوقع الاجتماعي، أو القهر. وأبدت تحفظها على تحوّل البعض إلى مهرج تحت قناع من المهادنة الضاحكة، أو الترقيع المشوّه لمواقفه السابقة، وترى الأمثلة والشواهد كثيرة وماثلة للعيان.
فيما عدّ الشاعر محمد صلاح الحربي المبدأ هو الإنسان، ويرى أن التغيَّر بشكل عام أمر طبيعي، وأحياناً صحي، وهو من طبيعة الإنسان والحياة، فلا ثابت وجامد إلا ما يفقد روحه وحياته، ويمنح الحربي المثقف حقّ أن يغيِّر ويتغيَّر، فيغيّر بعض أفكاره وبعض قناعاته تبعاً لزيادة وعي ومكتسبات معرفية وعلمية، ويذهب إلى أنه بالنسبة للمبادئ فلا بد أن نتفق أولاً على مفهومها القابل للاختلاف، إذ هناك مبادئ هي قِيَم عامة، وهناك ما يعتبره الشخص مبدأ في حين أنه فكرة أو قناعة خاصة يتشبث بها الإنسان من منطلق أيديولوجي أو تبعاً لعادات وتقاليد، وبالتالي لا تعتبر في المفهوم العام مبدأ إنسانياً مشتركاً، فقيمة وجود المثقف، باعتماده المشترك الضميري الخاص والالتزام الإنساني العام، مضيفاً أنه بإخلاله بالمبدأ يختل حق وواجب الفرد تجاه نفسه، وضميره أو إنسانيته أو تجاه مجتمعه أو وطنه، ومثل هذا التخلي يعني تخليه عن قيمة ومعنى، وعدّ الحربي الثقافة الحقيقية هي الإدراك لما تعنيه المبادئ والقيم الإنسانية المشتركة، مشيراً إلى أن التخلي عن مبدأ إنساني خيانة لقيم الثقافة ومشتركاتها الإنسانية.