بقدر ما تطبع دور النشر من كتب، وما توزّع من إصدارات، وما تقيم وزارات الثقافة من معارض كتب وندوات، يظل السؤال عن أثر الأدب على الشعب مطروحاً، خصوصاً في مواطن وظروف تشعر المتابع بهشاشة الوعي، وضعف الانتماء للقيم والمبادئ الوطنية والإنسانية ما يثير جدلاً حول أثر الإنتاج الأدبي على ثقافة وسلوك المجتمع؛ وهنا استقصاء لآراء كتاب من تخصصات عدة؛ فيذهب الناقد محمد الحرز إلى أنه لا يمكن الحديث عن ثنائية ضدية تدور حول من يتأثر بمن في مسألة غاية في التعقيد ألا وهي التأثير المتبادل بين المجتمعات وكتابها، أو هل هناك تأثر بالأساس بينهما؟
ويرى الحرز أن الصعوبة تكمن في الاطمئنان عندما نركز في تأثير طرف على آخر، فمثلاً حين نقول: هناك كتاب أثروا على شعوبهم، وهذه حقيقة تاريخية والشواهد كثيرة والعكس أيضاً متوفر منها شواهد تاريخية. إلا أن المسألة ليست هنا، بل هي في تتبع المواقع التي يحدث من خلالها تماس حقيقي في التأثير المتبادل بينهما.
وعدّ هذه المواقع؛ مجموعة من العوامل أبرزها الظروف الاجتماعية والثقافية والفكرية التي صنعت من الفرد كاتباً في المجتمع، لكون القيم التي تشرَّبها في فكره وروحه لن تخرج من سياق قيم مجتمعه، فإذا كان كاتباً متفرداً؛ سواء أكان مبدعاً أو مفكراً سوف يترك بصمته واضحة على تلك القيم أكان ذلك سلباً أو إيجاباً، والأهم هو أن هذه البصمة تحتاج في بروز آثارها سنوات حسب حاجة المجتمع إذا ما سعى إلى التغيير والحركة.
ويؤكد الأكاديمي الدكتور المنصف الوهايبي أن العلاقة بين ثقافتنا العربيّة وكتّابها ومبدعيها، تبدو علاقة ملتبسة أيّما التباس؛ حدّ أنك تستطيع أن تتحدّث أحياناً عن تاريخيْن: تاريخ الثقافة، وتاريخ هؤلاء الذين يفترض أنّهم بناتها الذين يتدبّرون بالكتابة والإبداع، إعادة بناء الثقافة وصياغة مفاصل التّاريخ وأحداثه؛ بما يجعل الثقافة سنداً يتّكئ عليه وجودنا، كي لا نتهاوى إلى مهاوي النّسيان والضّياع المطلقيْن. ولفت الوهايبي إلى أن هذا السّند ما لم يتعهّده الكتّاب بالمراجعة والتّدبّر والنّقد اطّراداً يصبح بدوره هشّاً، ويتفتّت في أيّة لحظة يتفاقم فيها حجم الجهل.
وأضاف الوهايبي: لو كان السّياق يسمح لتوسّعت أكثر في تفصيل العلاقة الملتبسة؛ إلا أنّ الملاحظات المختزلة التي أبديتها من شأنها أن تجعلنا نبحث في أوجه الانفصام بين ثقافتنا وكتّابها. وعليه، وبغضّ النّظر عن الحلول والصّيغ التّقنيّة التي من شأنها أن تسهم في نشر الثقافة وتعزيزها والإقبال على صناعتها وصنّاعها، مضيفاً بأنها موكولة إلى المختصّين وإلى السّياسيين الصّادقين حاملي المشاريع المجتمعيّة، كون هذا الرّهان لا يمكن أن يتحقّق ما لم نُعِد التّفكير في المواطنة ومواصفاتها على نحو يجعل من الثقافة، بما هي مصدر للمعرفة تتراشح فيها الآداب والفنون والعلوم، شرط إمكان لها وحقاً يتعيّن على الدّولة أن تتكفّل بضمانه؛ ما يستدعي طبعاً مراجعة جذريّة لمنظوماتنا التّربويّة والتّعليميّة ورؤانا الثّقافيّة ولمفهوم المواطنة.
ويرى مدير بيت الشعر في المغرب الدكتور مراد القادري أن الأدب ينهضُ بِأدوار عدة؛ من بينها دورُه في تغْيير نظرةِ الفردِ لذاتِه، وترتيبِ علاقةٍ جديدة له مع الآخر، ومع الكوْن والمُجتمع. وقال: لطالما أسْعفتنا الأعمال الأدبية للاقتراب من أنْفسنا ودواخِلنا، وجعَلَتنا نفهمُها بشكلٍ أفضل، كما أعانتنا على تمثّلِ التجارب الإنسانية، واستلهامِ خلاصاتِها الحياتية والمعيشية في تدْبير حالِنا وأحْوالنا، فكانت لنا مُعينًا على ارتِيادِ الآفاق والمَسالك، وتوْجيهِنا حيث يجِبُ أنْ نَمشي ونسير. وعدّ القادري أثَر رواية عظيمة، أو بيتٍ شعريٍّ كثيف، ومُشاهدة فيلم سينمائي أو عرض مسرحي كافياً لإعادةِ النّظر في خُطَط الحَاضر والمستقبل، وتنْبيهنا لما يتعيّن تجنّبه، أو ما يجبُ القيام به. وأضاف: ومع ذلك يجب أنْ نعِي أنَّ تأثيرَ الأدبِ وسَريان مُتُونِه المُختلفة في شرايِين الشعوب وثقافاتها يتجاوزُ ما هو اجتماعي أو سياسي، ليبلغ ما هُو أعمق، وذلك في اللحظة التي ينجحُ فيها الأدب في بناء حساسيات جمالية وفنية جديدة، وتشكيلِ أفقٍ جديد قادر على مدِّ الجسور مع حياة الناس دون التفريط في المقتضيات الفنية والجمالية التي تظل عصب الأدب.
ويرى رئيس بيت الشعر في القاهرة الشاعر سامح محجوب أن الشعوب هي المادة الخام لصناعة الأدب، وهي صاحبة براءة إنتاجه ووجوده وحضوره في ما بعد على أيدي نخبتها من الكُتَّاب، وعدّ الشعوب مانحة صك مرور الكاتب لضميرها ومخيلتها؛ باعتباره متحدثاً رسمياً بالمسكوت عنه في وجدانها وعقلها الباطن، مشيراً إلى تقديرها لموهبته في خلق عالمٍ موازٍ بصياغات خاصة ترفع عن كاهل المجتمعات سلطة مواجهة الحقيقة بشكل عارٍ ومباشر. وذهب إلى أنه من هنا يمكن تحديد العلاقة التبادلية بين الشعوب وكُتّابها أو الأدب والمجتمع في امتلاك سلطتي التأثير والتأثر بما ينتج من آداب وفنون. وأضاف محجوب: ليس بإمكان أي راصد مهما أوتي من معرفة وسعة إطلاع أن يسوق أمثلة لهذا الكم الهائل والثري من الآداب والفنون التي غيرت وجهة بوصلة التاريخ الشعبي نحو مفاهيم جديدة وطليعية لإنتاج آفاق مستقبلية جديدة، لافتاً إلى أن العلوم التجريبية جميعها مدينة للمخيلة الأدبية التي مهدت بتأملها الحاد لكل ما اخترعه وطوره الإنسان ليدخل به أطوار الحضارة المتعاقبة، إذ ألهمت حكاية بساط الريح إحدى الروايات العجائبية لألف ليلة وليلة (الكتاب الأكثر تأثيرًا في كل آداب وشعوب العالم إلى اللحظة الراهنة) ومن فكروا في اجتراح الفضاء بالطائرات! وتساءل: ألم يكن أدب فولتير مقدمة حمولة روحية وثقافية للثورة الفرنسية التي دخل بها العالم عصره الحديث! ألم تكن كتابات ديستوفسكي الملهم الوحيد والأكبر لنظريات فرويد في الذات والغرائز حسب اعترافه هو شخصيًا بأن الأدباء هم معلموه الحقيقيون! ألم تكن روايات نجيب المانفيستو الأكثر وضوحاً وتعبيراً لمراحل شديدة الحساسية في مسيرة المجتمع المصري، وأضاف: الأمثلة أكبر وأكثر من أن تحصى، وشفرة الأدب الحادة تزداد حدة لتواجه ما يطرحه عليها المجتمع من خيال متقدم بوتيرة سريعة ومتلاحقة لا بد للأدب من التقدم عليها بخطوات كبيرة لتعبيد الطرق بأطروحات جمالية كانت وستظل الملجأ الأخير والوحيد للوقوف بشكل آمن على دوافع ومنطلقات الذات الإنسانية.
فيما عدّ أستاذ فلسفة الأخلاق سرجون كرم سياسة الحكومات وقناعات المجتمعات انعكاسا حتميّاً لرؤية ناشئة عن التأثير والتأثير المعاكس بين السياسة والثقافة. ويرى أن الثقافة أسلوب حياة ونظرة إلى العالم. من منظور أخلاقيّ وكلّما كانت الثقافة مستقبليّة في رؤيتها، كلّما كانت حيّة، والثقافة لها دورها الحضاري في تصحيح وعي الشعوب وإدراك مصالحها.
فيما أوضح الشاعر ماجد أبو غوش أن ثقافة الشعوب تتأثر بأدب كتابها، اعتماداً على المنظومة التي تحكم الشعوب، وتقدم لها أدباً، مسرحاً، سينما، أغنيةً، مناهج تعليمية، إلى آخره، وعدّ هذه المنظومة إما إيجابية تعزز الوعي، وإما سلبية تغيّب الوعي، وثمّن الأدب الملتزم، الذي يحاكي تطلعات وأحلام الشعوب في الحرية والاستقلال والتقدم.