أثار كتاب أصدره أخيراً الخبير السعودي في شؤون النفط إبراهيم المهنا، اهتماماً واسع النطاق، خصوصاً في الغرب، إذ يمثل النفط عصب الاقتصاد العالمي، وتعدّ السعودية أكبر مُصدِّر للنفط في العالم، منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، وعلى رغم أن بوسع روسيا والولايات المتحدة إنتاج كميات أكبر، إلا أنهما تستهلكان ما تنتجانه، في حين تقوم السعودية بتصدير معظم ما تنتجه.
ويعدّ كتاب المهنا؛ الذي صدر عن سلسلة سياسات الطاقة العالمية، وطبعته جامعة كولومبيا بعنوان: «قادة النفط: وصف من الداخل لأربعة عقود من النفط في السعودية وسياسة الطاقة العالمية لأوبك»؛ مادة دسمة بالنسبة إلى خبراء شؤون النفط الساعين إلى اكتشاف خيوط السياسة النفطية السعودية.
وشغل المهنا منصباً رفيعاً في وزارة النفط والثروة المعدنية (سابقاً) خلال الفترة من 1989 إلى 2017، ويمثّل الكتاب المذكرات الخاصة بمؤلفه خلال عمله في الوزارة، كما يعتبر دراسة جيدة للسياسة النفطية السعودية، وتاريخ منظمة أوبك منذ ثمانينات القرن العشرين.
وتدور مذكرات المهنا بوجه عام حول ست أزمات نفطية، خصوصاً أزمة عام 1990، حين أقدم صدام حسين على غزو الكويت واحتلالها، ما أثار مخاوف كبيرة من احتمال وقوع نقص خطير في إمدادات النفط. وبادرت السعودية لزيادة إنتاجها من النفط؛ ما حال دون تحقق الأزمة، وكذلك أزمة سنة 2008، حين ارتفع استهلاك النفط، ما أدى إلى زيادة كبيرة في سعر السلعة الإستراتيجية الحيوية، ووقعت الأزمات الأربع الأخرى في أعوام 1985، و1997، و2014، و2020. وكانت تلك الأزمات ناجمة عن هبوط أسعار النفط، وليس ارتفاعها.
وأهم النقاط التي يمكن أن يخرج بها القارئ لكتاب المهنا أن من الخير للجميع أن تكون أسعار النفط معتدلة، ويمكن التكهن بتحركها صعوداً وهبوطاً، ويرى المهنا أن المشكلة الحقيقية تكمن في «الهشاشة»: أن تكون الأسعار مرتفعة، ولا تكون منخفضة، ويشير المؤلف إلى حادثتين حاول خلالها كبار مستهلكي النفط أن يضعوا حداً لسعر النفط لا يتجاوزه، ففي عام 2008 اقترحت الحكومة البريطانية ألا يتجاوز سعر النفط من 60 إلى 90 دولاراً البرميل، غير أن الاقتراح انهار سريعاً؛ إذ بقيت الأسعار فوق 90 دولاراً للبرميل على المدى القصير، قبل أن تهبط لاحقاً إلى ما دون 60 دولاراً للبرميل.
وفي عام 2020 أدى انهيار الطلب على النفط، إثر اندلاع نازلة فايروس كورونا الجديد، إلى انخفاض أسعار النفط، إلى درجة هددت بعض شركات النفط الأمريكية بالإفلاس، واضطر ذلك الرئيس الأمريكي -آنذاك- دونالد ترمب إلى التدخل، إذ إنه وعلى النقيض من الدور الأمريكي المعتاد، ساعدت إدارته في إقناع منظمة (أوبك) بخفض إنتاجها، بهدف تعزيز أسعار النفط، وعلى رغم أن ارتفاع أسعار النفط يعد مصلحة مباشرة للمملكة؛ فإن المهنا يتمسك بأن السعودية في الغالب تتخذ قراراتها في هذا الشأن من خلال وجهة نظر بعيدة المدى، فهي تدرك أن ارتفاع سعر النفط فوق مستوى بعينه يضر بالاقتصاد العالمي، وبالأوضاع الاقتصادية للشركاء التجاريين، وينبئنا المؤلف أن للمملكة أحياناً حوافز سياسية يمكن أن تحققها من وراء خفض الأسعار.
ويشير المهنا إلى أن السعودية تتخطى مسألة العائدات النفطية التي يمكنها تحقيقها على المدى القصير، وأن المملكة تحرص على ضرورة استقرار أسواق النفط، وعلى الحفاظ على علاقات طيبة بين كبار منتجي النفط ومستهلكيه على حد سواء.
ويفرد المهنا فصولاً في كتابه لثلاثة من وزراء النفط السعوديين الذين بقوا في مناصبهم سنوات عدة، وهم الدكتور أحمد زكي يماني (1962-1986)، وهشام محيي الدين ناظر (1986-1995)، وعلي النعيمي (1995-2016). وتحدث المؤلف بإسهاب عن هشام ناظر والنعيمي لأنه عمل معهما، واستند في حديثه عن الدكتور أحمد زكي يماني إلى استنطاق مسؤولي الوزارة الذين عملوا فيها خلال فترة تولي يماني منصبه، ويطلق المهنا حكمه على كل من ثلاثتهم، ولا يخلو ذلك من توجيه بعض الملاحظات.
وخلف الدكتور هشام محيي الدين ناظر الدكتور يماني وزيراً للبترول والثروة المعدنية، وقام ناظر بإحداث تغييرات كان لا بد منها في وزارة البترول والثروة المعدنية، لكن المهنا يشير بوجه الخصوص إلى أن هشام ناظر ركّز على جلب مواهب جديدة لفريق موظفي الوزارة، في حين أن المهنا يرى أنه كان ينبغي له أن يركز على إحداث إصلاح إداري أكثر شمولاً.
جاء النعيمي وزيراً خلفاً لهشام ناظر، إذ شق طريقه من بداية السلم الوظيفي في شركة أرامكو، قبل تأميمها وبقي النعيمي على رأس وزارة البترول والثروة المعدنية أكثر من عقدين، ويتمسك المهنا، في كتابه، ويشير إلى أنه على رغم كثرة محاسن النعيمي كوزير؛ فإنه يتسم أحياناً بالعناد، وعدم المرونة، فقد رفض تغيير سياسته النفطية بعدما أحدث إنتاج النفط الصخري الأمريكي تخمة في أسواق النفط، أدت إلى هبوط أسعار النفط خلال الفترة من 2014 إلى 2016.
وحل محل النعيمي خالد الفالح، وتمت تسمية الوزارة وزارة الطاقة، ورأى المهنا أن مشكلة الفالح تتمثل في أنه أفرط في وعوده، وكان يعتمد بشكل أكثر مما يلزم على المستشارين الأجانب.
ويرى المهنا أن السعودية دولة مهمة في أوبك. وخلص إلى أن السعودية ظلت تتحمل وحدها فترة طويلة أعباء خفض الإنتاج الذي تقرره أوبك، وأنها بحاجة إلى استعادة حصتها السوقية. كما أن الوزير النعيمي كان يرفض أيضاً فرض قيود على إنتاج النفط السعودي خلال 1997-1998.
ويشير المهنا إلى أن التخمة النفطية التي حدثت خلال الفترة 2014-2016 شكلت تحدياً كبيراً، لأن إنتاج النفط الصخري الأمريكي أضاف إمدادات كبيرة للعرض النفطي. وخلص صنّاع السياسة النفطية السعوديون إلى أن منظمة أوبك لم تعد قادرة وحدها على التحكم في السوق النفطية. وكان لزاماً عليهم أن يتواصلوا مع المنتجين الآخرين خارج المنظمة، خصوصاً روسيا، ولم يكن الأمر سهلاً في البداية، فقد أكد نائب وزير النفط والثروة المعدنية -آنذاك- الأمير عبد العزيز بن سلمان، عند لقائه بوزير النفط الروسي الإكسندر نوفاك، أن السعودية ليست طرفاً في مؤامرة مع الولايات المتحدة لإضعاف روسيا، من خلال الضغط على أسعار النفط باتجاه تنازلي، وكان كاتب العمود في صحيفة «نيويورك تايمز» توماس فريدمان وآخرون زعموا أن انخفاض أسعار النفط -آنذاك- كان مسعى سعودياً أمريكياً لمعاقبة روسيا على إقدامها على غزو جزيرة القرم والمناطق الشرقية من أوكرانيا. غير أن السعودية ورسيا تمكنتا بمرور الزمن من تجاوز الشكوك، وأقاما علاقة قوية أضحت الأساس لتحالف ما يعرف بـ«أوبك بلس»، الذي تم إعلانه رسمياً في عام 2019. وخلص المهنا إلى أن المملكة وروسيا هما قائدتا «أوبك بلس» حالياً.
ويشير المهنا إلى أن وزارة الطاقة تمثل المملكة في المؤتمرات الدولية المتعلقة بالتغير المناخي. وأوضح أن الوزارة كلفت بمسؤولية الترويج لبيئة نظيفة، ومعالجة قضايا التغير المناخي. وأضاف المهنا أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ظل يولي قضية المناخ اهتماماً خاصاً. وأضاف أن السعودية تريد أن يأتي 50% من طاقتها الكهربائية من مصادر متجددة بحلول عام 2023، ولعل تغيير مسمى الوزارة من البترول والثروة المعدنية إلى الطاقة ينم عن التشديد على تلك القضية، ويتمسك المهنا بأنه على رغم الحاجة إلى نوع ما من أنواع الانتقال في مسألة الطاقة؛ إلا أن ذلك لا يعني الموافقة على تحول سريع عن الطاقة الأحفورية.
يماني يعتمد على «دائرة ضيقة»
يصف المهنا الدكتور أحمد زكي يماني بأنه رجل دقيق، لكنه يقول إنه لم يحصل على أي تدريب حقيقي في الشؤون
الاقتصادية. وأنه كان يعتمد كلياً على دائرة ضيقة ممن يثق بهم. وعلى النقيض مما كتبه جيفري روبنسون في ترجمته للدكتور أحمد زكي يماني، التي صدرت سنة 1988، تحت عنوان «يماني.. الحكاية من الداخل»؛ وقلل يماني من شأن إنتاج النفط من جانب دول ليست عضواً في منظمة أوبك، في أماكن منها بحر الشمال. وكان يبدو أنه واثق من أن سوق النفط ستتحول بالكامل إلى الوجهة التي يريدها. ولذلك عمد يماني إلى خفض كمية كبيرة من الإنتاج النفطي خلال الفترة من مطلع ثمانينات القرن الـ 20 إلى منتصفها. وقرر فجأة خلال 1985-1986 زيادة الإنتاج، ما أدى إلى انهيار أسعار النفط!
المشكلة الحقيقية لمنظمة أوبك
يقدم كتاب المهنا صورة جيدة الوضوح لديناميكية العمل في منظمة أوبك، ويرى أن مشكلة أوبك
تتمثل في أنها لا توجد فيها سلطة قادرة على إلزام دولها الأعضاء بالقرارات التي يتم الاتفاق عليها. وهي مشكلة حقيقية
حين يتعلق الأمر بالأوقات التي تحدث فيها فائض في الإنتاج النفطي. وفي هذه الحال يجب أن تقوم المنظمة بإقناع دولها الأعضاء بخفض إنتاجهم، والتخلي عن بعض عائداتها النفطية. ويذكر المهنا حالات قام فيها أعضاء بارزون في المنظمة بازدراء قرار المنظمة بشأن تحديد حصص إنتاج كل دولة، وأعلنوا عزمهم على إنتاج أكبر كمية يمكن أن تتحملها السوق.