تُعيدُ معارض الكتب إلى الواجهة ظاهرة التأليف بأسماء مستعارة، وحالات نسبة كتب وقصائد لغير مؤلفيها، بمبررات أو أسباب منها؛ مخافة الفشل، أو للهروب من البطش، أو خشية من ردّات فعل المجتمع الساخط، ولعلّ الأديبة «مي زيادة» أشهر من كتب بأسماء مستعارة، منها «عائدة» و«إيزيس كوبيا» والدكتورة عائشة عبدالرحمن، وقّعت مقالاتها وكتبها بلقب «بنت الشاطئ» لرفض أسرتها المحافظة ظهور اسمها في الصحف، والكاتبة السورية «مقبولة الشلق» نشرت باسم «فتاة قاسيون» ولا يغيب اسم «مهدي عامل» الذي هو المفكر اللبناني «حسن عبدالله حمدان» ورغم التستر خلف الاسم المستعار إلا أنه جرى اغتياله عام 1987 في بيروت وهو في طريقه إلى الجامعة اللبنانية التي كان فيها أستاذ الفلسفة والسياسة والمنهجيات، والمستشار محمد سعيد طيّب نشر كتابه «مثقفون وأمير» باسم ياسر محمد سعيد، ولا يزال لقب «ابن قرناس» يثير فضول القراء، ومحاولة معرفة صاحب «الشرعة والمنهاج» و«سُنة الأولين»، ولعل الشاعر البرتغالي «فرناندو بيسوا» أشهر الاستعاريين إذ كتب بأكثر من 70 اسماً، والكاتبة «أجاثا كريستي» قدمت أعمالها باسم «ماري ويستماكوت»، وكاتبة هاري بوتر الكاتبة «جي كي رولينغ» كتبت باسم «روبرت جالبريث»؛ ليمكنها رصد ردود فعل القراء ومدى رضاهم عن كتابتها، وهنا نطرح محاور على نخبة من الكتاب والناشرين، ونسأل: ماذا تعرف عن كتب نسبت لغير مؤلفيها؟ وهل تدقق عند القراءة في سيرة الكاتب؟ وماذا تعني الكتابة باسم مستعار؟ وما سببها؟
الناشر السعودي محمد ربيع الغامدي يرى أنه يعرف كتباً نُسِبت لغير أصحابها، بحسب المتداول، منها كتاب «درر الحكم» الذي نُسِب إلى الثعالبي، صاحب يتيمة الدهر وفقه اللغة، ولاحظ طلابه ودارسو تراثه اختلافاً واضحاً في منهج كتاب الدرر الذي ظهر أقل بكثير من مستوى منهج الثعالبي في سائر كتبه، ومن هنا بدأ الشك، ليؤكد أحد الباحثين أنه عثر على مخطوطة لكتاب الدرر في دار الكتب المصرية تحت اسم «ياقوت المستعصمي» وأضاف «ابن ربيع» كذلك كتاب «إعراب القرآن» نسبوه للزجّاج وجاء من أثبته للباقولي، وتفسير مجاهد نُسِب إلى التابعي مجاهد المخزومي ثم ظهر أنه لابن أبي إياس الذي جاء متأخراً عن مجاهد بقرن من الزمان. وكتاب حدائق الأنوار «في السيرة النبوية» جاء مطبوعاً تحت اسم ابن الديبع ثم عندما اكتشفوا مؤلفه الحقيقي أعادوا طباعته تحت اسم بحرق اليمني. وطرأ شك في نسبة كتاب «مسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله» بسبب اختلافات طفيفة بين النسخ في عدد تلك المسائل، والبعض برر بأن الاختلاف هو من شرّاح الكتاب ولا ينفي صحة نسبة الكتاب للشيخ محمد بن عبدالوهاب، وعدّ، أغلب تلك الحالات أخطاء ناشرين اعتمدوا على محققين أقل تأهيلاً طمعاً في مكاسب أوسع، ويؤكد أنه في أزماننا هذه ربما تُسرق الأفكار وتتغير العناوين كون توثيق المنشورات الآن أفضل من ذي قبل، لافتاً إلى أنه ارتكب خطأ في نسبة مسرحية «علي جناح التبريزي» لزكي طليمات، وهي في الحقيقة لـ«الفريد فرج» رغم أنه اشتغل على المسرحية، وأعاد كتابتها باللهجة المحلية في الباحة إلا أنه النسيان، وثمن «ابن ربيع» دور مكتبة الملك فهد الوطنية التي تقود أعظم مسيرة في حفظ حقوق المؤلف وليت تجربتها العظيمة تعمم على جهات الوطن العربي كافة.
فيما روى الكاتب عادل الحوشان أطرف حكايات عن كتب منشورة بأسماء مستعارة، مستعيداً ما قاله «ستيفن كنغ» الذي أصدر خمس روايات باسم مستعار «ريتشارد باكمان»، واكتشف ذلك بائع في مكتبة بنيويورك، واضطر كنغ للإعلان عن وفاة باكمان بسرطان الاسم المستعار، مغلّباً أن للغرب أسبابه التي غالباً تكون بدافع التجربة لا أكثر، وقياس النجاحات الممكنة عقب كتب ناجحة، هذا ما يقال هناك.
مشيراً إلى أن أغلب الكتب التي كتبت بأسماء مستعارة كانت للاختباء من عين التطرف في أحد أسبابها الجوهرية، وبالذات ما يتطرق لمواضيع تمثل في جوهرها اختراقاً للمقدس أو كشفاً المسكوت عنه أو البحث فيه. وعدّ الحوشان هذه الحالات رغم ندرتها إلا أنها حدثت في تجارب مختلفة سواء في جنس الرواية أدباً أو الأديان وتاريخها وتفسير حوادثها وقراءة تناقضات مدونيها ورواتها ومفسريها. ويرى أنه رغم التلاشي إلا أننا لم نختبر بعد ما وراء كل هذه الأسماء محلياً أو عربياً، ورجّح أنه لم يكتب كاتب في الأعوام الأخيرة باسم مستعار في موضوع جاد وشاق، ولم يستبعد كتباً صدرت دون أسماء وهذا حدث، أو كتب بأسماء لم تثر اهتماماً لدى القارئ تستدعي محاولة البحث والكشف كما حدث مع كتب «ابن قرناس». وربما ماتت كتب وأسماء بسرطان شره استسهال التأليف.
وتؤكد الناقدة الدكتورة رائدة العامري أن الظاهرة قديمة، وانتشرت في ثقافات ومجالات عدة في عالم الأدب، ما يثير الجدل حول صناعة الكتب، وأثرها الاجتماعي والاقتصادي، وانعكاسه على الساحة الأدبية والثقافية، كون نشر الكتب بشكل مجهول ودون الكشف عن هوية الكاتب يخل بمبدأ الشفافية، ويضيّع الحقوق الأدبية والمادية. وترى صعوبة التوجه نحو إثبات النسبة الفعلية للكتب للمؤلفين الحقيقيين، وطالبت بميثاق شرف نشر وإستراتيجية لصناعة الكتاب؛ لتفادي الغش والتزوير، فيما رجّحت رغبة مؤلفين بالبقاء في الظل إلى أن يطمئن أن كتبه لاقت قبولاً، ويؤثرون التركيز على العمل والكتابة باعتبارها وسيلة للتعبير عن آرائهم، دون كشف عن هوية المؤلف، وتطلع البعض لتسليط الضوء على الفكرة أو الموضوع نفسه، وليس على الشخصية التي كتبت.
وترى أن بعض القراء المهتمين بالكتب النوعية يشعرون بالإثارة والتشويق، لمقابلة الكاتب، فيواجهون تحديات في التواصل مع المؤلفين الذين ينشرون بأسماء مستعارة أو بأسماء وهمية.
شغف الشهرة دفع البعض لانتحال مؤلفات الآخرين
فيما يذهب الشاعر الإعلامي خالد الإنشاصي إلى أن كتب «تفسير الأحلام» ليس لابن سيرين، و«نهج البلاغة» نُسب للإمام علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» الذي يقول عنه الإمام الذهبي في كتابه «ميزان الاعتدال»: من طالع كتاب «نهج البلاغة»، جزم بأنه مكذوبٌ على أمير المؤمنين، و«التبيان في شرح ديوان المتنبي»، والمشهور بـ«شرح العكبري»: يقول المحقق مصطفى جواد: إن هذا الكتاب طبع مراراً منسوباً للعكبري، ولا تصح نسبته له، ذلك أنَّ الشارح ذكر أحداثاً تاريخيةً وقعت بعد وفاة العكبري، وعدّ هذه المؤلفات وغيرها من أشهر الكتب التي أثبت المحققون أنها منسوبة خطأً لغير أصحابها.
وعزا الانشاصي أسباب ذلك إلى خطأ بعض المحققين من ناحية، وإلى شغف بعض المؤلفين، بالشهرة، ونوال الثناء والتقدير، ما دفعهم لانتحال مؤلفات الآخرين ونسبوها لأنفسهم، إضافة إلى أن عدداً من النُّسّاخ غير الأمناء، بدافع الرغبة في جمع المال، استنسخوا نصوصاً مغمورة، ونسبوها إلى المشاهير من المؤلفين، ليجدوا من يشتريها منهم، وأوضح أن بعض المحققين أرجع نسبة كتب لغير مؤلفيها أو الانتحال إلى المزاحُ والتنكيتُ: إذ يكونُ الهدفُ مِن التزوير أو التزييف إثباتَ مهارة المزوِّر ومقدرته على الإتيان بمثل النص المُزوَّر، وإلى التراخي والكسل الذهني، لافتاً إلى لجوء بعض الأكاديميين -مع الأسف الشديد- إلى تضمين كتبهم الجامعية فقراتٍ وفصولاً وأبواباً لتدريسها طلابَهم، دون الإشارة إلى المؤلف الأصلي أو المصدر الذي أخذوا منه هذه الفقرات والفصول والأبواب، ومن ثم نَسْبها إلى أنفسهم. بل وصل الأمر إلى أن أحد الأكاديميين سطا على كتاب أحد أساتذته كاملاً، عقب أن أعاد طباعة الغلاف متضمناً اسمه هو، بينما المتن كله ليس له، في فضيحة علمية كادت تنهي حياة هذا المنتحل أكاديميّاً، لولا أن أستاذه قَبِل في النهاية بوساطة البعض، شريطة أن يعيد الأكاديمي «السارق» إلى أستاذه «المسروق» كل الأموال التي حصل عليها من بيع الكتاب إلى طلابه، وأن يتعهد كتابياً بعدم تكرار ذلك، وهو ما حدث بالفعل.
وعدّ من آثار ذلك، انعدام الثقة في المؤلِّف أو «السارق» فور انكشافه، والتشكيك الدائم في كل ما ينتجه من فكر مستقبلاً، واستبعاده كمصدر من مصادر البحث العلمي والأكاديمي، وانهيار القيم والمثل العليا في نفوس الطلاب الذين تتلمذوا على يدي مثل هذه النماذج، وهذه الجريمة فضلاً عن كونها انتهاكاً لحقوق النشر والتأليف تستوجب الملاحقة القضائية؛ لأنها في الأساس جريمة أخلاقية.