كم كان الأسى خانقًا والمشهد موجعًا مفجعًا في النظرة الأخيرة وهي مسجاةٌ في كفنها.. وكم كان الحزن في أقصاه وأنا أضع قبلة طويلة مرتجفة أعلم أنها الأخيرة على جبين «قُبلة»..
تركَتني للشقا وحدي هنا
واستراحت وحدها بين التراب
أين مني ظلها الحاني وقد
ذهبت عني إلى غير إياب (1)
رحمكِ الله يا أمي..
رحمكِ الله وغفر لك.. كم هو فقدك موجع.. وكم هو فراقك مؤلم..
رحلتِ ولم تودعيني كعادتك منذ أن عرفتك.. لم تلوحي لي بيديك مثل كل مرة.. لم تلفّي ذراعيك الحانية عليّ مثل كل مرة..
رحلتِ يا أمي الحبيبة.. ولن يجمعنا بك شهر رمضان الذي كنت تنتظرينه بشوق العابدين المتقين في كل عام!
سفرتك الرمضانية.. سجادتك.. شرشف الصلاة.. دعواتك التي تحفنا.. عطرك.. العودة التي تحبين وبخورك.. نظراتك التي يملؤها الحمد والسعادة وأنتِ ترين أبناءك وأبناءهم وبناتهم يتحلقون حولك وكل من في البيت يحيط بك.. تأنسين بهم ويأنسون بوجودك معهم وبينهم..
هداياك.. وعيديات «جَدّة قُبلة» التي ينتظرها الصغار والكبار صباح كل عيد لن تأتي للأبد.. رحلت معك لمّة الأبناء والبنات والأحفاد حولك في كل عيد.. وكم هو مؤلم ومهول أنها لن تعود.. لن تعود.. للأبد!!
أين التي ملكتْ قلوبَ الناس
أين التي دخلت قلوب الناس
أفواجًا بلا استئذان
أين التي رسمت لهذا الكون
صورته في أجمل الألوان
من يوم أن رحلت وصورتها على الجدران
تبدو أمامي حيث تشتد الهموم وتعصف الأحزان
أو كلما هلت صلاة الفجر في رمضان (2)
منزلك في جدة يفتقدك.. الاستراحة في أعلى الجبل بحي السامر بكل حكاياتها وذكرياتها وضيوفها تبكيك يا أمي..
منزلك في مسقط رأسك «عفراء».. ومسجدك أنتِ ووالدي سيفتقد «أم عايض».. وسيطول انتظار ضيوفك وأهلك وناسك وزوارك لغائب مضى ولن يعود!
اليتامى والمساكين وذوو الحاجات الذين كانوا ينتظرون «أم عايض» صيف كل عام في «عفراء» سيفتقدون تلك اليد الحانية الممدودة بالخير والعطاء..
فناء الدار والمزرعة.. العنب والريحان والبِرك وجلستك بعد كل مغرب في تلك الشرفة.. الأشجار التي كنتِ تتفقدينها وتسقينها كل صباح.. كلها تبكيك وتفتقدك يا أمي..
هتّان السعد وغيمة الخير وسحابة العطاء رحلت وودعت كل الأماكن..
كل الذي في الكون يحمل سرَّها
وكأنها قبس من الرحمن
العين إن غفلت قليلًا لا ترى
لكن من سكن الجوانح لا يغيب
يبدو أمامي وجهُ أمي كلما
اشتدت رياح الحزن في القلب الحزين
صارت مع الأيام طيفًا
لا يغيب ولا يبين (3)
قلبك الطيب يا أمي الذي لا يعرف إلا المحبة والوفاء.. توقف عن النبض يا صاحبة الضمير الحي.. يا طاهرة القلب كريمة اليد عفة اللسان..
رحمك الله يا أم الشيمة والوفاء والنبل وأم الجود والكرم.. رحمك الله يا صاحبة القلب الحنون والعطف واللين والسماحة..
سامحيني يا أمي.. فكم كنت أكذب عليك عندما تبادرين بالسؤال عن معتز.. حتى في آخر أيامك وعلى سريرك في المستشفى.. والمرض يُحكم قبضته عليك كان سؤالك الدائم: بشرني كيف معتز؟ كنت أقول لك هو طيب لأطمئن قلبك المنفطر عليه.. والحقيقة لا هو طيّب ولا أنا ولا أنتِ يا أمي..
كنتِ تخافين من الفقد والموت.. ليس حبًا في الحياة.. وإنما تشبثًا وتعلقًا بنا نحن أبنائك.. ولست أنسى ما حييت دعاءك الدائم «خلّوكم جنبي الله لا يفجعني فيكم».. وقد استجاب الله سبحانه وكان لك يا أمي ما دعوتِ.. رحلتِ دون أن تُفجعي فينا.. نحن الذين فُجعنا فيك.. ويا له من فقد ويا لها من فجيعة!
فقد ذقنا من بعدك مرارة الفقد ولوعة الموت..
رحمك الله يا أغلى من فقدت..
اللهّم اجعل جنة الفردوس مثواك اللهّم واجعل صبرك على ما أصابك من مرض أجرًا وتطهيرًا.. اللهّم واجبر قلوبنا على فراقك واجمعنا بك ووالدي وبأحبابنا في جنة الخلد..
جزاك الله يا أمي الحبيبة وجزى والدي الغالي عنا جميعًا خير الجزاء.. فكم تحملتم من الفقر والمرض والتعب ومصاعب الحياة لأجلنا.. اللهم واجعل ملتقانا يوم ينادي المنادي «ادخلوها بسلام آمنين».
ـ خاتمة..
ما أصدق وأعمق هذه المقولة:
«نحن لا نموت دفعة واحدة.. إن فارَقَنَا حبيب مات جزء منا.. إن غادَرَنَا صديق مات جزء ثانٍ.. إن قُتل حلم مات جزء آخر.. ثم يأتي الموت ليحمل بقية الأجزاء».
رحماك يا الله..
الرياض 15 مارس
……………………..
ـ (1) عبدالله البردوني.
ـ (2)، (3) فاروق جويدة.