لا يبدو أنه ثمة ما يستطيع أن يمنح جوهرنا تماسكاً يبقي عليه فاعلاً وخلاقاً ويورثه ثباتاً على غرار ما يفعله الإمساك بكتاب وتقليب صفحاته واستشعار ملمسها وتتبع الجمل وتدوين الملاحظات في الحيز الفقير بين السطور وتظليل النصوص التي تثير فضولنا وإعجابنا.
فالقراءة تنطوي على مزيج من الإغناء والدهشة يتجلى سخاؤهما من خلال الأعمال التي كتبت بهدوء وصدق حميمين وأحيلت بمهارة إلى خفوتنا المرتعش لتكسيه سكينة وطمأنينة وتقتفي أثر نتوءاته فتملأها ضياءً وبريقاً.
وتفترض ديمومة ذلك الأثر البليغ استمرار القارئ في عملية البناء المعرفي على نحو رصين ومتقن وبجهد متأنٍ يمنح حدسه سُبلاً متنوعةً لأن يكون فاعلاً وقادراً على خوض تجارب فرضية تحاكي واقعاً متوعداً واجتراح مساءلة نقدية ودربة عقلية تخلقان حساً سليماً يتلمس مثالية الحلول.
بيد أن ما يبدو أنه يسهم على نحو بليغ في صياغة القارئ ليس سوى أحد الامتيازات المتاحة له والتي تفوق في فضائلها الإغناء المعرفي والإثراء الأدبي إلى ازدهار فكري يورثه القدرة على التحليل والربط والاستنتاج إلى جانب الزخم الماتع الذي يخلقه شعوره بأن ثمة من تعتمل في ذهنه ذات الأفكار ويشاركه ذات النظرة نحو الأشياء ما يعزز من وجودها ويخلق كثافة عقلية تملأ الثقوب التي تنفذ من خلالها أسئلة مقلقة كلماذا وكيف؟
وفي إزاء الشعور الماتع الذي يعتري القارئ وهو يلتقط ثمار الكتب ويودعها سلة أفكاره ثمة ما هو أربى وأوفر لمن أوتي إلى جانب شغفه القرائي ملكَة الكتابة، إذ يتجاوز متعة تذوق الضوء نحو لذة خلق اللحظة التي تضيء قتامة الفرص ويقفز من مرتبة النظر نحو الكلمات التي تعلو وتهبط إلى صناعة أخرى دؤوبة وآسرة ومن موقع مراقبة جملة بدينة إلى اكتشاف ما تنطوي عليه من ألم ورغبة.
وكما أن المتعة التي يحظى بها القارئ تكمن في قدرته على التعاطي مع الدهشة المخبأة أسفل الطبقة الرقيقة للجمل المتسقة بإجلال وإكبار وإيلائها ما تستحق من التقدير والإبقاء على بريقها متوهجاً حتى يحظى بتلك اللحظة السحرية التي تثير حماسته وتشعره بالتجلي والاكتمال ليبدأ دوره في استدعاء حكمته الخاصة، فإن متعة الكاتب تكمن في قدرته على صناعة الدهشة وإطعامها لب القارئ وتتجلى من خلال براعته في وصف الموجودات الغامضة على نحو دقيق وجاذب، وهي عملية تكاملية يبني من خلالها القارئ والكاتب عالماً قرائياً مزدهراً وثرياً يجد فيه الأول خلاصاً من اغترابه النفسي فيما يسكن في روع الآخر قلقه الوجودي.
بيد أن تلك الثنائية المترعة بالشغف باتت تواجه تراجعاً لم تعهده منذ نشأتها في أواسط الألفية الرابعة قبل الميلاد، ففي ظل التطور التقني الذي تحول عن مزاحمتها العقل الجمعي إلى محاولة اقتلاعها منه بدءاً من تدفق القراء والكُتاب على حد سواء إلى الفضاء الافتراضي لمواكبة الثورة الرقمية لا من خلال تسليط الضوء على المنتج الأدبي واستبانته فحسب بل لمزاولة وقراءة الإبداع من خلال الوسيط الجديد، وليس انتهاءً بالوسائط الرقمية التي احتلت وقت القراءة وأبقت الذهن الجمعي على اتصال مستمر بمحفزاتها ما خفض جودة الانتباه وجعل قراءة كتاب تبدو أمراً شاقاً ومضنياً.
وقد استشرف المتخصصون المستقبل الذي تعكف التقنية على صياغته على صعيد القراءة ونمطها الجديد فمن خلال كتابها «أيها القارئ عد إلى وطنك» تصف الدكتورة «ماريان وولف» المتخصصة في علم الأعصاب الإدراكي وعلم اللغة النفسي التنموي في قراءة الدماغ، والتي عملت خلال العقدين الماضيين على دراسة عقل القارئ والعقبات التي تواجه تطوره والتحولات المغنية التي تطرأ على القارئ إبان انغماسه في قراءة كتاب ولكنها من خلال تحليلها الدقيق لبنية الدائرة المرنة للدماغ القارئ تخلص إلى «صعوبة استدعاء القارئ لذات التركيز أثناء قراءته من خلال الشاشات المضيئة والأجهزة الرقمية» وتؤكد بقاءه منجذباً إلى محفزات التقنية التي تجذرت في روعه وما يفضي إليه ذلك من بناء معرفي هش، ناهيك عن افتقاده إلى تفاعل ما دعته «القشرة الحسية الجسدية» التي يلامس القارئ من خلالها أوراق كتابه، مع «الخلايا العصبية الحركية في الدماغ» ما يقلل من قدرة العقل على التحليل وإنتاج الرؤى والأفكار الجديدة وكذلك هو الأمر بالنسبة للكاتب عطفاً على حاجته المستمرة إلى القراءة التي تمده بالقدرة على تطوير أدواته وإنتاج رؤاه.
ما يدل على أن قراءة الكتاب الورقي والأدب بشكل خاص بوصفه الأكثر ملامسة للشعور الإنساني تتحول في إزاء الزحف التقني الذي يزداد شراسة ويضيق الخناق على المخيلة البشرية وتتبدل أمام الرغبة المتوثبة لمواكبة التغيرات اللحظية والشعور المتنامي بحتمية التطوير وضرورة الاكتشاف من ملاذ آمن قادر على خلق رؤى نبيلة ومشعة تصعد بموجات التفكير والإحساس نحو مستوى عالٍ من الوعي والإدراك، إلى مسألة بالغة التعقيد تفرض على القارئ بذل جهد مضاعف للتخلص من قيود التقنية قبل أن يخلو بكتابه ويسافر إلى فضائه الداخلي.
وعطفاً على أن مخيلة القارئ تتطور بفعل العوامل الطبيعية والبيئية التي تحيط به بما في ذلك الطريقة التي يقرأ بها والتي تجغرف انتماءه إلى الدوائر المحيطة به معرفياً ولغوياً وفسيولوجياً فما يبدو أنه طفرة عشوائية أنتجت أبداعاً رقمياً تخلق فجأة ونما حتى شكل انزياحاً مهماً للمفهوم الأصيل ونحا به قسراً نحو جمل قصيرة ومعانٍ مقتضبة وصور وامضة لا تتجاوز طبقة العقل الرقيقة فخلق شكوكاً متزايدة حول صعوبة التفكير من خلال الكتاب الذي يبدو شاسعاً ورحباً إزاء عقارب الساعة اللاهثة، يبدو هذا الفضاء الافتراضي قد خلق قارئه وكاتبه الرقميين وسلالته القرائية وأشاع ثقافة رقمية ستنمو إلى أن تتلاشى قدرة الأدب على منح قصة هائمة في الهواء صوتاً لتتحدث به إلى القارئ وتجيبه عن تلك الأسئلة التي تملك في ذواتها حيوات خاصة وتذهب بعيداً في أعماقه وتتضاءل قدرة المعرفة على تعرية أيديولوجيا مارقة تهدد النسق البشري وتعادي نظمه.
فتمدد العالم الافتراضي بات على مقربة من البقع الأثيرة في عقلي القارئ والكاتب على حدٍّ سواء، وقد صبغ جزءاً كبيراً من مخيلتهما بلونه الأزرق وباتت محفزاته هاجساً يلتصق بذهنيهما وهو تغير حتمي إذا ما استمر فسيتحول إلى استعباد تقني وستتحول امتيازات القارئ والكاتب إلى انطوائية فكرية وعزلة اجتماعية تضيق من خلالها العاطفة وتتسع دائرة اللا اكتراث، وتنمو عبثية المعنى ولن يعود القارئ والكاتب الذي كاناه، ولذلك «لا يمكن معالجة الوضع الحالي، وإلى أن يحصل ما ننتظره لا بد لنا أن نكون حماة مميزات الكتاب» كما يرى «جيرالد بيسلي»، مدير المكتبات في جامعات ألبرتا الكندية.
والحقيقة أنه أياً كانت الأدوات المتطورة التي يملكها المقروء الرقمي وما سيصل إليه بفعل رقمنة الحياة، فهو لن يصبح شكلاً تعويضياً عن المكتبة والكتاب الورقي على الحد الأدنى للمعنيين والمهتمين بالبناء المعرفي الرصين الذي يبقي على امتيازات قارئه وافرة وغنية، ولكنه سيظل وجهةً في فضاء جاذب لقارئ يحاول مواكبة عصره الرقمي حتى إذا ما تفقد يوماً مخزونه المعرفي واختبر قدرته على الاستنتاج أدرك أنه بحاجة لأن يرفأ نسيج دماغه ويضيء عتمة الرقمنة بقبس ورقي؛ ولذلك فنحن معنيون جميعاً بحماية كل ما هو مطبوع لنبقي على الامتيازات التي يمنحنا إياها.