هل تمتلك القصيدة عقلاً؟ وما شكل هذا العقل؟ وأين يتبدَّى؛ أفي كلماتها، أم في أفكارها، أم هو مستتر في مقصود المتكلم؟ مجموعة من الأسئلة تنطرح على القصيدة وكاتبها، نتيجة انفتاحها على آفاق وكتابات مختلفة، حيث لغتها ما عادت مقتصرة على الموزون المقفَّى، أو الموزون غير المقفَّى، بل تسربت إلى النثر، فشاركته الصياغة، وفاقته في الترميز والمجاز.
للكتابة الشعرية لغة مختلفة عن الكتابة النثرية، ومهما تقاربت اللغتان، أو استخدمتا ذات الألفاظ، ستظلان بعيدتين عن بعضهما البعض، فالشعر يعتمد الإيجاز، وقطع المعنى، واستخدام الرمز، والتكثيف، بينما النثر يعتمد الاسترسال، والسهولة، وإكمال المعنى، وإيضاح الفكرة، وهذا لا يعني عدم تسرُّب خصائص الشعر للنثر، أو خصائص النثر للشعر، فربما وُجدت خاصية من خاصيات الشعر في الكتابة النثرية، وبالعكس، إذ الحدود امَّحت بينهما، أو كادت، وباب التأثر والتأثير مفتوح على مصراعيه.
الفرق الكبير بين الشعر والنثر؛ يتمثل في محاولة «إقناع» القارئ واستمالته، فحينما يأخذ الشعر بمجامع قلبه، مستدرًّا عطفه وشعوره، مستهدفاً التأثير فيه عبر التركيز على إثارته إثارة وجدانية متعمدة، يتجه النثر إلى العكس تماماً؛ فيخاطبُ عقله، لا وجدانه، طارحاً أمامه المسائل من وجهة نظر منطقية، بهدف الوصول إلى نتيجة نهائية، تؤيد الميل لرأي من الآراء، بحسب الأسباب والدواعي.
هذا الفرق هو ما يمنح كل نوع كتابي سِماته المميِّزة، فالحُجة والإقناع في حاجة إلى بسط الأدلة، والاسترسال في الحوار، والابتعاد عن التكثيف والترميز، مع سهولة التعبير، ووضوح العبارة، أمَّا نقل الأحاسيسِ والتعبيرُ عن المشاعر، فمن أصعب الأمور على المرء؛ إذ لا يتمكن من فعله إلا بعد جُهد ومشقة، لهذا يأتي تعبيره موجزاً، مقطوع المعنى في بعض العبارات، مستخدِماً الرمز والإيحاء، ومكثِّفاً قدر ما يستطيع.
نقلُ المشاعر وتفريغها ليس كنقل الأدلةِ وبسطِها، فالأولى تتعلق بأحاسيس المرء الداخلية، التي يصعب التعبير عنها، فيحارُ كيف يقوم بذلك! أمَّا الثانية فتتعلقُ بإثبات قضية، أو نفيها، تقع خارج حدود مشاعره وأحاسيسه؛ لهذا لا مشكلة لديه في التعبير عنها، وتأييدها أو رفضها.
«نقل المشاعر أو إثبات القضايا»، رغم اختلافهما في اللغة المستخدَمة، وطريقةِ تقديمها، يستهدفان القيام بذات الأمر، وهو إقناع المتلقي، فالكتابتان الشعرية والنثرية تلتقيان في هذه المنطقة، التي هي الغاية من الكتابة، وإن لم تُصرِّحا بذلك.
«إقناع» المتلقي هدف مشروع للكتابة، وليس هنالك كتابة لا تسعى إلى نوعٍ من الإقناع، إمَّا للآخرِ وهو الغالب، أو للذات؛ عبر التفريغ للمشاعر والأحاسيس الداخلية، التي لا يلزم أن يكون هدفُها الإقناعُ الإيجابي، فأحيانا يكون هدفُها الإقناعُ السلبي؛ الإيجابي كأشعار الحب والهُيام كما فعل المجنونُ حين تغزَّل بليلى، والسلبي كأشعار الفقد والأحزان كما فعل ابنُ الرومي حين رثى ولديه.
الكتابةُ النثرية يتبدَّى عقلها من خلال الأساليب الإقناعية الجادة؛ الهادفة إلى التأثير على المتلقي، وهو ما لا يتوافق مع الكتابةِ الشعرية، التي تبتعدُ عن أساليب البرهنة والحجاج، فلا تعتمدُ الاستقراءَ والاستنتاج أداتين للقياس، إنما تعملُ على التفريغِ الشعوري، والعاطفي.
الكتابةُ الشعرية يتبدى عقلها في «لا منهجيتها» الإقناعية، فهي وإن هدفت إلى التأثير على المتلقي، إلا أنها لا تستخدم الأساليب المنطقية الاعتيادية، بل لها أساليبها وطريقتها، التي لا تشبه طريقة النثر.
«منطق القصيدة»، أو «المنطق الشعري»؛ هو العقل الذي تتحرَّك بواسطته الكتابة الشعرية، فعبره تنسجم الأشعارُ وتتلاءم، ومن خلال التِئامها تتكاملُ وتتضح، إلى أن تنكشف الدلالات وتؤثر في المتلقي، الذي سيستقبلها دون النظر إلى ترتيبها، ودرجة قوتها وضعفها.
مقاييسُ العقول تختلفُ عن مقاييسِ الشعور، والقصيدة لا عقل لها، أو هكذا ستبدو للناظر، بينما تخفي داخلها عقلها، فأفضل القصائد وأكثرها جودة، تلك التي أجادت ترميز مشاعرها وتكثيفها؛ أي أجادت إخفاء منطقها وعقلها.